الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجمع بين الصبر والشكر يحتاجُ إلى كلامٍ أبسط من هذا، والمقصود هنا التنبيه على نعم الله التي تحصل بالمصائب، وبيان ما على العبد من الشكر في مصائبه.
*
الأصل الخامس:
أن المصيبة التي تحصلُ بسبب العمل الصالح هي أعظمُ قدرًا؛ فإنها من العمل الصالح الذي يثابُ عليه، كجُوعِ الصائم وعطَشِه، وكتعب المسافر في حجٍّ، أو جهادٍ، أو طلب علمٍ، أو هجرةٍ في سبيل الله، أو تجارةٍ يستعينُ بها على طاعة الله، فإنه ما يحصلُ له من تعبٍ، وجوعٍ، وعطشٍ، وسهرٍ، وخوفٍ، وذهاب مالٍ، ونحو ذلك، حاصلٌ بفعله الاختياري الذي يفعله لله، مبتغيًا به وجهَ الله، فهذا مع ما يحصلُ له من تكفير السيئات، يُكْتَبُ له به عملٌ صالح، بخلاف المصيبة التي لم تحصل عن طاعة الله، كما تقدم التنبيه على ذلك.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، ثم قال:{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 120 - 121]، فالإنفاق وقطعُ المسافة هي عملُهم القائم بذاتهم، فقال فيه:
{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} ، ولم يقل:"به عملٌ صالح"؛ فإنه نفسه عملٌ صالح، وأما ما تَقَدَّمه فإنه ليس هو عملهم القائم بذاتهم، ولكن تولَّد بسببه وسبب غيره.
ولهذا تنازع النُّظَّار في هذه الأعمال الحادثة بسبب فعلٍ اختياري من العبد، كالجوع، والعطش، والتعب، وخروج السَّهم من كبد القوس، وقطع العنق وزهوق الرُّوح عند تحريك اليد بالسِّلاح، كالسَّيف والسِّكِّين، ونحو ذلك
(1)
.
فقال من قال من القدريَّة والمعتزلة وغيرهم: إن هذا فعلٌ للعبد. وجعلوا أفعال العباد قسمين: مباشر، ومتولِّد. واحتجُّوا بأنه يثابُ على ذلك، ويعاقبُ عليه.
فقال لهم الجمهور: قد يحصل الثوابُ والعقابُ بما يحصلُ عن فعله، وإن لم يكن من فعله بالاتفاق، مثل من دعا إلى هدى، فإن له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا
(2)
، مع أن هدى هؤلاء وضلال هؤلاء هو باختيارهم، وهم يثابون عليه، ويعاقبون عليه
(3)
.
(1)
انظر: "منهاج السنة"(1/ 284، 3/ 338)، و"الصفدية"(1/ 150)، و"الرد على البكري"(431)، و"مجموع الفتاوى"(8/ 522، 17/ 531)، و"جامع المسائل"(7/ 43، 8/ 62).
(2)
أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: "درء التعارض"(9/ 31)، و"جامع المسائل"(4/ 267).
وفي الصَّحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تُقْتَلُ نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها؛ لأنه أول من سَنَّ القتل"
(1)
، مع أن قابيل عليه إثمُ قتل نفسٍ
(2)
.
وقال نفاة الأسباب والحكمة من مُثْبِتة القدر: بل هذه من أفعال الله تعالى التي ليس لقدرة العبد فيها تعلُّقٌ بوجهٍ من الوجوه.
قالوا: لأن قدرة العبد إنما تؤثِّر في محلِّها، ومحلُّ القدرة هو نفسُه وبدنُه، فأما ما خرج عن ذلك فليس محلًّا لقدرته، فلا يكون محلًّا لتأثيرها.
ولهؤلاء كلامٌ وتنازعٌ في تأثير قدرة العبد ليس هذا موضعه.
وهذا قول أبي الحسن ومن وافقه من المتكلمين والفقهاء، كالقاضي أبي بكرٍ ونحوه، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي الجويني، وأتباعهما.
وحُكِي عن بعض أهل الكلام أنه قال: هذا حادثٌ لا فاعل له
(3)
.
والصواب ــ مع قولنا: إن الله خالقُ كلِّ شيء، خلافًا للقدريَّة ــ أن هذه الحوادث حاصلةٌ عن فعل العبد، وعن الأسباب الأُخَر التي بها حصل ذلك، ففعلُ العبد مشاركٌ في حصولها، ليس مستقلًّا بحصولها؛ فإن الشِّبَع إنما يحصُل مع بَلْعِ الأكل ومَضْغِه، مع ما في الطعام من قوَّة التغذية، وما في المعدة والبدن من القبول لذلك، وهذا لا قدرة له عليه، فأكلُه مشارِكٌ في حصول
(1)
أخرجه البخاري (3335)، ومسلم (1677) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
الأصل: "نفسه"، وهو تحريف، أي: إثم قتل نفس واحدة.
(3)
حكي هذا عن ثمامة بن أشرس، من رؤوس المعتزلة. انظر:"الفرق بين الفرق"(95، 319، 328)، و"درء التعارض"(9/ 104).
الشِّبَع لا فاعلٌ للشِّبَع، ولم يحصُل الشِّبَعُ بدون أكله.
وكذلك هدى المهتدين، وضلال الضالين، حصل بسبب الدُّعاة، وبسبب استجابة المدعوِّين
(1)
، وكلاهما أثَّر في حصول الهدى والضلال.
وهذا بناءً على ثبوت الأسباب في المخلوقات، وأن الله سبحانه يخلقُ الأشياء بالأسباب. وهذا مذهبُ السَّلف والأئمَّة، وسائر أنواع أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، والعامة.
ولهذا قال تعالى في هذا النوع المتولِّد بسبب فعلهم وغير فعلهم:
{كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ، فلم يجعله نفسَ
(2)
عملهم كما قالت القدريَّة، ولم يجعله أجنبيًّا عن عملهم كما قالت نفاة الأسباب المُثْبِتة، بل أخبر أنه يُكْتَبُ لهم به عملٌ صالح؛ لمعاونتهم عليه.
كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "من جهَّز غازيًا فقد غزا، ومن خَلَفَه في أهله بخيرٍ فقد غزا"
(3)
، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:"من فطَّر صائمًا فله مثلُ أجره"
(4)
؛ لأنه أعان على ذلك، فحصل الصومُ بمال هذا وعمل هذا.
فإذا عُرِفَ هذا، فالأنبياء الذين بلَّغوا الرسالة، فحصَل
(5)
لهم بذلك
ظمأٌ ونَصَبٌ وأذى الخلق، يُكْتَبُ لهم بذلك عملٌ صالح، لا يكونُ أذى
(1)
الأصل: "المدعوابه". تحريف.
(2)
الأصل: "نفسه". تحريف.
(3)
تقدم تخريجه (ص: 329).
(4)
تقدم تخريجه (ص: 329).
(5)
الأصل: "يحصل". والمثبت أظهر.
الخلق مجرَّد مصيبةٍ لهم، كمن أوذي بغير عملٍ صالح عَمِلَه
(1)
.
وكذلك من أمَر بمعروفٍ ونهى عن منكر، فضُرِبَ أو شُتِمَ أو مُنِعَ حقَّه، فإنه يُكْتَبُ له من عمله الصالح الذي يؤجرُ عليه.
وكذلك المجاهد الذي جُرِحَ أو قُتِل، يُكْتَبُ له جرحُه وقتلُه من عمله الصالح، وإن لم يكن ذلك مِن فعلِه، بل بفعل العدوِّ الكافر.
وليس هذا كمن قُتِل مظلومًا غير مجاهد؛ فإن ذلك قُتِل بغير عملٍ صالح.
ولهذا كان الأولُ أعظمَ الشهداء، فلا يُغَسَّل باتفاق الأئمَّة، كما في الصَّحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه لما أُتِيَ بشهداء أحدٍ قال:"زَمِّلُوهم بكُلُومِهم ودمائهم؛ فإن أحدهم يأتي يوم القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دمًا، اللونُ لونُ الدم، والريحُ ريحُ المسك"
(2)
.
وليس هذا لكلِّ مقتولٍ ظلمًا؛ فإن هؤلاء قُتِلوا لمَّا اختاروا الجهاد في سبيل الله.
قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا
(1)
استدركها الناسخ في الطرة إلا أنه رسمها: "علمه"، وهو تحريف.
(2)
أخرجه أحمد (23657)، والنسائي (2002)، وغيرهما من حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه، وخرجه الضياء في "المختارة"(9/ 115). وأصله في البخاري (1343)، وهو أصح. وفي إسناده اختلاف. انظر:"العلل" لابن أبي حاتم (1105)، و"العلل" للدارقطني (13/ 373)، و"التتبع"(368)، و"هدى الساري"(356).
وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} الآية [آل عمران: 195]، فأخبر أنه يكفِّر عنهم السيئات، وأنه يُدخِلهم الجنَّات، ثوابًا من عنده، والثوابُ على العمل.
وأطلَقَ الثوابَ، ولم يقل: على بعض ما ذُكِر، بل الثوابُ مطلق، مع أنه ذَكَر مع هجرتهم التي هي حركةٌ اختياريةٌ كونَهم أُخرِجوا من ديارهم؛ فإن ذلك إكراهٌ لهم على الخروج، فهم اختاروا مفارقة الكفَّار ليُقِيموا دينَهم، ولكنَّ الكفَّار بعداوتهم أكرهوهم على هذه المهاجَرة، وإن لم يقصدوا هم إخراجَهم، لكنَّ عداوتَهم ألجأتهم إليها.
ثم قال تعالى: {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} ، وهذا مِن فعلِ غيرهم. ثم قال:
{وَقَاتَلُوا} وهذا فعلُهم، {وَقُتِلُوا} وهذا مِن فعلِ غيرهم.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]، فوعَدَه بالأجر العظيم على كلا التقديرَين.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4]، وفيها قراءتان مشهورتان:{قُتِلُوا} و {قاتَلوا}
(1)
.
وأيضًا، فالشهيدُ يُثْنَى عليه بالشهادة، ومعظمُ الشهادة إنما حصَل بفعل الكافر، وهو قتلُه للشهيد، فلو لم يكن للشهيد في كونه قُتِلَ عملٌ يثابُ عليه لكان قتلُه مصيبةً من المصائب التي تُكَفَّر بها الخطايا ولا يثابُ عليها، لكن [يثابُ] على الصبر عليها، مع أنه بعد الموت لا يؤمرُ بصبرٍ.
(1)
قرأ بالأولى أبو عمرو وحفص عن عاصم، وبالثانية الباقون. انظر:"السبعة" لابن مجاهد (600)، و"الحجة" لأبي علي (6/ 190).