المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأصل الرابع: - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي "الكلام" الذي ذمَّه الأئمَّة والسَّلف

- ‌التحقيق أن الذي نهى عنه السَّلف هو الكلام المبتدَع

- ‌الكلام المبتدَع المذموم هو الذي ليس بمشروعٍ [ولا] مسنون

- ‌لم ينكر السَّلفُ مجرَّد إطلاق لفظٍ له معنًى صحيح

- ‌مسألةفي مذهب الشافعي في القرآن وكلام الله

- ‌مسألةفي الأولياء والصالحين والأقطاب والأبدالورجال الغيب

- ‌ الحكمة في ابتلاء الكُبراء بالذنوب

- ‌ الجهل، والظلم ــ مبدأ الفتن والشرور

- ‌فصلفي الكلام على الاتحادية

- ‌مسألةفي الأفعال الاختيارية من العباد

- ‌ تاريخ المسألة ومكانها

- ‌ فعلُ العبد خلقٌ لله وكسبٌ للعبد

- ‌حُسْنُ المسألة نصفُ العلم إذا كان السائلُ قد تصوَّر المسؤول

- ‌ هل قدرةُ العبد المخلوقة مؤثرةٌ في وجود فعله

- ‌ كيف انبنى الثوابُ والعقابُ(1)، وصحَّ تسميتُه فاعلًا حقيقةً

- ‌في هذا المقام تاهت عقولُ كثيرٍ من الخلائق

- ‌ سبب الفرق بين الخلق والكسب

- ‌ضلَّ بالأسباب خلقٌ كالتراب

- ‌لا يضافُ الفعلُ إلى الأداة، ولا يُجْعَلُ وجودُها كعدمها

- ‌ الأمر والنهي لا بدَّ للناس من معرفته مفصَّلًا

- ‌ليس في الأسباب ما هو مستقلٌّ

- ‌مسائل عقدية

- ‌ كرامات الأولياء

- ‌يأجوج ومأجوج

- ‌ سببُ حياء الملائكة من عثمان

- ‌العدم المحض لا يُسْتَحَقُّ به الثواب

- ‌الفسادُ المطلق يتناول إرادة العلوِّ

- ‌المدحُ بالأمور العدميَّة لا يكونُ إلا لأنها تستلزم أمورًا وجودية

- ‌النفس طبيعتُها الحركة

- ‌{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} استثناءٌ منقطعٌ في أصحِّ القولين

- ‌العبادة تجمع الحبَّ والخضوع

- ‌أصل كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة الخوفُ من الله

- ‌الإنسان ضعيفٌ جبَّار، ضعيفُ القدرة جبَّارُ الإرادة

- ‌فصلٌفي الكلام على آياتٍ من سورة الشورى

- ‌ الجمع بين العبادة والاستعانة والتوكل والإنابة

- ‌ خصَّ التوكل بالذكر لوجهين:

- ‌الشهوة الظاهرة شهوةُ البطن والفرج

- ‌مبدأ البغي من البغض والنُّفرة والغضب

- ‌فصلفي تفسير سورة المسد

- ‌الرجلُ في الجملة أشرفُ من المرأة

- ‌العطفُ على الضمير المرفوع مع الفصل عربيٌّ فصيح

- ‌مسألةفي تفسير استعاذة النبي صلى الله عليه وسلممن الهمِّ والحزن، والعجز والكسل

- ‌البخل والجبن" قرينان

- ‌ضِلَع الدين وغلبة الرجال" من جنسٍ واحد

- ‌مسائل حديثية

- ‌ حديث "الصَّلاة في أول الوقت رضوانٌ من الله

- ‌مسألةفي حكم صوم الدهر

- ‌ الشوق فرعُ الشعور، ومن لم يشعُر بالشيء لم يشتق إليه

- ‌رسالةإلى القاضي محمد بن سليمان بن حمزة المقدسيفي حاجة الناس إلى مذهب الإمام أحمدومسألة ضمان البساتين

- ‌لو أنفقتُ ملء القلعة ذهبًا شكرًا على هذه النعمة كنتُ مقصِّرًا

- ‌ مسألة(3)المساقاة والمزارعة

- ‌ لا يُلْزَم الزوجُ بالصَّداق المؤخَّر حتى يحصُل بينهما فُرقةٌ بموتٍ أو طلاق

- ‌ إثبات الجائحة في المَزارع إذا أُكْرِيَت الأرض بألفٍ، وكان بالجائحة يساوي كِرَاها تسعمئة

- ‌الجهاد لا بدَّ فيه من اجتهاد

- ‌فصلإذا استأجر أرضًا لينتفع بها فتعطلت منفعتُها

- ‌ إذا تعطَّلت المنفعةُ المستحَقَّة كلُّها سقطت الأجرة كلُّها

- ‌فصلفي انعقاد النكاح بأي لفظٍ يدلُّ عليه

- ‌إذا أعلنَا النكاحَ، ولم يكتماه

- ‌قاعدةالاعتبار بموجب اللفظ والمعنى

- ‌ إذا عبَّر عن المعنى بأيِّ لفظٍ دلَّ على معناه انعقد به العقدُ

- ‌معنى اللفظ هو ما يَعْنِيه(3)المتكلِّمُ، أي: يَقْصِده ويريده

- ‌فصلالشُّروط في النكاح

- ‌لو تزوَّج المرأة مدَّةً

- ‌إذا تزوَّجها على أنه إن أحبَلَها إلى عامٍ وإلا فلا نكاح بينهما

- ‌سؤال منظومفي حكم الرقص والسَّماع وجوابه

- ‌فصلفي دفع صِيَال الحراميَّة

- ‌وإن قُتِل الدافعُ كان شهيدًا

- ‌وكذلك إذا دخل الحراميُّ إلى داره

- ‌مسائل فقهية

- ‌[الطهارة]

- ‌[الصلاة]

- ‌[الجنائز]

- ‌[الزكاة]

- ‌[الصيام]

- ‌[البيع]

- ‌[الشركة]

- ‌[الإجارة]

- ‌[الغصب]

- ‌[الوقف]

- ‌[الهبة والعطية]

- ‌[الفرائض]

- ‌[النكاح]

- ‌[الطلاق]

- ‌[ما يلحق من النسب]

- ‌[الرضاع]

- ‌[النفقات]

- ‌[الحدود]

- ‌[القضاء]

- ‌قاعدةفي الصبر والشكر

- ‌ الأصل الثاني:

- ‌ الأصل الثالث:

- ‌ الأصل الرابع:

- ‌ الأصل الخامس:

- ‌[الأصل] السادس:

- ‌ الأصل السابع:

- ‌جزءٌ فيه جوابُ سائلٍ سأل عن حرف "لو

- ‌الجواب مرتَّبٌ على مقدمات:

- ‌المقدمة الثانية:

- ‌ المقدمة الثالثة:

- ‌المقدمة الرابعة:

- ‌مسألةفي الانتماء إلى الشيوخ

- ‌مسائل متفرقة

- ‌ هل يجوز لوليِّ الأمر أن يُستفتَى

- ‌ شروط القاضي

الفصل: ‌ الأصل الرابع:

وإلا لم تكونوا من أعداء الإسلام"، أو نحو هذا الكلام

(1)

.

وبهذا ظهر لك بعض ما وصف الله به نوحًا وإبراهيم من الشكر.

قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، مع أنه مكث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى التوحيد، ويصبر منهم على الأذى، فكان من أعظم الناس شكرًا على نعمة الله، لا سيما نعمة الإيمان.

وكذلك الخليل قال تعالى فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} الآية [120 - 121].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26].

*‌

‌ الأصل الرابع:

أن تعلم أن المصائب نعمة، وذلك لأنها مكفِّراتٌ للذنوب، ولأنها تدعوه إلى الصبر، فيثابُ عليها، ولأنها تقتضي الإنابة إلى الله، والذُّلَّ له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.

ولكنَّ الخير بها نوعان:

أحدهما: يحصل بها نفسها.

والثاني: يحصل بما يفعله المؤمنُ معها من العمل الصالح.

* أما الأول، ففي الصَّحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما يصيبُ المؤمن

(1)

انظر: "الاستيعاب"(3/ 1036)، و"الإصابة"(7/ 96).

ص: 403

من وَصَبٍ ولا نصَب، ولا همٍّ ولا حزَن، ولا غمٍّ ولا أذى، حتى الشوكة يُشاكُها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه"

(1)

.

وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، قال أبو بكرٍ: يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظَّهر، وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟! قال: "يا أبا بكر، ألستَ تَنْصَب؟ ألستَ تحزن؟ ألستَ يصيبك اللأواء

(2)

؟ فذلك مما تُجْزَون به"

(3)

.

وفي الصَّحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثلُ المؤمن مثلُ الخامة من الزَّرع تُفِيئها الرياح، تُقِيمها

(4)

تارة، وتُمِيلها أخرى. ومثلُ المنافق مثلُ شجرة الأرز، لا تزال قائمَّة على أصلها، حتى يكون انجعافُها مرةً واحدة"

(5)

.

وفي المسند

(6)

والترمذي وغيرهما أنه قيل: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلى الرجلُ على

(1)

تقدم تخريجه (ص: 388).

(2)

الشدة وضيق المعيشة. وتحرفت في الأصل إلى "البلاء"، وهي على الصواب في سائر كتب المصنف.

(3)

أخرجه أحمد (68)، وصححه ابن حبان (2910)، وفي إسناده ضعف، لكن له طرقًا وشواهد يصحُّ بها. وانظر بسط تخريجه في التعليق على التفسير من سنن سعيد بن منصور (4/ 1381 - 1392).

(4)

في طرة الأصل: "تقومها"، وفوقها "ن" إشارة إلى نسخة أخرى، وليس أحد منهما في رواية الصحيح، والحديث مروي بألفاظ كثيرة من تصرف الرواة.

(5)

أخرجه البخاري (5643)، ومسلم (2810) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

(6)

الأصل: "مسند".

ص: 404

حسب دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زيد في بلائه، وإن كان في دينه رخاوةٌ خُفِّفَ عنه، ولا يزال البلاءُ بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة"

(1)

.

وفي الحديث: "من يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه"

(2)

.

وفي الحديث أن ابن مسعودٍ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنك لتُوعَكُ وعكًا شديدًا، قال:"أجل، أوعَك كما يوعَك رجلان منكم، لأن لي الأجر مرتين"

(3)

.

فهذه النصوص وأمثالُها تبيِّن أن نفس البلاء يكفِّر الله به الخطايا، ومعلومٌ أن هذا من أعظم النعم.

ولو كان الرجلُ من أفجَر الناس فإنه لا بدَّ أن يخفِّف الله عذابه بمصائبه، ولو قُدِّر كافرًا، فإذا كان الكافران سواءً في الكفر، وابتُلِي أحدُهما في الدنيا بمصائب، كان عقابُه في الآخرة دون عقوبة الذي لم يُعاقَب في الدنيا، مثل فرعون، فإنه من أشدِّ الناس عذابًا في الآخرة، إذ كان لم يُبْتَل في الدنيا.

فالمصائبُ رحمةٌ ونعمةٌ في حقِّ عموم الخلق، اللهم إلا أن يَدْخُل صاحبُها بسببها في معاصي أعظمَ مما كان قبل ذلك، فتكون شرًّا عليه من جهة ما أصابه في دينه.

فإن من الناس من إذا ابتُلِي بفقرٍ، أو مرضٍ، أو جوع، حصل له من الجزع، والسَّخط، والنفاق، ومرض القلب، أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض

(1)

أخرجه أحمد (1481)، وابن ماجه (4023) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وصححه الترمذي (2398)، وابن حبان (2900).

(2)

أخرجه البخاري (5645) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (5648)، ومسلم (2571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 405

الواجبات، وفعل بعض المحرمات = ما يوجبُ له ضررًا في دينه بحسب ذلك. فهذا كانت العافية خيرًا له، من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبةُ صبرًا وطاعةً كانت في حقه نعمةً دينية.

فهي بعينها فعلُ الربِّ عز وجل رحمةً للخلق، والله محمودٌ عليها، فإن اقترن بها طاعةٌ كان ذلك نعمةً ثانيةً على صاحبها، وإن اقترن بها معصيةٌ كان ذلك من نفس صاحبها، وكان ذلك تحقيقًا لما قدَّمناه أنَّ ما ثَمَّ شرٌّ إلا الذنوبُ وعقوباتها.

* وأما الخير الذي يحصل للمؤمن بالمصيبة، فهذا مما تتنوَّع فيه أحوالُ الناس، كما تتنوَّع أحوالُهم في العافية.

وقد قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} الآية [البقرة: 214]، وقال:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} الآيتين [البقرة: 155 - 156].

فقد أنكر سبحانه على من حسب أنهم يدخلون الجنة بدون الابتلاء بالبأساء وهي الفقر في الأموال، والضرَّاء وهي المرض في الأبدان، وحين البأس والزلزال وهو الخوف من الأعداء

(1)

.

قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} ، فجعل الصبر في

(1)

انظر: "مجموع الفتاوى"(10/ 41، 28/ 460).

ص: 406

هذه المواطن الثلاثة من تمام البر والتقوى الذي به يتمُّ الإيمان، كقوله

(1)

تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية [البقرة: 177]، وكذلك قوله تعالى في الآية الأخرى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، فالبشرى وقعت للصابرين.

فمن ابتُلِي، فرُزِق الصبر، كان الصبرُ نعمةً عليه في دينه، وحصل له بعد ما كُفِّر من خطاياه رحمةٌ، وحصل له بثنائه على ربه صلاةُ ربه عليه، حيث قال:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، فحصل له غفرانُ السيئات، ورفعُ الدرجات، وهذا من أعظم النعم.

فالصبر واجبٌ على كلِّ مصاب، فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك.

وأما الرضا، فمستحبٌّ في أصحِّ القولين

(2)

، فمن قام به كان ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وقد قال عبد الواحد بن زيد:"الرضا جنَّة الدنيا، وباب الله الأعظم"

(3)

.

* ومن الواجبات التي قد تحصل بالمصيبة: التوبة؛ فإن الله يبتلي العباد

(1)

الأصل: "لقوله". تحريف.

(2)

انظر: "الاستقامة"(2/ 74)، و"منهاج السنة"(3/ 204)، و"الفتاوى"(8/ 191، 10/ 40، 682، 11/ 260)، و"جامع الرسائل"(2/ 380)، و"جامع المسائل"(8/ 267)، و"الفروع"(3/ 398).

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في "الرضا عن الله بقضائه"(13)، ومن طريقه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 156)، والقشيري في "الرسالة"(2/ 342).

ص: 407

بعذاب الدنيا ليتوبوا من ذنوبهم.

قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وقال تعالى:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148].

فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه.

* وأيضًا، فمن الخير الذي يحصل بها: دعاء الله والتضرُّع إليه.

كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42 - 43]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].

ودعاء الله والتضرُّع إليه من أعظم النعم.

فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين؛ فإن صلاح الدين في أن يُعبد الله، ويُتَوكَّل عليه، ولا يُدْعَ مع الله إلهٌ آخر، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة.

فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده، وتطيع رسله، بفعل المأمور وترك المحظور، كنتَ ممن يعبد الله.

ص: 408

وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضرُّ به، كان هذا من أعظم نعم الله عليك.

[وهذا] كثيرًا ما يحصُل بالمصائب؛ [لأمرين]

(1)

:

* أما الأول، فإن المصيبة يَرِقُّ معها القلبُ ويخشع، وتَذِلُّ النفسُ، فتنقاد لفعل المأمور وترك المحظور.

وأما مع حصول الرياسة، والمال، والعافية في النفس والأهل، فإن

{الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، والنفس حينئذٍ لا تستجيبُ لفعل المأمور وترك المحظور، بل تتعدَّى الحدود، وتنتهك المحارم، وتضيِّع الواجبات الباطنة والظاهرة، من الإخلاص، والتوكُّل، والصبر، والشكر، وحقوق الرب عز وجل

(2)

وحقوق عباده، ويحصل لها من الاستكبار، والخيلاء، والإعجاب، والرياء، ما هو من أضرِّ الأمور بها.

* وأما الثاني، فلأن المصيبة توجبُ قطعَ تعلُّق قلبه بالمخلوق إذا أيِسَ [من] زوالها بالمخلوق، كالمرض الذي أعيا الأطبَّاء، والفقر الذي لم يرجُ

(3)

معه أحدًا يزيله، والخوف الذي ليس فيه نصرٌ لمخلوق

(4)

.

والنفسُ تطلبُ جلبَ المنفعة ودفعَ المضرَّة من حيث ترجو ذلك، ولو

(1)

ما بين المعقوفات زيادات تقديرية لالتئام السياق.

(2)

سقطت الجملة من الأصل، واستدركتها من نسخة المحمودية (ق 30/أ).

(3)

الأصل: "يرجوا".

(4)

كذا في الأصل، أي: نصرٌ من مخلوق.

ص: 409

كان بتوهُّمٍ

(1)

وخيال، فبهذا

(2)

يَغْلِبُ عليها الشركُ أولًا بتعلُّقها بمن

(3)

ترجوه لجلب المنفعة كتحصيل

(4)

الرِّزق، أو لدفع المضرَّة كقهر العدو، بمثل الإخوان والأصدقاء، ومثل الأقارب

(5)

والجيران، ومثل الملوك والولاة والقضاة، ومثل المشايخ والعلماء، ومثل قبور الصالحين والأنبياء. فإذا أيِسَت من الخلق أقبلت على الله، فدَعَت الله مخلصةً له الدين، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} الآية [يونس: 12]

(6)

.

* ومن الخير الذي قد يحصل بالمصائب: [أنه] إذا حصلت له التوبة، والإنابة إلى الله، والاستكانة له، والتضرُّع = ذاق طعمَ الإيمان، ووَجَد حلاوة حبِّ الله ورسوله، فعَظُمَ إيمانُه علمًا وعملًا، وذاق من حلاوة ذلك ولذَّته ما لم يكن ذاقه قبل ذلك؛ لأن هوى النفس وعاداتها

(7)

الفاسدة كانت حجابًا له عن ذَوْقِ طعم الإيمان وَوَجْدِ

(8)

حلاوته، فلمَّا حصل البلاءُ أزال هوى النفس، فارتفع الحجاب، وذاق العبد حلاوة الإيمان.

(1)

الأصل: "توهم". والمثبت أشبه.

(2)

الأصل: "فهذا". وما أثبت أظهر.

(3)

الأصل: "بتعلق من". ولا يستقيم.

(4)

الأصل: "وتحصيل". تحريف.

(5)

الأصل: "الارقاب". من سهو الناسخ.

(6)

انظر: "الرد على الشاذلي"(11)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 650).

(7)

الأصل: "عادتها". والمثبت من نسخة المحمودية.

(8)

المراد بالوجد هنا الوجود والوجدان، كما فسَّره ابن القيم في "مدارج السالكين"(2952)، لا الوجد الذي هو لهيب القلب. وهو استعمال مولد يقع في كلام ابن تيمية وغيره. انظر:"مجموع الفتاوى"(10/ 327)، و"جامع المسائل"(1/ 128).

ص: 410

مثل رجلٍ كان يُدْعى إلى أنواعٍ من المآكل الطيبة، والصور الجميلة، فلا يجيبُ إلى ذلك؛ اشتغالًا بما اعتاده في بلده من المآكل الرديَّة، والمناكح الرديَّة، فأسَرَه عدوُّه أو حَبَسه، وجعل يُطْعِمه في سجنه من تلك المآكل الطيبة، وأنكَحه من تلك المناكح التي كانت في بلده، وكان يُنْكِرها أولًا، فذاق ما لم يكن ذاقه، فلما أخرجوه من السجن، وأطلقوه من الأسر، أقام عندهم في بلدهم ولم يرجع إلى بلده؛ لما وجده من الطِّيب الذي لم يكن ذاقه، لا سيَّما إذا كان دينُهم خيرًا من دينه، فيذوق حلاوة الدين والدنيا، كما يحصلُ لكثيرٍ من التَّتر إذا أسَرَهم المسلمون أو استرقُّوهم، ثم نقلوهم إلى عسكر المسلمين، فيذوقون في الرقِّ والأسر من حلاوة الدين والدنيا ما لم يكونوا يذوقونه في أوطانهم وهم أحرارٌ طلقاء.

والمرض سِجنُ الله، وكذلك سائر المصائب إذا رُزِق العبد فيها الإنابة حصل له من ذَوْقِ طعم الإيمان ووجود

(1)

حلاوته ما لم يكن ذاقه، لا سيَّما إن حصل له مع ذلك نعيمٌ في بدنه ومسكنه، فيكون قد جمع نعيمَ الدين والدنيا هذا في نعمةٍ حاضرةٍ محسوسة.

فعليه أن يشكر الله سبحانه وإن كان مأمورًا بالصبر؛ فإن العبد في الحال الواحدة مأمورٌ بالصبر والشكر، فيصبر لما يجدُه من المرض، ويشكر لما يراه من النعمة الظاهرة.

فعليه أن يصبر فيها على أداء الواجبات، وترك المحرمات؛ فإن النعمَ

(1)

كذا في الأصل، وهو الجادة، ويقع كذلك في مواضع من كتب ابن تيمية، وأخشى أن يكون من إصلاح النساخ أو الناشرين. انظر:"اقتضاء الصراط"(2/ 220)، و"جامع الرسائل"(2/ 363)، و"جامع المسائل"(8/ 253)، وغيرها.

ص: 411

الظاهرة من المال والعافية والانتصار على العدوِّ تَبْسُط

(1)

هوى النفس، فيحصُل لها [من] العدوان والطغيان، والظلم والفواحش، والإعراض عما يجب عليها لله من حقيقة العبودية، والإخلاص له، والتوكُّل عليه، والخوف منه، والإنابة إليه = ما هو من أعظم الضرر في حقِّها.

فإن لم يصبر في السَّرَّاء وإلا هَلَك.

والصبر في السَّرَّاء أعظمُ الصَّبْرَين، كما قال عبد الرحمن بن عوف:"ابتُلِينا بالضرَّاء فصبرنا، وابتُلِينا بالسرَّاء فلم نصبر"

(2)

.

وقال بعض العارفين: "البلاء يصبر عليه المؤمن، ولا يصبر على العافية إلا كلُّ صدِّيق"

(3)

.

وإذا ابتُلِي بمصيبةٍ ظاهرةٍ فعليه الشكر، كما قد بسطنا الكلام فيه، وهو أعظمُ الشُّكريْن.

والشكر في الضرَّاء واجب، وأما الشكر في السرَّاء والصبر في الضرَّاء فوجوبُه ظاهرٌ لعموم الناس.

وإنما المقصود أنه لا بدَّ من الشكر والصبر في كلِّ حال، وهذا يكون على وجهين:

* أحدهما: أنه في الحال الواحدة يُبتلى بنعمةٍ توجبُ شكرًا، ومحنةٍ

(1)

مهملة مشتبهة في الأصل.

(2)

أخرجه هناد في "الزهد"(2/ 397)، والترمذي (2464) وقال:"هذا حديثٌ حسن"، وخرجه الضياء في "المختارة"(3/ 123).

(3)

انظر: "قوت القلوب"(1/ 331)، و"الإحياء"(4/ 69).

ص: 412

توجبُ صبرًا.

والعبد في كلِّ حالٍ هو في نعم الله التي توجبُ الشكر، وهو محتاجٌ إلى الصبر على فعل المأمور مع مخالفة هواه، وترك المحظور مع مخالفة هواه، والصبر على المقدور مع جزَع النفس.

وليس للعبد حالٌ إلا وهو مأمورٌ فيها بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.

وهذه الثلاثة فرضٌ على كلِّ أحد، محتاجٌ إليها في كلِّ وقت، ولا يكون العبد من المؤمنين المتقين إلا بها، والناس يتفاضلون في هذا بحسب تفاضلهم فيها، وبها يصير العبد من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وحزبه الغالبين.

* والثاني: أن نفس الأمر الواجب يتضمَّن نعمةً توجبُ شكرًا، أو يتضمَّن ألمًا يوجبُ صبرًا، فعليه أن يكون في ذلك الأمر الواحد صابرًا شاكرًا، كالذي يشرب الدواء الكَرِيه، فعليه أن يصبر على مرارته، ويشكر الله إذ يسَّر له ما يزيلُ عنه مرضه.

والله تعالى محمودٌ على كلِّ حال، وفي الحديث:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمرُ الذي يُسَرُّ به قال: الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وإذا أصابه الأمرُ الذي يكرهُه قال: الحمد لله على كلِّ حال"

(1)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه (3803)، والطبراني في "الأوسط"(6663) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (1/ 499)، والبوصيري في "مصباح الزجاجة"(3/ 192)، وجوَّد إسناده النووي في "الأذكار"(320)، وليس كذلك، فإنه من رواية زهير بن محمد التميمي، وفي حديث أهل الشام عنه مناكير، وهذا منها.

وروي مرسلًا من وجه آخر. أخرجه أبو داود في "المراسيل"(532)، وقال:"روي متصلًا، وفيه أحاديث ضعاف، ولا يصح".

وله شواهد من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، لا يصحُّ منها شيء، والقول فيه ما قال أبو داود رحمه الله.

ص: 413