الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زوالَ النافع، والثاني يخافُ حصولَ الضارِّ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شرُّ ما في المرء شُحٌّ هالِع، وجبنٌ خالِع"
(1)
، وكلاهما يكونُ من ضعف النفس وهلعها.
* و"
ضِلَع الدين وغلبة الرجال" من جنسٍ واحد
؛ فإن المقهور تارةً يُقْهَرُ بحقٍّ، وهو المغلوب، وهو الذي ضَلَعه الدَّينُ، وتارةً بباطل، كرجالٍ اجتمعوا عليه فغلبوه.
وهذان كلاهما عاجزٌ مقهور، الأول عاجزٌ مقهورٌ بحقٍّ غَلَبه، عليه أن يؤدِّيه، وهو لا يقدِر، والثاني هو عاجزٌ مقهورٌ برجالٍ يعارضونه ويغلبونه حتى يمنعوه من مصالحه وأشغاله.
وقد رتَّبه النبي صلى الله عليه وسلم ترتيبًا محكمًا:
فالهمُّ والحَزَنُ متعلقان بالمصائب، مثل فوات مطلوبٍ وحصول مكروه.
والعجزُ والكسلُ متعلقان بالأفعال التي يُؤْثِرُها، وهي نافعةٌ له، فإذا لم يفعلها حصل له الضرر، ويكونُ تركُها لعجزٍ أو كسل.
(1)
أخرجه أحمد (8010)، وأبو داود (2511) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسندٍ حسن، وصححه ابن حبان (3250)، وقال ابن طاهر:"إسناده متصل، وهو من شرط أبي داود، وقد احتجَّ مسلمٌ بموسى بن علي عن أبيه عن جماعةٍ من الصَّحابة"، كما في "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (4/ 89)، ويشبه أن يكون من كتاب "الكشف عن أحاديث الشهاب" لابن طاهر، والزيلعي كثير النقل عنه، والحديث في مسند "الشهاب"(1338). وجوَّده العراقي في "المغني عن حمل الإسفار"(910).
وهذه الأربعة تتعلَّق به في نفسه، فمحلُّها
(1)
نفسُ الإنسان.
وأما البخلُ والجبنُ، وضِلَعُ الدَّين وغلبةُ الرجال، فإنها تتعلق بأمورٍ منفصلة عنه، الأوَّلان يتعلقان بإرادته للأمور المتصلة، والآخران يتعلقان بقدرته على الأمور المنفصلة.
كما أن الأربعة الأُوَل: الأوَّلان يتعلقان بالمحبوب والمكروه، والآخران يتعلقان بالمقدور عليه والمعجوز عنه.
فالبخيل الذي لا يريدُ أن يبذل ما ينفعُ الناس؛ لعدم إرادته الإحسانَ إليهم، أو لخوفه من إخراج النافع منه
(2)
، أو لبغضه
(3)
للخير وحسده للناس.
والجبانُ الذي لا يريدُ دفعَ المضرَّة؛ خوفًا من حصول ما يضرُّه، وزوال ما ينفعُه، فيقعُ في أعظم الضررين خوفًا من أدناهما، إما جهلًا بحقيقة ما ينفعُه ويضرُّه، وإما ضعفَ نفسٍ بهَلعٍ
(4)
يخلعُ قلبَه.
والجبنُ والبخلُ متعلقان بما في النفس من إرادةٍ وكراهة، وقوةٍ وضعف.
وأما ضِلَعُ الدين وغلبةُ الرجال فكلاهما هو مما يكون في المرء مقهورًا بغيره، قد عجَّزته الأمورُ المنفصلة عنه، ليس من عجزٍ حصَل في نفسه ابتداءً،
(1)
الأصل: "محلها". والمثبت أشبه.
(2)
كذا في الأصل. أي: خوفه من ذهاب ماله إذا أنفقه. انظر: "الرد على الشاذلي"(90).
(3)
رسمها في الأصل قريب من "لتنقصه"، والمثبت أقوم، كما وقع في موضعٍ آخر من كلام المصنف. انظر:"مجموع الفتاوى"(10/ 591).
(4)
الأصل: "ضعف بنفس هلع". من سهو الناسخ.
فالدَّين: مطالبةُ
(1)
الغرماءِ به مع عجزه عن الوفاء له، وقهرُه: الرجالُ الغالبون يعجِّزون القادرَ ويمنعونه ويقهرونه.
فهذه الأمور التي استعاذ منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها من الحِكَم الجوامع التي تجمعُ أنواع الشرِّ المستعاذ منه، المتعلقة بنفس الإنسان، وأعماله الباطنة والظاهرة = ما هو مصدِّقٌ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أوتيتُ جوامعَ الكَلِم"
(2)
، والله أعلم
(3)
.
تمت، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(1)
كذا رسمت في الأصل: "مطالبه". ويحتمل أن يكون الصواب: "يطالبه".
(2)
أخرجه البخاري (7013)، ومسلم (523) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انتفع ابن القيم رحمه الله بهذا الجواب، ولخص مقاصده في كتبه "مفتاح دار السعادة"(313)، و"طريق الهجرتين"(606)، و"روضة المحبين"(61)، و"بدائع الفوائد"(714)، و"زاد المعاد"(2/ 358).