الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم أبو الطيب الطبري وله في ذم الغناء والمنع منه كتاب مصنف.
ثم قال ابن الجوزي «ص 245» : فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم وإنما رخص في ذلك من متأخريهم من قل علمه وغلبه هواه وقال الفقهاء من أصحابنا [الحنابلة]: «لا تقبل شهادة المغني والرقاص والله الموفق» .
[تحريم آلات الطرب ص (126)]
حكمة تحريم آلات الطرب والغناء
يجب عليك أيها المسلم أن تعتقد أن الله في كل ما شرع لعباده من أمر أو نهي وإباحة - حكمة بل حكما بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها تظهر لبعضهم وتخفى على آخرين ولذلك فالواجب على المسلم حقا أن يبادر إلى طاعة الله ولا يتلكأ في ذلك حتى تتبين له الحكمة فإن ذلك مما ينافي الإيمان الذي هو التسليم المطلق للشارع الحكيم ولذا قال عز وجل في القرآن الكريم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وعلى هذا عاش سلفنا الصالح فأعزهم الله وفتح لهم البلاد وقلوب العباد ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها ولقد كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قصب السبق فيه وكان مثالا صالحا لغيره كما يدل على ذلك موقفه الرائع في قصة صلح الحديبية فيما رواه سهل بن حنيف رضي الله عنه قال:
صحيح أيها الناس اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا - وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين - فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: «بلى» قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال: «بلى» قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: «يا
ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا».
قال: فانطلق عمر - فلم يصبر متغيظا - فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا.
قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ «الفتح» فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: «نعم» فطابت نفسه ورجع.
أخرجه البخاري «3182 - فتح» ومسلم 5/ 175 - 176 والسياق له وأحمد 3/ 486 وفي رواية لهما عنه: أيها الناس اتهموا رأيكم.
وهي لسعيد بن منصور 3/ 2 / 374 وابن أبي شيبة 15/ 299.
قال الحافظ 13/ 288: كأنه قال: اتهموا الرأي إذا خالف السنة كما وقع لنا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحلل فأحببنا الاستمرار على الإحرام وأردنا القتال لنكمل نسكنا ونقهر عدونا وخفي علينا ما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم مما حدث عقباه.
وأروع مثال مر بي في سيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم الدالة على إيثارهم طاعته ولو كان ذلك مخالفا لهواهم ومصلحتهم الشخصية قول ظهير بن رافع قال:
صحيح نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطواعية الله ورسوله أنفع لنا نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى.
رواه مسلم وغيره وهو مخرج في الإرواء 5/ 299.
لقد ذكرتني هذه الطواعية بتلك المطاوعة التي تعجب منها مؤمنو الجن حينما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون إلى قراءته في صلاة الفجر المشار إليها في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} فأروا أصحابه صلى الله عليه وسلم يصلون بصلاته يركعون
بركوعه يسجدون بسجوده قال ابن عباس رضي الله عنهما: عجبوا من طواعية أصحابه له.
رواه أحمد 1/ 270 وغيره بسند صحيح.
والمقصود أن هذه الطواعية يجب أن تكون متحققة في كل مسلم ظاهرا وباطنا سواء كانت موافقة لهواه أو مخالفة ومن لوازم ذلك أن لا يضرب لله الأمثال ولأحكامه فلا يقيس صوت الألحان الخارجة من الإنسان على صوت العندليب والطيور فيقول مثلا: إذا جاز إنشاد الشعر بغير ألحان جاز إنشاده مع الألحان فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذلك المجموع مباحا كما قال الغزالي - عفا الله عنه - توصلا منه إلى استباحة الألحان الموسيقية أو بعضها على الأقل (1) قياسا على أصوات الطيور وهو المؤلف في أصول الفقه وفيها أنه لا قياس في مورد النص.
ولذلك تتابع العلماء - كابن الجوزي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم - في الرد عليه وعلى أمثاله من الصوفية.
ولقد ذكرني القياس المذكور بقياس آخر أخبث منه توصل منه صاحبه إلى استحلال النبيذ المسكر ذكره ابن القيم في صدد رده على الصوفية الذين يستحلون السماع بالألحان بمثل القياس المذكور فقال رحمه الله في مسألة السماع 270 - 271:
الوجه الثاني: أنه لو كان كل واحد من الشعر والتلحين مباحا بمفرده لم يلزم من ذلك إباحتهما عند اجتماعهما فإن التركيب له خاصية يتغير الحكم بها وهذه الحجة بمنزلة حجة من قال: إن خبر الواحد إذا لم يفد العلم عند انفراده لم يفده مع انضمامه إلى غيره (2).
وهي نظير ما يحكى عن إياس بن معاوية:
(1) إحياء علوم الدين 2/ 273، للغزالي. [منه]
(2)
قلت: ومثله من يقول: إذا لم يفد ثبوت الحديث إسناده الضعيف بمفرده فلا يفيد ثبوته مجموعة طرقة! كما عليه بعض الهدامين والجهلة! . [منه]
أن رجلا قال له: ما تقول قي الماء؟ قال: حلال قال: فالتمر؟ قال: حلال قال: فالنبيذ ماء وتمر فكيف تحرمه؟ فقال له إياس:
أرأيت لو ضربتك بكف من تراب أكنت أقتلك؟ قال: لا قال: فإن ضربتك بكف من تبن اكنت أقتلك؟ قال: لا قال: فإن ضربتك ب [كف من] ماء أكنت أقتلك؟ قال: لا قال: فإن أخذت الماء والتبن والتراب فجعلته طينا وتركته حتى يجف وضربتك به أكنت أقتلك؟ قال: نعم قال: كذلك النبيذ (1).
ومعنى كلامه أن القوة المسكرة [هي] الحاصلة بالتركيب وكذلك ما نحن فيه الذي يسكر النفوس ويلهيها ويصدها عن ذكر الله وعن الصلاة قوة تحصل بالتركيب والهيئة الاجتماعية وليست الأصوات المجتمعة في استفزازها للنفوس بمنزلة الصوت الواحد وكذلك الصوت الملحن الذي يوقع به الغناء على توقيع معين وضرب معين لا سيما مع مساعدة آلات اللهو له بمنزلة إنشاد الشعر إذا تجرد عن ذلك وهل تروج هذه الشبهة إلا على ضعيف العلم والمعرفة ناقص الحظ منهما جدا؟ .
فإن قيل: إن ما ذكرت من وجوب التسليم لأحكام الشرع سواء عرفت الحكمة أو لا هو أمر واجب لا يرتاب فيه مسلم وإن كان بعضهم - مع الأسف - يخالف في ذلك عمليا كما لا يشك أحد في وجوب التسليم لتحريم الربا ونحوه وإن كان الكثير من المسلمين يستحلونه عمليا وبخاصة في هذا الزمان وبناء على ما تقدم من الأدلة على تحريم الغناء المبين هناك يجب الإعراض عنه عمليا وعدم الاستماع له ولكن السؤال الذي يطرح نفسه - كما يقولون اليوم - هو: هل ثبت في الشرع ما يبين حكمة تحريمه؟
فأقول - وبالله التوفيق -: نعم لقد وردت آثار كثيرة عن السلف من الصحابة وغيرهم تدل على حكمة التحريم وهي أنها تلهي عن ذكر الله تعالى وطاعته والقيام بالواجبات الشرعية مقتبسين ذلك من تسمية الله تعالى إياه ب {لَهْوَ الْحَدِيثِ} في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا
(1) رواه ابن عساكر 3/ 330 - 331، من طريق ابن أبي الدنيا. [منه]
هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وأنها نزلت في الغناء ونحوه فأذكر منها ما ثبت إسناده إليهم: فأولهم: ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في الغناء وأشباهه.
وثانيهم عبد الله بن مسعود أنه سئل عن هذه الآية المذكورة؟ فقال:
هو الغناء والذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات.
وثالثهم عكرمة قال شعيب بن يسار: سألت عكرمة عن {لَهْوَ الْحَدِيثِ} ؟ قال: هو الغناء.
وفي الباب عن الحسن البصري قال: نزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ .. } إلخ في الغناء والمزامير.
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 159 [لابن أبي حاتم] وسكت عنه كغالب عادته ولم أقف على إسناده لأنظر فيه.
ولهذا قال الواحدي في تفسيره الوسيط 3/ 441: أكثر المفسرين على أن المراد ب {لَهْوَ الْحَدِيثِ} الغناء.
قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ ورد ب الاشتراء لأن هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيرا.
ومن الآثار السلفية الدالة على حكمة التحريم: أولا: عن ابن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب.
ثانيا: عن الشعبي قال: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع وإن الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع.
وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن في إسناده كذاب ولذلك خرجته في
الضعيفة رقم 6515.
فائدة: قال ابن القيم رحمه الله عقب أثر ابن مسعود المتقدم 1/ 248: فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي؟
قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى وقام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح فهو والخمر رضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ وهو جاسوس القلب وسارق المروءة وسوس العقل يتغلغل في مكامن القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى محل التخيل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه وشكا إلى الله تعالى
إيمانه وثقل عليه قرآنه وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهز منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أم رأسه بيديه ويثب وثبات الدباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا
…
على طيب السماع إلى الصباح؟
ودارت بيننا كأس الأغاني
…
فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى
…
سرورا والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه
…
أجاب اللهو حي على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئا
…
أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم والعناد في قوم والكذب في قوم والفجور في قوم والرعونة في قوم.
إلى أن قال: فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج في النفاق.
وبالجملة؛ فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل الذكر والقرآن تبين لهم حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق.
قلت: وبعد أن تبينت الحكمة في تحريم الغناء من الآثار المتقدمة وهي أنه يلهي عن طاعة الله وذكره وهذا مشاهد وحينئذ فالملتهون به إسماعا واستماعا لكل منهم نصيبه من الذم المذكور في الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
…
} وذلك بحسب الالتهاء قلة وكثرة وقد عرفت أن الاشتراء بمعنى الاستبدال والاختيار مع ملاحظة هامة وهي أن اللام في قوله تعالى: {لِيُضِلَّ} إنما هو لام العاقبة كما
في تفسير الواحدي أي: ليصير أمره إلى الضلال كما قال ابن الجوزي في الزاد 6/ 317 فليس هو للتعليل كما يقول بعضهم وله وجه بالنسبة للكفار الذين يتخذون آيات الله هزوا ولهذا قال ابن القيم رحمه الله 1/ 240:
إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به.
فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم.
يوضحه: أنك لا تجد أحدا عنى بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعمل اوفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك وثقل عليه سماع القرآن وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه.
والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . [المائدة: 41]
قلت: ومن تلك الآثار السلفية وتعقيب ابن القيم عليها بكلامه الرائع المفيد يتبين لك جليا خطأ ابن حزم في قوله بعد أن ساق أكثرها: لا حجة في هذا لوجوه:
الأول: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه قد خالف غيرهم من الصحابة والتابعين.
والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها لأن فيها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وهذه صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله تعالى هزوا.
فأقول مجيبا عليه: أما عن الأول: فهو كلمة حق أريد بها باطل لأنه يوهم أن الآثار مخالفة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية ولا شي من ذلك البتة وإنما هي مخالفة لتفسيره الجامد هو وحده ويكفي القارئ اللبيب برهانا على خطئه أن يتصور هذه الحقيقة: الآثار السلفية في جانب وابن حزم في جانب!
وأما عن الثاني: فجعجعة لا طحن فيها إذ لا مخالف لهم ولو كان شيء من ذلك لبادر إلى ذكره كما هي عادته عند العارفين بأسلوبه في رده على مخالفيه.
وأما عن الثالث: فتقدم في كلام ابن القيم الأخير وكأنه رحمه الله كان يعني به الرد على قول ابن حزم هذا وهو قوي وواضح جدا ألا ترى أن بعض المسلمين اليوم يلتهون في مجالسهم ومحافلهم بالكلام الدنيوي
وبشرب الدخان واللعب بالطاولة النرد بل وبالقمار في المقاهي وغيرها وهم يسمعون من الراديو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سمعون هذا وأمثاله من آيات الله تتلى وهم في حديثهم ولهوهم سادرون كأن في آذانهم وقرا أفكفار هؤلاء يا ابن حزم؟ بل إن موقف هؤلاء ولهوهم ليذكرني بقول ابن عباس وغيره من السلف: كفر دون كفر (1) فليس كل كفر يخرج عن الملة ولذلك فلهؤلاء وأمثالهم نصيب من الذم المذكور في الآية كل بقدره وقد أشار إلى هذا المعنى العلامة المفسر الشهير ابن عطية الأندلسي في تفسيره المحرر الوجيز 13/ 19 - وكأنه يرد على ابن حزم أيضا -:
والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا
(1) تخريجه في السلسلة الصحيحة 2552. [منه].
يتخذوا الآيات هزوا ولا عليهم هذا الوعيد بل ليعطل عبادة ويقطع زمانا بمكروه وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة.
وأريد أن أسترعي الانتباه إلى تناقض وقع فيه ابن حزم فإن قوله المذكور في الوجه الأول يستلزم أنه مسلم بثبوت تفسير الآية بما تقدم عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وإلا لبادر إلى تضعيفه ولم يقل: لا حجة لأحد ..
ولذلك فهو في رسالته في الملاهي مخالف لذلك تمام المخالفة فإنه لم يقل - أولا - القول المذكور وثانيا: صرح بالتضعيف فقال ص 97:
ما ثبت عن أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا تقوم بقوله حجة.
وهذا مناقض لتسليمه المشار إليه آنفا وهو الحق الذي لا ريب فيه كيف لا وأقوال السلف مقدمة اتفاقا على أقوال الخلف ولا سيما مع كثرة السلف وقلة الخلف فكيف وأكثر المفسرين موافق لهم كما سبق ص 144 عن تفسير الواحدي وهو كما قال القرطبي 14/ 52:
أعلى ما قيل في هذه الآية وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء.
وسبق عن الآلوسي أنه في حكم المرفوع:
فهذا الحق ليس به خفاء
…
فدعني عن بنيات الطريق
واعلم - أخي المسلم - أن مما يؤكد أو على الأقل يدل على حكمة تحريم الغناء قاعدة سد الذرائع التي كنت أشرت إليها في صدد الرد على الشيخ محمد أبي زهرة وتلميذيه محمد الغزالي ويوسف القرضاوي في المقدمة صفحة 8 فإن الأخذ بها هنا يكفي لما يترتب - عادة - من المفاسد والمخالفات بسبب الغناء والاستماع إليه.
ثم رأيت لابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مسألة السماع كلاما جيدا متينا في تطبيق هذه القاعدة على مسألتنا هذه فما أحببت إلا أن أمتع القراء به لما فيه من
البيان والحجة والفائدة قال رحمه الله وأثابه خيرا ص 167 - 168:
والعارف من نظر في الأسباب إلى غاياتها ونتائجها، وتأمل مقاصدها وما تؤول إليه ومن عرف مقاصد الشرع في سد الذرائع المفضية إلى الحرام قطع بتحريم هذا السماع فإن النظر إلى الأجنبية واستماع صوتها حاجة حرام سدا للذريعة وكذلك الخلوة بها.
ومحرمات الشريعة قسمان:
قسم حرم لما فيه من المفسدة.
وقسم حرم لأنه ذريعة إلى ما اشتمل على المفسدة.
فمن نظر إلى صورة هذا المحرم ولم ينظر إلى ما هو وسيلة إليه استشكل وجه تحريمه وقال: أي مفسدة في النظر إلى صورة جميلة خلقها الله تعالى وجعلها آية دالة عليه؟ وأي مفسدة في صوت مطرب بآلة تؤديه أو استماع كلام موزون بصوت حسن؟ وهل هذا إلا بمنزلة سماع أصوات الطيور المطربة ورؤية الأزهار والمناظر المستحسنة من الأماكن المعجبة البناء والأشجار والأنهار وغيرها؟
فيقال لهذا القائل: تحريم هذا النظر إلى الصور وهذه الآلات المطربة من تمام حكمة الشارع وكمال شريعته ونصيحته للأمة فإنه حرم ما اشتمل على المفاسد وما هو وسيلة وذريعة إليه ولو أباح وسائل المفاسد مع تحريمها لكان تناقضا ينزه عنه ولو أن عاقلا من العقلاء حرم مفسدة وأباح الوسيلة المفضية إليها لعده الناس سفيها متلاعبا وقالوا: إنه متناقض وهل يمكن لمن شم رائحة الشريعة والفقه في الدين أن يرد هذا الكلام؟ وهل هو إلا بمثابة أن يقال: أي مفسدة في الصلاة لله بعد الصبح وبعد العصر حتى ينهى عنها؟ وأي مفسدة في تحريم الصلاة إلى القبور وفي النهي عن الصلاة فيها؟ وأي مفسدة في تقدم رمضان بيوم أو يومين؟ وعن سب آلهة المشركين في وجوههم؟ إلى أضعاف أضعاف هذا مما نهى عنه الشارع سدا لذريعة إفضائه إلى المحرم الذي يكرهه ويبغضه وهل هذا إلا محض حكمته ورحمته
وصيانته لعباده وحميته لهم من المفاسد وأسبابها ووسائلها؟
والعاقل العارف بالواقع يعلم أن إفضاء هذا السماع إلى ما حرمه الله ورسوله إن لم يزد على إفضاء النظر فليس بدونه بل كثيرا ما يكون إفضاؤه فوق إفضاء الخمر؟ فإن سكر الخمر إفاقة صاحبه سريعة وسكر السماع لا يستفيق صاحبه إلا في عسكر الهالكين.
قلت: وقد صدق ابن القيم رحمه الله فإن أثر السماع في المبتلين به ظاهر ومشاهد كما تقدمت الإشارة إلى ذلك وحسبي أن أذكر لك مثالا واحدا مما شهدته بنفسي مما يجسد في الأذهان المعنى الصحيح لقوله تعالى: {لَهْوَ الْحَدِيثِ} فقد كنت في المسجد يوم الجمعة أستمع إلى الخطبة وبجانبي شاب في نحو الثلاثين من العمر وقد جلس متربعا وهو يطقطق بأصابعه على الأرض كما لو كان يسمع أغنية فهو يرقص أصابعه معها وأشرت إليه بالامتناع والاستماع إلى الخطبة.
فهذه الحادثة من حوادث كثيرة تدل دلالة قاطعة على أن السماع قد صد أهله عن ذكر الله - كالخمر - وعن الاستماع إليه والله عز وجل يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ومن المعلوم أن الآية تشمل الجمعة كما في بعض الآثار وهو اختيار ابن كثير فقد صدهم اللهو عن الذكر والاستماع إليه والله المستعان.
[تحريم آلات الطرب ص (137)]
تحريم آلات الطرب
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» .