الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفهوم الحقيقي للبنوة:
وفي بيان معنى البنوة اعتمد د/ سعد الدين صالح في نقده لهذه الدعوى على أمرين:
الأوّل: استحالة ما يدعيه النصارى عقلًا.
الثاني: حمل معني البنوة على المعنى المجازي.
لعلماء المسلمين جهود قيمة في بيان المفهوم الحقيقى للبنوة وجميع من تناول هذه القضية وجه نقده إلى هدم ما يدعيه النصارى من حمل الألفاظ الواردة في التوراة والإنجيل في هذه القضية على حقيقتها وأنها تتعارض مع العقل فلا يقبلها بحال من الأحوال لأنها مستحيلة في حق الله تعالى من هؤلاء العلامة رحمة الله الهندي والألوسى، ود/ سعد الدين صالح ود/ مريم زامل، فالعلامة رحمة الله الهندي في نقده لهذا المفهوم يضعف حمل اللفظ على المعنى الحقيقى ويرده فيقول:
إن إطلاق لفظ ابن الله على المسيح في غاية الضعف؛ لأنّ هذا الإطلاق معارض بإطلاق ابن الإنسان
…
؛ لأنه لا يصح أن يكون لفظ "ابن". بمعناه الحقيقى؛ لأنّ معناه الحقيقي باتفاق لغة أهل العلم من تولد من نطفة الأبوين، وهذا محال في هذا المقام، فلابد من الحمل على المعنى المجازي المناسب لشأن المسيح (1).
ولذلك يقول أ/أحمد ديدات: إن البنوة لله لفظ مجازى يستخدم على سبيل الاستعارة، ولفظتا ابن الله، كانتا شائعتين في الاستخدام لدى اليهود (2).
والدكتور / سعد الدين صالح:
قد أكد نقده بالاستدلال من العهد الجديد لبيان خطأ النصارى في فهمهم المبنوة وردهم إلى المفهوم الحقيقي لها ولذلك بدأ نقده متسائلًا فقال: (ما هو المفهوم الحقيقى للبنوة إلى وردت في التوراة والإنجيل؟ هل هى بنوة حقيقية عن طريق التوالد والتناسل والنسب؟ أم أن البنوة مجازية معناها القرب من الله والسير على تعاليمه؟)(3).
(1) انظر: إظهار الحق: (2/ 351) بتصرف بالحذف.
(2)
المسيح في الإسلام: أ/ أحمد ديدات، ص60.
(3)
مشكلات العقيدة النصرانية: ص 83.
وأجاب عن ذلك بقوله: (بالتأكيد أن المعني الأوّل لا يليق في حق الله إطلاقًا، ولو أخذ به النصارى وادعوا أن عيسى هو ابن الله الوحيد يُقال لهم: إن كل الذين وصفوا بأنهم أبناء الله في التوراة والإنجيل يشاركون عيسى عليه السلام نفس الوصف مع أنه مستحيل عقلًا في حق الله، وقد جاءت كل الرسالات لتتريهه عن النقص، إذن لا بد أن يكون للبنوة مفهوم آخر هو المعنى المجازى الذي يليق في حق الله وهو أن البنوة معناها القرب من الله والمحبة والسير على تعاليمه واتباع أوامره واجتناب نواهيه. وفي هذا المعنى يقول من: "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم
…
لكى تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات" (1)) (2).
وتزيد د/ مريم زامل، على ما سبق بُعدًا توضيحيًا يوضح بُطلان البنوة لله تعالى فتقول: إن عيسى عليه السلام قد أوضح لنا هذا المجاز وأن بنوة الله بالأعمال: "أنتم تعملون أعمال أبيكم"(3) فهي ليست بالتناسل والتوالد وإنما بالعمل الصالح وصدق الإيمان. ونفس المعني ردده "بولس" في رسالته إلى أهك رومية: "لأنّ كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله"(4).
وقد جاء في الأناجيل لفظ "ابن الله". بمعنى المؤمن الصالح الطائع، من ذلك ما رواه "مرقس" في إنجيله حيث يقول:"ولما رأى قائد المئة الواقفى مقابله، وأنه صرخ هكذا، وأسلم الروح قال: حقًا كان هذا الإنسان ابن الله (5) "(6).
ويؤكد هذا الإطلاق -إطلاق لفظ الابن علي المؤمن الصالح- صاحب كتاب الفارق بين المخلوق والخالق - وهو ينتقد ما جاء في من (5/ 44، 45)"لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات" يقول: الذي يظهر من هذه الجمل أن في الزمن الأوّل كانوا يسمون المؤمن الطائع ابن الله كما هو الواضح من نصوص التوراة، وأبناء الله بصيغة الجمع هم المؤمنون الطائعون، كما أن الآب يستعمل. بمعنى الموجد الحقيقى وهو الله تعالى، فلا إشكال ولا بأس إذن بإطلاق لفظ ابن الله على المسيح بالمعنى المذكور وإلا لزم أن يكون جميع المؤمنين أبناء الله حقيقة كالمسيح إذ صرح بقوله:"كونوا أبناء الله" فلا بد من حمل معنى كلامه على ما تقدم (7).
(1) متى: (5/ 44، 45) محبة الأعداء.
(2)
مشكلات العقيدة النصرانية ص 83.
(3)
انظر: يوحنا: (8/ 41) أبناء إبراهيم.
(4)
رسالة بولس إلى رومية: (8/ 14) الحياة حسب الروح.
(5)
الإصحاح: (15/ 39) الموت.
(6)
موقف ابن تيميه من النصرانية (1/ 436).
(7)
الباجة جي زادة البغدادي ص 70.
ويقيم البغدادي رحمه الله، الأدلة العقلية والنقلية على بطلان القول ببنوة المسيح لله تعالى وبالتالي أبوة الله له على الحقيقة فيقول: جعل المسيح "ابن الله" أي مولودًا منه -كما أطلق عليه النصارى ذلك- مردود عقلًا ونقلًا. أما من جهة العقل: فإن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، فولده إما أن يكون أيضًا واجب الوجوب أو لا يكون، فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلًا بنفسه، قائمًا بذاته، لا تعلق له في وجوده بالآخر، ومن كان كذلك لم يكن مولودًا البتة؛ لأنّ المولودية تشعر بالفرعية والحاجة وإن كان ذلك ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاده واجب الوجود لذاته ومن كان كذلك فيكون مخلوقًا لا ولدًا فثبت أن من عرف الإله ما هو (أي مفهوم الإله وحقيقته) امتنع أن يثبت له ولد
…
إلى غير ذلك من الأدلة العقلية التى ساقها إلى أن قال: فثبت بالبداهة بطلان ما ذهبت إليه النصارى (1).
وأما من جهة امتناع هذه العقيدة نقلًا فيقول العلامة البغدادي: فإذا علمت أن الولد مستحيل على الله تعالى عقلًا، فاعلم أن ذلك ممتنع نقلًا أيضًا؛ لأنّ الكتب السماوية كلها تنزه البارى سبحانه وتعالى عن ذلك حتى التوراة والإنجيل مع كونهما محرفين وما ورد فيهما مما يوهم ذلك فهو مؤل: من ذلك ما ورد في التوراة: "يقول الرب: إسرائيل ابني البكر"،
وفي صموئيل الثاني (7/ 14): قال داود: "أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنًا "وفي التوراة" أن داواد ابن الله" وفي لوقا: "آدم ابن الله" وكذلك المؤمن البار أدخل تحت هذا العنوان فلا خصوصية فيه للمسيح عليه السلام (2).
من خلال الجهود السابقة لعلمائنا الأجلاء في نقد عقيدة البنوة يتبين ما يلي:
1 -
المقصود من البنوة في حق المسيح عليه السلام-المعني المجازي لها وهو المحبة والطاعة والسير على تعاليم الله عز وجل.
2 -
النصارى يفسرون البنوة بمعناها الحقيقى وهذا مُحال على الله تعالى ولا يليق بذاته المقدسة.
3 -
وجود التعارض والتناقض في هذه العقيدة يكفي بردها وإبطالها.
4 -
مخالفة هذه الدعوى لصريح المعقول.
5 -
عدم قصر إطلاق البنوة على المسيح عليه السلام لأنها بالمعنى الصحيح لها -وهو المعنى المجازي- تطلق على غيره من المؤمنين الطائعين أيضًا فلم يكن في هذه اللفظة خصوصية له بالذات عن غيره من الأنبياء.
وهذه المقولة التى، يلقيها النصارى جزافًا إنما هي مجرد قول باللسان لا يغير من حقيقة الأمر شيئًا، فقال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (3).
(1) الفارق: 184 - 186، 195، بتصرف يسير.
(2)
المرجع السابق: ص 198، انظر: أرقام الإصحاحات لهذه النصوص في ص330 من هذه الدراسة.
(3)
سورة التوبة الآية: (30).