الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ينتقل د/ عبد الأحد داود بعد ذلك إلى مناقشة التثليث من الناحيتين المنطقية والعقائدية: (بناءً على تصور أن لكل شخص في الثالوث صفات لا تنطبق على الاثنين الآخرين وتدل هذه الصفات طبقًا للمنطق الإنساني واللغة الإنسانية على وجود قَبْليِه وبَعْدِيه فيما بينهما فالأب يحظى بالمرتبة الأولي ويتقدم على الابن أما الروح القدس فليس متأخرًا فحسب لكونه الثالث في الترتيب العددي بل إنه أقل درجة من أولئك الذين انبثق منهم. ألا يعتبر نوعًا من الإلحاد إذا ما أعيد ذكر هذا الثالوث بترتيب معكوس؟ ألا يعتبر إنشاء الصليب عند مشاهدة القربان المقدس أو تجاوز مبادئه، نوعًا من الزندقة عند الكنائس إذا عكست العبارة وصارت على النحو التالي: باسم الروح القدس، والابن والآب؟ لأنها إذا كانت متساوية ومتعاصرة فإنه لا داعي لمراعاة ترتيب الأسبقية بدقة)(1).
من خلال هذه المناقشات المنطقية والمحاورات العقلية التى قام بها العلماء، حول استنباطات النصارى واستنتاجاتهم ما يقرر هذه العقيدة - في زعمهم - يتبين بُطلان ما استنتجوه ومخالفته للحقائق العلمية الثابتة ومعارضته للبديهيات الرياضية التي لا تقبل الجدال لأنها واضحة وضوح الشمس في وسط النهار.
مناقشة علماء المسلمين للأدلة التي يعتمد عليها النصارى في تقرير عقيدة التثليث ونقدها:
لشيخ الإِسلام والعلامة رحمة الله الهندي والألوسى وأيوب بك صبري، جهود قيمة في إبطال الأدلة التي اعتمد عليها النصارى في تقريرهم لعقيدة التثليث من هذه الأدلة إلى ناقشوها ما يلي:
الدليل الأول:
" بكلمة الرب صُنعت السموات وبنسمة فيه أو روح فيه كل جنودها"(2) ومؤداه عندهم أن هذا النص صرح بثلاثة أقانيم حيث قال الله وكلمته وروحه وكان لعلماء المسلمين -فترة البحث- جهود قيمة في تفنيد تلك الأدلة التي استدل بها النصارى على عقيدة التثليث وقد اتبع علماؤنا الأجلاء في الرد على النصارى ونقد أدلتهم البحث في المعني المتبادر من الآيات بحسب دلالاتها اللغوية والقواعد المنطقية إذ أن اللغة لا تنفك عن روابطها الأساسية.
(1)"محمد في الكتاب المقدس": ص 46.
(2)
مزمور: (33/ 6)، أيوب:(33/ 4).
وقد كان رائد هذه الطريقة الفريدة أيوب بك صبري، صاحب كتاب الجوهر الفريد، حيث يرد على من ادعي التثليث فقال في دعواه: إن الكلمة هي الأقنوم الثاني وهي المسيح وأن لفظ الرب هو أقنوم الأب وهو الأقنوم الأول وأن لفظ الروح أو النسمة هو الأقنوم الثالث المدعو روح القدس، فيقول أيوب بك صبري:
(ننظر هل ممكن أن نستنتج من هذه الألفاظ وجوب اعتقاد الشخصية بكل لفظ منها أو جعله أقنومًا أم لا؟ وأنى لنا ذلك وقد ثبت بمدلول نصوص جميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى تعيين معنى لفظ الكلمة والروح في مثل هذا المقام والحق يلزمنا بالوقوف عند حدّ ما دلت عليه الكتب الإلهية كما يلي:
1 -
فوصف الله للسيد المسيح بالكلمة في القرآن المجيد ظاهر إنها كلمة التكوين وصيغة الأمر كناية عن قوله جل شأنه "كن فيكون" بدلالة الالقاء كما في قوله تعالى: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (1) كأنه تعالى ألقى إليها قولة "كن" التي هى أمر الإيجاد والتكوين، ثم إنه لما كان هذا القرآن منزلًا بالعربية الفصحى في اصطلاح العرب يسمون الرسول كلمة ولسانًا ويقولون هذا لسان فلان وكلمته لكونه رسوله المبلغ عنه أوامره إلى الخلق وهذا المعني المتواتر المشهور بين سائر العالم لا يختلف فيه اثنان.
2 -
وكذلك نصوص التوراة في عدة مواضع ناطقة بذلك وأن الكلمة لا معنى لها سوى النطق وهي كلمة التكوين بدليل ما جاء في سفر الخليقة (1/ 3)"وقال الله ليكن نور فكان" وقوله هذا ليكن جلدًا فكان وقوله ليكن كذا وليكن كذا
…
الخ ما ورد في صيغة التكوين ولحصر المعنى في كلمة التكوين قد سمي المتقدمون سفر الخليقة "سفر التكوين" وقد ورد في جميع أسفار الأنبياء ما يفيد تعيين هذا المعنى وهو قولهم: "كانت إلي كلمة الرب وصارت إليّ كلمة الرب وكان إليَّ كلام الرب "وهناك نصوص كثيرة تدل على أن المراد بالكلمة الأمر، ما جاء في أشعياء" هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمى لا ترجع إلى فارغة"(55/ 11)، وما جاء في حزقيال:"فاسمع الكلمة من فمى وأنذرهم من قبلى"(3/ 17)، لأني أنا الرب أتكلم والكلمة إلى أتكلم بها تكون. أقول الكلمة وأجريها يقول السيد الرب
…
الكلمة التي تكلمت بها تكون" (12/ 25) وغير ذلك من النصوص الصريحة الناطقة بأن الكلمة لا معنى لها غير الأمر وهي كافية لإقناع كل معتدل ومن تأمل بالفكر الحر المنزه عن الأغراض أنها ناطقة بكل صراحة بأن صنع السموات وكل جنودها هو بأمر الله تعالى وتأثيره وأن كلمته هى أمره تعالى وليست بأقنوم ولا شخص إلهى كما يشهد بصريح ذلك قول أشعياء: "يداي أنا نشرتا السموات وكل جندها أنا أمرت" (45/ 13)(2).
(1) سورة النساء: جزء من الآية (171).
(2)
الجوهر الفريد: ص 11 - 12.
3 -
ثم إن نص الإنجيل أيضًا ناطق بهذا المعنى في عدة مواضع منها: "كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا"(لوقا 3/ 2) ومنها: "والأب الذي أرسلنى يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته وليست لكم كلمته ثابتة فيكم"(يوحنا 5/ 37، 38) ومنها قوله: "إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب"(يوحنا 10/ 35)، ففى العبارة الأولي فسر معنى الكلمة بالايمان الذي لا يناله العبد إلا بالتوفيق الإلهى والصبغة الإلهية، وفي العبارة الثانية الكلمة هى الأمر والتأثير الإلهى القائم به حياة الوجود. وأيضًا فسر الروح والنسمة بهذا التفسير واستبعد كونها تدل على أي من الأقانيم الثلاثة كما يدعون أ. هـ (1).
• وبالقراءة المتأنية لما قام به أيوب بك صبرى يتبين أنه قام بتحليل الألفاظ وبيان مدلولها الحقيقي طبقًا للدلالات اللغوية والقواعد المنطقية السليمة في حيدة تامة وموضوعية كاملة.
• بين خطأ استدلال النصارى بهذا النص لأنه يدلّ على الأمر الإلهى لا أكثر ولا يرمز إلى شخص أو أقنوم كما يدعون.
• بين بُطلان استنباطهم من هذا النص: أن المراد بالكلمة هو المسيح ولكن المراد بها الأمر والتأثير الإلهي القائم به حياة الوجود، لورود تلك اللفظة في القرآن والتوراة والإنجيل وتدل دلالة واضحة على الأمر الإلهى.
وينتقد العلامة الألوسي، هذا النص أيضًا فيقول: إن هذا النص يقتضى أن تكون الآلهة أربعة بل خمسة لأنه قال: رحمة الرب، وكلمة الرب، وبروح فيه إلى أن قال في نهاية هذا المزمور وعلى اسمه القدوس اتكلت فالروح إله أول والرب إله ثان والكلمة إله ثالث والروح إله رابع والقدوس إله خامس فصارت الأقانيم خمسة وهذا لا يخفى على ذي عينين أو أحول يجعل الواحد اثنين
…
وإذا كان داود علم أن الآلهة ثلاثة والثلاثة إله فعيسي جزء من الآلهة فلم لم يخبر بنى إسرائيل أن إلههم وربهم متعدد وأن جزء الإله أو الواحد من الآلهة حامله إذ ذاك في صلبه وأنه سيكون من ذريته (2).
وبتحليل رؤية الإمام الألوسي النقدية لهذا النص يتبين أنه اتبع المحاورة العقلية في إثبات رؤيته النقدية وأن تحليل النصارى لهذا الدليل تحليل باطل ومردود لأنه يتناقض مع العقل.
(1) نهاية كلام صاحب الجوهر الفريد: ص 13.
(2)
الجواب الفسيح: 1/ 217، 218.