الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفقرة الحادية والعشرون
في:
يأجوج ومأجوج
مقدمة
ذكر الله عز وجل يأجوج ومأجوج في موضعين من كتابه، مرة في سياق بناء السد الذي بناه ذو القرنين ليحمي به أقوامًا من إفسادهم:{قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ....} (1).
وذكرهم القرآن مرة أخرى في سورة الأنبياء (2):
وقد أخذ الكلام عن يأجوج ومأجوج وعن ذي القرنين وعن السد الذي بناه كل مأخذ وتشتت بالمفسرين المذاهب والافتراضات والحد الذي لا خلاف عليه هو أن مجيء يأجوج ومأجوج إلى بلاد الشام زمن عيسى ابن مريم وما يحدث لهم هو من أشراط الساعة الكبرى.
ونقطة البداية الصحيحة في البحث هو أن الذي توجه بالسؤال عن ذي القرنين هم اليهود أو قريش بإيحاء من اليهود وكان السؤال امتحانًا لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون الجواب الصحيح من أعلام النبوة ومعجزاتها، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الجواب معروفا عند السائلين أو الدافعين للسؤال، وبالجواب الصحيح تقوم الحجة عليهم وتثبت بذلك الحجية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم غلى أهل السؤال وغيرهم، وقد انطلق من هذا العلامة الهندي الكبير أبو الكلام
(1) الكهف: 94 - 97.
(2)
الآيتان 96، 97.
أزاد في بحثه الذي نشر تحت عنوان (يسألونك عن ذي القرنين) فأتى به بما يثبت المعجزة ويقيم الحجة، وقد استغرق البحث مائة وثلاث صفحات تحدث فيه عن شخصية ذي القرنين كما ذكرها القرآن ثم تحدث فيه عن حيرة المفسرين في تعيين شخصه ثم وصل إلى أن المفروض أن تكون نقطة البداية في البحث هي في كتب العهد القديم على اعتبار أن السائلين أو الدافعين للسؤال هم اليهود فعثر على نقطة البداية في سفر دانيال وهذه هي:
"في السنة الثالثة لجلوس بيلش فر الملك كنت بمدينة سوس هيرا من أعمال عيلام على شاطئ النهر أولائي، فرأيت الرؤيا للمرة الثانية، رأيت كبشًا واقفًا على شاطئ النهر له قرنان عاليان. وكان الواحد منهما منحرفًا إلى ظهره، ورأيت الكبش ينطح بقرنيه غربًا وشرقًا وجنوبًا لا قبل لحيوان بالوقوف أمامه فهو يفعل ما يشاء وصار هو كبيرًا جدًا وبينما أنا أفكر في هذه الظاهرة إذ رأيت تيسا أقبل من جهة الغرب وغشي وجه الأرض كلها، وكان بارزا بين عيني التيس قرن عجيب. ثم إن التيس اقترب من الكبش ذي القرنين ونفر منه مغضبا ثم عمد إليه فكسر قرنيه وصرعه وداسه فأصبح الكبش ذو القرنين عاجزًا عن مقاومته، محروما من ناصر ينصره عليه- "سفر دانيال 8: 1".
ثم ذكر الكتاب على لسان دانيال أن الملك جبريل ظهر له وشرح رؤياه قائلًا: إن الكبش ذا القرنين يمثل اتحاد المملكتين، مادا وفارس، فيملكهما ملك قوي لا تقدر دولة على مواجهته. أما التيس ذو القرن الواحد الذي رآه بعد الكبش، فالمراد منه ملك اليونان، والقرن البارز بين عيني التيس، يدل على أول ملك من اليونان (8: 15). اهـ رسالة (ويسألونك عن ذي القرنين).
ومظهر هذه النبوءة المتفق عليه هو الملك (قورش) أو (غورش) والذي يسميه اليونان (سائرس) واليهود (خورس) وهو الذي وحد مملكتي مادا وفارس واستولى على بابل وكانت له ثلاث توجهات في حروبه: توجه نحو الغرب حارب فيه اليونان وقهرهم، وتوجه نحو الشرق حارب فيه قبائل رحلا، وتوجه نحو الشمال سيطر فيه على القبائل الجبلية، وكان من صفاته الرحمة والعدل والحرص على الرعية، وكان على الدين الصحيح لزرادشت الذي قام دينه على التوحيد ثم حرفته الديانة المجوسية التي كانت سابقة على دين
زرادشت، ويرجع أبو الكلام أن (قورش) كان معاصرًا لزرادشت، وأن هذه المملكة التي أقامها قورش أنهاها بعد فترة الإسكندر المقدوني وهو الذي ذكرته رؤيا دانيال بأنه ذو القرن، ومن نبوات أشعيا في (قورش) ما يلي:
"وإني أقول في حق خورس (غورش) بأنه راع لي وهو يتم مرضاتي كلها .. يقول الرب في شأن مسيحه خورس، أنا أخذت بيده اليمنى لأجعل الأمم في حوزته وأنزع القوة من سواعد الملوك وأفتح له الأبواب تلو الأبواب. أجل، إني أمشي بين يديك وأقوم ما اعوج من سبلك، وأكسر الأبواب النحاسية، وأمنحك الخزائن المدفونة والكنوز التي في البيوت المغيبة. أفعل كل ذلك لتعلم أنني أنا الرب، إله إسرائيل الذي ناداك باسمك صراحة لأجل إسرائيل، شعبة المختار"(45: 1).
وشبه غورش بعقاب الشرق في مكان آخر من الكتاب فقال: "ها! انظروا إني أدعو عقابًا من الشرق أدعو ذلك الرجل الذي يأتي من أرض بعيدة ويتم سائر مرضاتي"(46: 11) اهـ رسالة (ويسألونك عن ذي القرنين).
فسفر أشعيا يشبه قورش بالعقاب، وسفر دانيال يصفه أنه ذو القرنين، وقد عثر على تمثال لقورش يعتبر من أعظم الآثار الفارسية القديمة لقورش فيه جناحا عقاب وقرنان، ومن المعروف أن قورش هو الذي أنقذ اليهود من أسر بابل، ولذلك فإن له مقامًا كبيرًا عندهم.
كان ظهور أمر قورش في سنة (559) ق. م. في ظروف لم تكن مقدماتها لتؤهل إلى أن يصل قورش إلى الملك ولم يكد يستقر له الملك حتى دانت له مادا وفارس تلقائيًا ثم خضعت له ولايات ومهد لخضوع ولايات لخلفائه فكانت مجموع الولايات التي خضعت له ولخلفائه ثمانية وعشرين ولاية حتى انتهى هذا الوضع للإسكندر المقدوني، وكانت حملته الأولى نحو الغرب إلى بلاد الأناضول التي كانت يونانية وقتذاك وهي التي بدأت الحرب فانتصر عليها وعاملها برحمة ووصل بحربه هذه إلى شاطئ البحر وكان هجومه الثاني نحو الشرق ففتح ما يسمى الآن بمكران وبلوخستان وبلخ، والغالب أنه فتح بلاد السند في حملته هذه.
وكانت في هذه المناطق قبائل همجية يغلب على معظمها الترحل، ثم فتح بعد ذلك بابل وأنقذ اليهود من الأسر، ثم كان هجومه الثالث نحو الشمال أي نحو البلاد التي سميت فيما بعد بالقوقاز، وقد وصل غورش في حربه هذه إلى نهر أطلق عليه ولا يزال يطلق عليه اسم (نهر سائرس) أي نهر غوروش، وهناك بني سدًا حديديًا في الممر الجبلي الوحيد الذي يمكن أن يعبر منه سكان شرقي تلك البلاد إلى أرض القوقاز وكانت وفاته سنة (529) قبل الميلاد ومن المجمع عليه عند كل من كتب عنه من صديق وعدو أنه كان عادلًا رحيمًا حكيمًا، وأسفار العهد القديم تصفه بالتوحيد والعبودية الخالصة لله عز وجل، وتعليل ذلك أنه كان من أتباع زرادشت نبي الفرس على القول الراجح وذلك قبل أن يحرف دين زرادشت.
وبعد أن يعرض أبو الكلام أزاد هذا العرض يأتي بالنص القرآني الوارد في حق ذي القرنين ويبرهن على أنه ينطبق على قورش، وبالنسبة للعين الحمئة التي وقف عندها ذو القرنين يقول أبو الكلام:
"لنضع خريطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا. نرى فيها معظم الساحل قد تقطع في خلج صغيرة، لا سيما على مقربة من أزمير، حيث اتخذ الخليج صورة عين. كانت سارديز على مقربة الساحل الغربي، ولا تبعد كثيرًا عن أزمير الحاضرة. فلنا أن نقول إن غوروش لما تقدم بعد استيلائه على سارديز، وصل من ساحل بحر أيجة إلى مكان قريب من أزمير، ورأى الساحل قد اتخذ صورة تشبه العين، وكان الماء قد انكدر من وحل الساحل، فرأى الشمس تغرب مساء في هذه العين، هذا هو ما عبر عنه القرآن بقوله {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (1). أي أنه تراءى له كأن الشمس تغرب في بقعة كدرة من الماء.
ومن المعروف أن الشمس لا تغرب في مكان ما، ولكنك إن وقفت على ساحل بحري، رأيت الشمس كأنها تغرب رويدًا رويدًا في البحر" اهـ رسالة (ويسألونك عن ذي القرنين).
ثم يتحدث أبو الكلام أزاد عن المهمة الشرقية ويذكر أن كلا من المؤرخين اليونانيين
(1) الكهف: 86.
هيرودوتس وني سياز يذكرانها ويقولان:
"إن طغيان بعض القبائل الهمجية الصحراوية حمله على القيام بهذه المهمة".
يقول أبو الكلام: (وهذا يطابق ما قاله القرآن: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} (1). أي أنه لما وصل إلى نهاية الشرق، رأى الشمس تطلع على قوم ليس لديهم ما يستترون به من قيظها، يعني أنهم كانوا من القبائل الرحالة التي لا تسكن المدن ولا تبني لها البيوت) اهـ رسالة (ويسألونك عن ذي القرنين).
ثم يتحدث أبو الكلام عن المهمة الشمالية وسد يأجوج ومأجوج. قال أبو الكلام:
كانت هذه مهمته الثالثة، وصل بها، تاركًا على يمينه بحر الخزر، إلى جبال القوقاز Caueasus حيث وجد مضيقًا بين جبلين منها.
ذكر القرآن هذا الخبر قائلًا: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} (2). أي انهم كانوا جبليين متوحشين، حرموا من المدينة والعقل والفهم.
والمقصود بسدين، مضيق في جبال القوقاز. وإنك تجد على يمين القوقاز، بحر الخزر الذي يسد طريق الحافة الشرقية منها، وعلى اليسار البحر الأسود الذي يسد طريق الحافة الغربية، وترى في الوسط سلسلة جبالها الشاهقة التي صارت جدارًا طبيعيًا، فلم يكن هنالك منفذ للمهاجمين من الشمال إلا مضيق وسطى في هذه الجبال، يجتازه المهاجمون ويشنون الغارات على البلاد الواقعة وراءه. فبنى غوروش في هذا المضيق سدًا حديديًا، أخذ به الطريق على المغيرين. ولم يأمن أهل سهول قوقاز وحدهم بهذا السد بل أصبح السد بابًا مقفلًا منيعًا لسلامة سائر بلاد آسيا الغربية فأمنت جميع الشعوب القاطبة في آسيا الغربية وفي مصر من جهة الشمال. اهـ.
(1) الكهف: 90.
(2)
الكهف: 93.
وقال أبو الكلام:
"أما القوم الذي وجدهم ذو القرنين هنالك، وكانوا خلوا من العقل، فيحتمل أن يكونوا القوم الذين ذكرهم اليونان باسم "كولشي" وذكروا في لوحة دارديوش باسم "كوشيا". هؤلاء الذين شكوا إلى غوروش هجمات يأجوج ومأجوج، ولما كانوا مجردين من الحضارة، وصفهم القرآن بقوله: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} (1). أي لا يفهون الكلام" اهـ.
وبعد أن يبرهن أبو الكلام على أن كل ما وصف به القرآن ذا القرنين ينطبق على قورش ينقل عن مؤرخين يونانيين هما في الأصل من أمة معادية للفرس ما قالاه في قورش:
ويقول هيرودوتس: "كان (غوروش) ملكا كريما، جوادا سمحا للغاية، لم يكن حريصًا على جمع المال كغيره من الملوك، بل كان حرصه على الكرم والعطاء. يبذل العدل للمظلومين، ويحب كل ما فيه خير البشر".
ويقول زينوفن: "كان ملكًا عاقلًا رحيمًا، اجتمعت فيه مع نبل الملوك فضائل الحكماء، همته تفوق عظمته، وجوده يغلب جلالته، خدمة الإنسانية شعاره، وبذل العدل للمظلومين ديدنه. حل فيه -مكان الكبر والعجب- التواضع والسماحة". اهـ.
وبعد كلام طويل ينتقل إلى الحديث عن سد يأجوج ومأجوج. فيقول أبو الكلام:
(علينا أن نتذكر في معالجة هذا البحث أن القرآن ذكر أمرين عن السد بخصوصية، وهما أنه، أي السد، بني في مكان ارتفعت الجبال كجدارين على جانبيه، أي كان المكان مضيقًا جبليًا، وأن السد الذي أقيم به، استخدمت فيه زبر الحديد، وأفرغ عليها النحاس المذاب، وعلى ذلك يجب أن نجد السد في مضيق جبلي، ويجب أن يكون هو جدارًا حديديًا، لا جدارًا من الحجر والآجر، ويكون قد سد طريق المضيق الجبلي) اهـ.
(1) الكهف: 93.