الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفقرة الأولى
عرض إجمالي
تحكم الإنسان وهو في بطن أمه أسباب تختلف نوعا ما عن الأسباب التي تحكمه بعد ولادته، ولهذا العالم أسبابه وقوانينه، ولعالم البرزخ أسبابه وقوانينه، وللقيامة وما يكون بعدها أسباب وقوانين، وكل ذلك بعلم الله وإرادته وقدرته، فإذا ما جاءت النصوص القرآنية أو النصوص الحديثية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن يستغرب شيء منها لأن ذلك كفر بوجود الله وصفاته أصلًا، ومن رأى عظمة هذا الكون وامتداده ملايين السبين الضوئية وأنه كله بقدرة الله كيف يستغرب شيئًا على هذه القدرة أخبر الله عز وجل عنه أو أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن الله فاعله.
- لقد خلق الله عز وجل الماء والعرش، ثم من الماء خلق مجرات هذا الكون {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (2) ثم خلق الأرض بعد السماء ثم خلق السماوات السبع بعد الأرض، فال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (3)، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (4)، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (5) {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} (6). والسماوات السبع والكرسي والعرش مغيبة عنا في فهمي بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث صحيح:"والله لقد رأيت ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم"(7) قال الشيخ
(1) الرعد: 5
(2)
الذاريات: 47.
(3)
النازعات: 27، 28، 29، 30
(4)
البقرة: 29.
(5)
الطلاق: 12.
(6)
فصلت: 12
(7)
المستدرك (1/ 330) وصححه، ووافقه الذهبي، وقد ورد تقريبا من هذا المعنى في سياقات عند البخاري ومسلم.
عبد الفتاح أبو غدة في كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح عليه السلام:
وظاهر الحديث في رؤية الجنة والنار أنه صلى الله عليه وسلم رآهما رؤية عين، فمن العلماء من حمل ذلك على أن الحجب كشف له صلى الله عليه وسلم دونها، فرآهما على حقيقتهما، ومنهم من حمل ذلك على أنها مثلتا له في الحائط كما ينطبع الصورة في المرآة، فرآي جميع ما فيها. ويشهد لكل من هذين القولين أحاديث ذكرها الحافظ بن حجر في "فتح الباري" 2:448. وقال القاضي عياض: القول الأول- وهو أنها رؤية عين حقيقة- أولى كما حكاه عن النووي في "شرح صحيح مسلم" 6: 207، وأقره. أ. هـ.
أقول: وجمهور العلماء يذهبون أن الجنة الأن فوق السماء السابعة فهي كالجزء منها، فإذا رآها الرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها غيره، فذلك دليل على إنها مغيبة، وهذا يجعلنا نستأنس أن السماوات السبع كلها مغيبة عنا.
- وجعل الكرسي سقفا للسماوات السبع: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1). وجعل العرش سقفا لهذا العالم: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (2). وقد ورد في الحديث: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض"(3).
- وخلق الملائكة والإنس والجن والحيوانات والنباتات والجنة والنار.
- وكما أن الخلق كان بقدرة الله عز وجل ابتداء فإنه يحتاج إلى إمداد الله باستمرار، قال تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} (4)، ولذلك شبه بعضهم هذا الكون للإمداد الإلهي كنور الكهرباء في احتياجه لإمداد المولد الكهربائي ولله المثل الأعلى، ولذلك فلا محل لتساؤل من يتساءل أنه إذا مات الإنسان والحيوان وتفرقت أجزاؤهما فأصبحت في أجسام أخرى كيف تحشر هذه الأجسام نفسها فذرة الآن غير ذرة اللحظة السابقة واللاحقة، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (5)، ولا محل للتساؤل كيف تعرض الأعمال كلها تعرض الأيام والليالي وكيف تشهد الأرض والأعضاء مع
(1) البقرة: 255.
(2)
هود: 7.
(3)
الحديث رواه ابن جرير، وهو صحيح.
(4)
الإسراء: 20.
(5)
يس: 13.
أن بعض الأعضاء في الأحياء تتجدد.
نقول هذا بمناسبة أن علماء أهل السنة والجماعة يذكرون أن ما مر على الأجساد من أعراض وما مر من أزمنة يعرض كذلك على قول قوي لعلماء العقائد في الإسلام، فالزمن وما حدث فيه والأعراض التي مر عليها الإنسان والأحوال كلها تعرض يوم القيامة على الأنسان، قال الشيخ أديب الكيلاني رحمه الله وهو يشرح عقائد أهل السنة والجماعة: فما كان من الأعراض الملازمة للذات من بياض وطول ونحوه يعاد متعلقًا بها، وما كان من غير ذلك- كالكفر والمعاصي والإيمان والطاعة- فإنه يعاد مصورًا بصور حية، فتكون حسنة من الحسنات وقبيحة في السيئات، هذا هو الظاهر. وهذه الإعادة ليست دفعة واحدة بل هي على التدرج حسبما كانت في الدنيا، لكنها تمر كلمح البصر، وربك على كل شيء قدير.
قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) اهـ.
وقال: الأرجح أن جميع أزمنة الأجسام- التي مرت عليها في الدنيا- تعاد لتشهد الإنسان وعليه، بما أوقع فيها من الطاعات والآثام، لكنها إعادة على التدريج حسبما مرت في الدنيا وإن كانت في الآخرة أسرع أهـ.
ونعود للسياق الرئيسي في موضوعنا:
- هذا الكون بما فيه ماذا سيحدث له؟
إنه سيكون هناك نفخة في الصور يحدث فيها ما يحدث وهي التي تسمى نفخة الصعق ثم تكون نفخة أخرى يكون فيها بعث كل من مات من الأحياء، وبالنفخة الأولى تقوم القيامة وبالنفخة الثانية يبدأ اليوم الآخر على قول: قال الشيخ أديب الكيلاني رحمه الله: إن اول اليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى على الصحيح. وقيل حتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وإنما سمي آخرًا لأنه متصل لآخر أيام الدنيا لا أنه آخرها.
(1) غافر: 17.
وسمي يوم القيامة لقيام الناس من قبورهم بين يدي خالقهم، ولقيام الحجة لهم أو عليهم وله أسماء نحو الثلاثمائة أهـ.
ومنهم من يرى أن هناك نفخة قبل النفخة الأولى تسمى نفخة الفزع، والقول الراجح أنهما نفختان فقط.
- فماذا يحدث في النفخة الأولى وما بعدها:
أما السموات السبع فتطوى، والأرضون الست ماعدا أرضنا تجمع:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1)، ومجرات هذا الكون كلها تطوى فكما كانت كتلة واحدة ثم انفصلت ترجع كتلة واحدة:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (2) أما البشر والجن والحيوانات الموجودة وقتذاك فتصعق وتموت، وأما الأرض فتؤجج بحارها نارًا وتدك جبالها وتنسف وتمد بعد أن كانت كروية فتصبح كالبساط الواحد لا معلم فيها من جبال أو وديان أو أنهار أو غير ذلك.
أما الملائكة فيصعقون إلا بعضهم، ثم هؤلاء المستثنون على قول، وأما الأرواح التي قبضت من قبل فتصعق إلا روح موسى عليه السلام على قول- وأما الجنة وما فيها من الحور العين فلا يحدث لها شيء والنار لا يحدث لها شيء والعرش والكرسي في الظاهر لا يصيبهما مما يحدث شيء وقد أخذ العلماء هذه الاستثناءات من قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (3)، ومن استقراءات وتحقيقات كثيرة يرد معنا بعضها.
أما الشمس والقمر فيكوران ويجمعان مع بعضهما كما ورد في نص صحيح، ويحتمل أن يدمجا مع بقية العوالم والمجرات ليعود الكون كله كتلة واحدة وذلك كله مقدمة لتكوين جديد ووضع جديد.
- وفي النفخة الثانية يتم البعث والنشر للمخلوقات جميعًا، والنصوص تحدثنا بإجمال عن
(1) الزمر: 67.
(2)
الأنبياء: 104.
(3)
الزمر: 68.
حشر الحيوانات لتحقيق العدل ثم إفناؤها فتكون ترابًا، وتحدثنا بشيء من التفصيل عن أوضاع للحيوانات لها ارتباط بقضايا الإنسان كالحيوانات التي تجب فيها الزكاة ولا يؤدي الإنسان زكاتها، وعن الحيوانات التي يقتلها الإنسان عبثًا.
قال الشيخ الأديب الكيلاني رحمه الله عن البعث والحشر:
البعث عبارة عن إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بعد جمع الاجزاء الأصلية وهي التي من شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره، ولو قطعت قبل موته بخلاف التي ليس نت شأنها ذلك، كالظفر مثلًا، والحشر عبارة عن سوقهم جميعًا إلى الموقف، وهو الموضع الذي يقفون فيه لفصل القضاء، ووزن الاعمال، ومنه إما إلى جنة أو إلى نار، وهو أرض لم يعص الله عليها.
ولا فرق في الحشر بين من يجازي ومن لا يجازي، كالبهائم والوحوش، على ما ذهب إليه المحققون، وصححه النووي. وذهبت طائفة إلى أنه لا يحشر إلا من يجازي، أما السقط -إن لم ينفخ فيه الروح- فكسائر الأجسام التي لا روح فيها، وأما -إن نفخت فيه- فيحشر ويصير عند دخول الجنة كأهلها في الجمال والطول. اهـ.
- ويوم القيامة مدته خمسون ألف سنة قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (1)، وقد ورد في نصوص حديثية صحيحة هذا التحديد، ويختلف حال الناس في استشعار طوله وفي مكثهم في الموقف واستقرارهم في الجنة أو النار.
- وبعد البعث يحشر الناس إلى أرض المحشر ومركزها بلاد الشام، وهناك يكون الموقف، فمن الخلق من يكون في ظل الرحمن، ومنهم من يكون بالعراء، ويخلق الله شمسًا دانية من العباد وتكون شدة الحر أكثر منحر الدنيا بعشرة أمثال، ويؤمر الناس بالاصطفاف والوقوف استعدادًا كوقفة الجندي وصف العساكر "ويؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام على كل زمام سبعون ألف ملك ويؤتى بالجنة فتكون ملاصقة للنار وعلى النار الصراط".
(1) المعارج: 4.
- ويطول الوقوف ويفزع الناس إلى الأنبياء ليشفعوا لهم ليبدأ فصل القضاء إما إلى جنة وإما إلى نار فلا يشفع لفصل الخطاب إلا محمد صلى الله عليه وسلم وعندئذ تبدأ مواقف جديدة متعددة، فمن ذلك ما يصفه الله عز وجل بقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (1). وتؤمر كل أمة أن تتبع ما كانت تعبد من دون الله، وتميز الأمم عن بعضها بعضًا، ويكون هناك جدال وعتاب ومعاذير وإقامة حجج، ويكون هناك في موقف من المواقف عرض للأمم كلها على النار فتجثوا الأمم كلها باركة على ركبها حول النار، وفي موقف من المواقف تشهد الأنبياء على أممها، وتشهد أمتنا لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، يكون هناك حوار بين الأتباع والمتبوعين، وفي موقف من المواقف يدعى أئمة الهدى وأئمة الضلالة، فيرجع أئمة الهدى بالبشرى لمن تابعهم، ويرجع أئمة الضلالة ببشارة السوء لمن تابعهم. وفي هذه الأجواء تكون براءة من المتبوعين على الضلال، ويتمنى الأتباع لو أنهم أعيدوا إلى الحياة الدنيا ليتبرأوا ممن اتبعوهم، ثم يطير صحف أعمال العباد فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وآخذ وراء ظهره، ويقال إن الآخذين وراء ظهورهم هم أصحاب الشمال أنفسهم، ثم يبدأ الحساب وهو قبل الوزن والميزان.
قال الشيخ الأديب الكيلاني رحمه الله: والحساب حق: أي ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وهو توقيف الله الناس على أعمالهم خيرًا كانت أم شرًا، قولًا كان أو فعلًا، بعد أخذهم كتبها، ويشمل الحساب المؤمن والكافر من الإنس والجن، إلا من استثنى الله تعالى منهم اهـ.
والنصوص تدل على أن بعض أهل الجنة لا يحاسبون. ويذهب بعض الناس إلى أن بعض أهل الكفر لا يحاسبون، ولكن الظاهر أن هذا القول مرجوح، لأن إدخال أهل الجنة بدون حساب فضل، أما أهل النار فمن سنة الله عز وجل أن يقيم عليهم الحجج كاملة. قال الشيخ أديب: ولا يشغله سبحانه محاسبة أحد عن أحد بل يحاسب الناس جميعاً معاً، حتى أن كل أحد يرى أنه المحاسب وحده وكيفية الحساب مختلفة، فمنه اليسير والعسير، والسر والجهر، والتوبيخ والفضل والعدل. اهـ.
(1) البقرة: 210.
وفي مقام الحساب وفي مقامات أخرى تكون شهادات، قال الشيخ الأديب الكيلاني رحمه الله: وفيه شهادة الألسنة والأيدي والأرجل والسمع والجلد والأرض والليل والنهار والحفظة، أما الانبياء والأولياء وسائر الصلحاء فهم عن كل هذا مبعدون اهـ.
وبعد الحساب: يكون الوزن والميزان فتدعى الأمم كلها إلى الوزن والميزان، فتحضر الأمم للوزن جاثية على ركبها. قال تعالى:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} (1).
وهكذا يحضر الناس وبيد كل واحد منهم صحيفته، قال الشيخ الأديب الكيلاني رحمه الله: إن أخذ الصحف واجب لوروده بالكتاب والسنة ولانعقاد الإجماع عليه، فمن أنكره كفر، والصحف هي الكتب التي كتب فيها الملائكة ما فعله العباد في الدنيا، ولكل مكلف صحيفة واحدة يوم القيامة، وإن كانت متعددة في الدنيا اهـ.
فكل إنسان بيده صحيفته، ولكل إنسان كتابه الذي ضم ما سجلته الملائكة عليه، وهناك الكتاب الذي سجل فيه كل شيء على الأفراد والأمم.
ويبدأ الوزن والميزان، أما الكافرون فلا قيمة لأعمالهم ولا وزن، وأما المؤمنون فتوزن حسناتهم وسيئاتهم إلا من يستثنى ممن لا حساب عليهم أصلًا، وفي هذا المقام يقول الشيخ أديب رحمه الله: والميزان: هو ميزان واحد على الراجح له قصبة وعمود وكفتان، كل منهما أوسع من أطباق السموات والأرض، وجبريل آخذ بعموده ناظر إلى لسانه وميكائيل أمين عليه، ومحله بعد الحساب، وقيل لكل عامل موازين يوزن بكل منها صنف من عمله.
وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر، فيجب الإيمان به، ونمسك عن تعيين حقيقته.
وقال: أما الكفر فلا فائدة في وزنه، لأن عذابه دائم، وقد ورد في كلام القرطبي ما يدل على أنه يوزن حيث قال: فتجمع له هذه الأمور وتوضع في ميزان الكافر فيرجح الكفر بها.
وقال: اختلف العلماء في الموزون فذهب جمهور المفسرين، إلى أن الموزون هي الكتب
(1) الجاثية: 28.
المشتملة على أعمال العباد بناء على أن الحسنات مميزة بكتاب، والسيئات بآخر.
وذهب بعضهم إلى أن الموزون أعيان الأعمال، فتصور الاعمال الصالحة بصورة حسنة نورانية، ثم تطرح في كفة النور، وهي اليمنى، فتثقل بفضل الله سبحانه. وتصور الأعمال السيئة بصورة قبيحة ظلمانية، ثم تطرح في كفة الظلمة، وهي الشمال، فتخف وهذا في المؤمن. أما الكافر فتخف حسناته وتثقل سيئاته بعدل الله سبحانه وتعالى. وقيل: قد يوزن الشخص نفسه.
وقال: يجازي الله على السيئات بعقاب يليق بها، إن جازى عليها، وله أن يعفو عنها إن لم تكن كفرًا، وإلا خلد صاحبه في النار، والسيئة ما يذم فاعلها عليها شرعًا، صغيرة كانت أو كبيرة. وسميت سيئة لأن فاعلها يساء عند المقابلة عليها يوم القيامة. والمراد بها التي عملها العبد حقيقة، أو حكمًا بأن طرحت عليه لظلامة اجترحها بعد نفاد حسناته، فإنه يؤخذ من حسنات الظالم ويعطى للمظلوم، فإذا نفدت حسنات الظالم طرح عليه من سيئات المظلوم، ثم قذف بالظالم في النار.
أما الحسنات فيضاعفها الله تعالى بفضله، إذ لا يجب عليه ذلك. والحسنة مما يمدح عليها صاحبها شرعًا، وسميت حسنة لحسن وجه صاحبها عند رؤيتها يوم القيامة، المراد الحسنات المقبولة المعمولة للعبد أو ما في حكمها بأن عملها عنه غيره كما إذا تصدق غيره عنه بصدقة. أما الحسنات المأخوذة نظير ظلامة فلا تضاعف. والحسنات المردودة ما خالطها الرياء، فهذه لا ثواب فيها أصلًا. الحسنة التي يهم الإنسان بفعلها ولكنه لا يفعلها تكتب حسنة واحدة من غير تضعيف .. وأقل مراتب التضعيف عشر مراتب، وقد تضاعف إلى سبعين، إلى سبعمائة، أو أكثر من غير انتهاء إلى حد تقف عنده. وتفاوت هذه المراتب إنما هو تبع لما يقترن بالحسنة من إخلاص، وحسن نية اهـ.
ويعرف بالوزن والميزان كل إنسان نتيجة عمله والظاهر أنه قبل الوزن يحاول الناس أن يشربوا من أحواض أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، وتشرب هذه الأمة من حوض رسولها صلى الله عليه وسلم، فيرد من يرد ويشرب من يشرب ويحبس الناس في الظلمة دون الصراط، وههنا
يحدث تبدل جديد للأرض، فمال الأرض في النهاية إلى أن تكون خبزة يأكلها أهل الجنة وتوجد سموات جديدة، والظاهر أنه في هذا الموقف يؤمر آدم بأن يخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، ويخرج عنق من النار فيأخذ أصنافًا من الناس ويبدأ أهل النار يردون على النار أفواجًا أفواجًا كل أمة مع أئمتها في الضلال وأئمة الضلال يدخلون النار قبل أتباعهم، والسابقون من الأمم في الغواية يدخلون النار قبل اللاحقين، فكل شيء في الآخرة على غاية من الترتيب والنظام والعدل والانضباط.
ومن كتب له المرور على الصراط لا يمر إلا بعد شفاعة جديدة من رسولنا صلى الله عليه وسلم، فبعد أن يلجأ الناس إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مرة ثانية فيحيلون الأمر إلى رسولنا عليه الصلاة والسلام فيشفع ويؤذن بالمرور على الصراط، والظاهر أن المنافقين يبقون مع المؤمنين طامعين فيأن يعبروا معهم على الصراط، فيضرب بينهم وبين المؤمنين بسور باطنه فيه الرحمة وظاهرة من قبله العذاب، فبعض العلماء يقولون إن هذا السور يضرب في أول الصراط، والظاهر أنه لا يعبر على الصراط إلا من له نور مهما كان هذا النور ضعيفًا، والذين يمرون على الصراط بعضهم تكون سيئاتهم أكثر من حسناتهم فلا يعبرون بل يسقطون في النار، وبعضهم تكون حسناتهم أكثر فيعبرون، وبعضهم تتساوى حسناتهم وسيئاتهم فيعبرون، وهؤلاء هم أهل الأعراف الذين يكونون في مكان بين الجنة والنار أمدًا من الزمن، ومالهم إلى الجنة بإذن الله.
وعلى ضوء صحائف الأعمال التي تكون بيد المارين على الصراط تقتص الملائكة من بعض المؤمنين لبعض، فينجو من نجا، ويسقط في النار من لا تكفي حسناته الزائدة على سيئاته ليأخذها من له عليه حق، حتى إذا تجاوز الناجون الصراط يبقى بعضهم على الأعراف، ويحبس الأخرون فلا يؤذن لهم بدخول الجنة حتى يشفع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه شفاعة ثالثة تكون بعد أن يلجأ الناس إلى الأنبياء فيحيلونهم على رسولنا عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا المقام تنزع الاحقاد من القلوب، وتبدأ شفاعات بمن دخل النار من أهل الإيمان، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وتستمر الشفاعات، ويخرج أهل الإيمان من النار،
وعندئذ يذبح الموت بين الجنة والنار، ويكتب الخلود لكل من أهل الجنة والنار، وكل في موطنه، وفي ذبح الموت أعظم بشارة لأهل الجنة وأعظم كآبة لأهل النار.
ومن كلام الشيخ أديب الكيلاني رحمه الله عن الصراط والجنة والنار ما يلي:
كذا الصراط
…
[أي] في وجوب الإيمان به، لورود الدليل السمعي، مثل أخذ العباد الصحف ومثل الوزن والميزان. ومعناه -لغة- الطريق الواضح، لأنه يصرط المارة أي يبتلعهم، وشرعًا: هو جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون حتى الكفار. إلا أن الحليمي ذهب إلى أنهم لا يمرون، ويجوز أنه قصد بالكفار الذين لا يمرون من تلقي بهم الملائكة في النار من الموقف. وكل من يمر ساكت إلا الأنبياء يقولون:"اللهم سلم سلم".
وفي بعض الروايات "أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف"، وهو المشهور ونازع في ذلك العز بن عبد السلام والشيخ القرافي، وغيرهما كالبدر الزركشي. قالوا: على فرض صحة ذلك فهو محمول على غير ظاهره، بان يؤول: بأنه كناية عن شدة المشقة، وحينئذ فلا ينافي ما ورد في الأحاديث الدالة على قيام الملائكة على جنبيه، وكون الكلاليب فيه. وزاد القرافي: والصحيح أنه عريض، وفيه طريقان يمنى ويسرى، فأهل السعادة يسلك بهم ذات اليمين، وأهل الشقاوة يسلك بهم ذات الشمال، وفيه طاقات، كل طاقة تنفذ إلى طبقة من طبقات جهنم. وقال بعضهم: إنه يدق ويتسع بحسب ضيق النور وانتشاره، فعرض صراط كل أحد بقدر انتشار نوره فإن نور كل إنسان لا يتعداه إلى غيره. ومن هنا كان دقيقًا في حق قوم، عريضًا في حق آخرين.
وتفاوتهم في المرور إنما هو بحسب تفاوتهم في الإعراض عن حرمات الله تعالى، فمن كان منهم أسرع إعراضًا عما حرم الله كان أسرع مرورًا في ذلك اليوم.
النار التي هي دار العذاب ثابتة بالكتاب والسنة، واتفاق علماء الامة. أوجدها الله تعالى فيما مضى كالجنة التي هي دار الثواب. فالنار حق كالجنة، وهما موجودتان الآن.
ولم يرد نص صريح في تعيين مكانهما، كما في شرح المقاصد. إلا أن الكثيرين على أن الجنة فوق السموات السبع وتحت العرش، وأن النار تحت الارضين السبع. والحق تفويض
علم ذلك إلى اللطيف الخبير.
واختلف في الجنة هل هي سبع جنات متجاورات، أو أربع، أو جنة واحدة؟ فذهب ابن عباس إلى أنها سبع، أفضلها وأوسطها الفردوس وهي أعلاها، والمجاورة لا تنافي العلو، وفوقها عرش الرحمن، ومنها تنفجر أنهار الجنة، ويليها في الأفضلية "عدن" ثم "الخلد" ثم "النعيم" ثم "المأوى" ثم "دار السلام" ثم "دار الجلال.
وذهب الجمهور إلى أنها واحدة، وهذه الأسماء كلها جارية عليها لتحقق معانيها.
وأولاد المشركين في الجنة على الصحيح، ولا فرق في السعادة والشقاوة بين إنسي وجني.
الناس في الموقف على حالتهم التي ماتوا عليها. ثم يدخل المؤمنون الجنة جردًا مردًا أبناء ثلاث وثلاثين سنة، طول كل واحد منهم ستون ذراعًا، وعرضه سبعة أذرع، ثم لا يزيدون ولا ينقصون اهـ.
-ومما مر معنا نعرف أن لرسولنا صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات متميزة، لا يشاركه فيها غيره، وهذه الشفاعات الثلاث هي المقام المحمود، يطلق على ثلاثتها المقام المحمود، ويطلق على كل منها المقام المحمود، وله شفاعات أخرى، فالمقام المحمود يتمثل بثلاث شفاعات:
الشفاعة الأولى: بعد طول المقام في الموقف وهي التي تسمى الشفاعة لفصل الخطاب وهي التي يكون بعدها الجدال والمعازير والشهادات والحساب والميزان.
الشفاعة الثانية: للإذن لعبور الصراط وتكون بعد لجوء إلى الأنبياء وإحالة على رسول الله صلوات الله وتسليماته.
الشفاعة الثالثة: تكون كذلك بعد لجوء إلى الأنبياء وإحالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الشفاعة للإذن بدخول الجنة.
-وكثيرًا ما يحدث أن رواة الاحاديث يتحدثون بمناسبة الكلام عن المقام المحمود عن شفاعة من هذه الشفاعات الثلاث ويطوون غيرها، فيلتبس الفهم على القارئ، والتحقيق أن الأمر كذلك.
- ونحن إذا نعرض نصوص السنة قد لا تقف لبيان هذه الحقيقة اكتفاء بما ذكرناه هنا، فليبق القارئ على ذكر لذلك.
- ومن عقائد أهل السنة والجماعة أنه في الموقف وفي الصراط وفي الجنة وفي النار يكون للملائكة وظائفهم.
- وفي الموقف يرى أهل الإيمان الله عز وجل نوع رؤية وإنما تكون الرؤية للجلال والجمال في الجنة وذلك أعظم نعيم أهل الجنة.
- والنار على طبقات والجنة على درجات ومنازل وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من أصناف الملذات والنعيم والبهجة والسرور والمتعة.
- والجن المؤمنون لهم ما للإنس المؤمنين، والكافرون من الجن لهم ما للإنس الكافرين، وكذلك شأن الفساق من الجن.
- ومشاهد القيامة ووصف النار والجنة يأخذ من الكتاب والسنة حيزًا كبيرًا؛ لأن ذلك هو المقصد الثاني من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد معرفة الله عز وجل، وقد أعاد بعض المفسرين الضمير في قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (1) على القرآن، فمن أعظم مقاصد القرآن تبيان أمر اليوم الآخر، قال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (2).
- ولكي تقوم الحجة على الخلق قيامًا كاملًا جعل الله عز وجل كتابه القرآن معجزًا، وجعل فيه من المعجزات الكثير، وجعل أمر محمد صلى الله عليه وسلم بينًا، وأظهر على يديه وعلى لسانه من المعجزات الكثير، وأرسل قبله الرسل وبعث الأنبياء مبشرين بما بشر به، ومنذرين بما أنذر به ليكون ذلك توطئة وتمهيدًا وتشييدًا لصرح الإيمان.
- وقد رأينا في هذا القسم كيف أن الأديان السابقة فيها شواهد على صحة المعاني
(1) الزخرف: 61.
(2)
الأعراف: 53.
الكبرى التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، ورأينا أنها حرفت وبدلت وطمست معالمها وأصبحت أحكامها ضائعة أو بحاجة إلى تغيير فجاءت الرسالة الخاتمة مصححة وناسخة ومبينة ومطالبة للإنس والجن باتباعها وحدها.
- ولا مطمع لمن يريد أن يعرف تفصيلات ما يجري في اليوم الآخر إلا بأن يستعرض نصوص الكتاب والسنة وفهوم الراسخين في العلم من علماء هذه الأمة.
- ونختم هذا العرض الإجمالي بالتذكير: أن الله عز وجل يجعل لرسولنا عليه الصلاة والسلام ولأمتنا من الكرامة والفضل ما يمتازون به على غيرهم من الأمم يظهر ذلك في الموقف وفيما بعده وفي الجنة.
- وهذا لا ينفي أن يكون للأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين من كل الأمم ميزانهم، وهناك تفصيلات ستمر معنا، وبعضه قد مر من قبل في القسم السابق عند الكلام عن فضل الأمة المحمدية.
- وها نحن سنعرض عليك نصوصًا من الكتاب والسنة في فقرات متعددة تجعلك على بيان في هذه الحقيقة العظمى التي غفل عنها أكثر الخلق.
فائدة:
من عقائد أهل السنة والجماعة ما ذكره الشيخ اللقاني:
وواجب تعذيب بعض ارتكب
…
كبيرة ثم الخلود مجتنب
وقد شرح هذا البيت أديب الكيلاني بقوله:
وواجب تعذيب بعض: إن تعذيب بعض غير معين من عصاة هذه الأمة، ارتكبوا الكبيرة، من غير تأويل ويعذرون به، وماتوا بلا توبة، ثابت وواقع شرعًا، بخلاف من ارتكب صغيرة أو كبيرة بتأويل، كما يقع من البغاة المتأولين، أو ارتكبها من غير تأويل لكنه مات بعد التوبة. والمقصود هنا أمة الإجابة. والمراد ببعض طائفة، ولو واحدًا من كل صنف من أصناف العصاة كالزناة، وقتلة الأنفس، وشاربي الخمر. فلابد من نفوذ
الوعيد في طائفة من كل صنف، أقلها واحد. وهذه المسألة على طريقة الماتريدية، من أنه لا يجوز تخلف الوعيد. وذهب الأشاعرة إلى جواز تخلفه، لأنه على تقدير المشيئة، فإن شاء عذب، وإن شاء غفر. نعم، قد ورد تعذيب بعض الموحدين، والشفاعة فيهم، لكن لا يعم الأنواع كلها. والحاصل: أن الناس قسمان مؤمن وكافر فالكافر مخلد -إجماعًا- في النار. والمؤمن قسمان، طائع وعاص، فالطائع -إجماعًا- في الجنة، والعاصي على قسمين، تائب وغير تائب فالتائب -إجماعًا- في الجنة، وغير التائب متروك للمشيئة، وعلى تقدير عذابه لا يخلد في النار اهـ (شرح جوهرة التوحيد).
* * *