الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
12 -
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا» .
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ ، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عز وجل (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (144)، كتاب: الوضوء، باب: لا تستقبل القبلة بغائط أو بول، إلا عند البناء؛ جدار أو نحوه، و (386)، كتاب: القبلة، باب: قبلة أهل المدينة، وأهل الشام، والمشرق، ومسلم (264)، كتاب: الطهارة، باب: الإستطابة، وعندهما:«قبل القبلة» بدل: «نحو القبلة» ، وليس في رواية البخاري «عنها» في قوله:«فننحرف عنها» . ورواه أيضا: أبو داود (9)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، والنسائي (21)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة، و (22)، كتاب: الطهارة، باب: الأمر باستقبال المشرق أو المغرب عند الحاجة، والترمذي (8)، كتاب: الطهارة، باب: في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وابن ماجه (318)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول. =
الغائط: المطمئن من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره بخاص اسمه.
والمراحيض: جمع المرحاض، وهو المغتسل، وهو -أيضا- كناية عن موضع التخلي.
* * *
* التعريف:
أبو أيوب رضي الله عنه: اسمه: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم، وقيل: ابن عبد عوف، وقيل: حسم بن غنم بن مالك بن النجار بن عمرو بن الخزرج.
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة الثانية، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة حتى بنى مسجده ومساكنه.
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
«معالم السنن» للخطابي (1/ 16)، و «عارضى الأحوذي» لابن العربي (1/ 23)، و «إكمال المعلم» للقاضي عياض (2/ 66)، و «المفهم» للقرطبي (1/ 521)، و «شرح مسلم» للنووي (3/ 58)، و «شرح عمدة الأحكام9) لابن دقيق (1/ 151)، و «النتوضيح» (4/ 101)، و «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» كلاهما لابن الملقن (1/ 438)، و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 245، 298)، و «عمدة القاري» للعيني (2/ 276، 4/ 128)، و «فيض القدير» للمناوي (1/ 239)، و «كشف اللثام» للسفاريني (1/ 185)، و «سبل السلام» للصنعاني (1/ 79)، و «نيل الأوطار» للشوكاني (1/ 97).
وروي عن أبي أيوب: أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في بيتنا الأسفل، فكنت في الغرفة، فأهريق في الغرفة ماء، فقمت أنا وأم أيوب لقطيفة لنا نتتبع الماء ننشفه؛ أي: نخلص الماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مشفق، فنزلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ليس ينبغي أن نكون فوقك، انتقل إلى الغرفة، فأمر بمتاعه، فنقل، ومتاعه قليل (1).
وروي عنه: أنه قال: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل في دارنا، فقلنا: العلو يا رسول الله! فقال: «السُّفْلُ أهون علينا، وعلى من يغشانا» ، فقالت أم أيوب حين أمسينا: يا أبا أيوب! تنام ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منا؟! فلم ننم حتى أصبحنا، فنزلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له الذي قالت أم أيوب.
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين مصعب بن عمير، وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجمل، وصفين، ثم سكن دمشق، ولم يزل يغزو الروم حتى قُبض في غزوة غزاها يزيد بن معاوية.
وروى ابن السكن في كتاب «الصحابة» له بإسناده إلى أبي أيوب: أنه مرض في الغزوة، فقال لأصحابه: إذا أنا مت، فخذوني فاحملوني، فإذا صاففتم العدو، فادفنوني تحت أقدامكم، انتهى.
وكانت تلك الغزوة غزوة قسطنطينة، ودفن أبوا أيوب في أصل سور القسطنطينة في تلك الغزوة، سنة إحدى وخمسين، وقيل: اثنتين
(1) رواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/ 43).
وخمسين، وقيل: سنة خمسين، والمشهور الثاني، وقيل: إن الروم إذا أجدبوا، استسقوا بقبره، وبنوا الروم على قبره بناءً، وعّلقوا عليه أربعة قناديل تسرج (1).
وكان قد نزل على عبد الله بن عباس البصرة، فأنزله ابن عباس منزله، وقاسمه ماله.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وخمسون حديثًا، اتفقا منها على سبعة، وانفرد البخاري بحديث واحد، ومسلم بخمسة.
روى عنه البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والمقداد بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن خالد الجهني، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن يزيد الخطمي.
ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعطاء بن يزيد، وعبد الله بن حنين، وخلق سواهم.
روى له الجماعة (2).
(1) قلت: لا يشرع تعليق القناديل ولا تزيين ولا غير ذلك مما يفعله الجهلة بقبور الصحابة والأولياء والصالحين؛ إذ لم يرد عن السلف الصالح -وهم خير وأمثل من هؤلاء الجهلة بلا مراء- فعل هذه الأمور، والله الهادي.
(2)
وانظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (3/ 484)، و «الثقات» لابن حبان «3/ 102)، و «الاستيعاب» لابن عبد البر (2/ 424)، و «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (1/ 153)، و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (16/ 33)، و «صفة الصفوة» لابن الجوزي (1/ 468)، و «أسد الغبة» =
* ثم الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: اختلفوا في هذا النهي، هل هو على عمومه في الصحراء والبنيان، أو هو مختص بالصحراء؟
فذهب مالك، والشافعي، (وإسحاق بن راهويه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه رضي الله عنهم: إلى أن ذلك لا يجوز في الصحارى، ويجوز في البنيان، وروي ذلك عن العباس بن عبد المطلب، وابن عمر رضي الله عنهما وجعل مالك المراحيض إذا ألجأت إلى ذلك، وإن لم يكن ساتر، كما لو كان ثم ساتر.
وفي جواز الاستقبال والاستدبار مع وجود الساتر، وإن لم يكن ثم مراحيض روايتان عنه.
وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو ثور، وأحمد في رواية: لا يجوز، لا في البنيان، ولا في الصحارى؛ وهو مذهب أبي أيوب راوي الحديث رضي الله عنه.
وقال عروة بن الزبير، وربيعة، وداود الظاهري: يجوز ذلك في الصحارى والبنيان.
= لابن الأثير (6/ 22)، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 469)، و «تهذيب الكمال» للمزي (8/ 66)، و «سير أعلام النبلاء» ل)، و «تهذيب التهذيب» له أيضا (3/ 79).
وفي رواية عن أبي حنيفة، وأحمد: منع الاستقبال في الصحارى والبنيان، وجواز الاستدبار فيهما، فهذه أربعة مذاهب.
احتج المانعون مطلقًا بهذا الحديث، وغيره من الصحيح؛ كحديث سلمان: قال المشركون: لقد علمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة!! قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو نستنجي برجيع أو عظم، رواه مسلم، والترمذي، وأبو داود، والنسائي (1)، وبحديث أبي هريرة:«إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، فإذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه» ، وكان يأمرنا بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث، والرمة (2)، وغير ذلك من الصحيح، وأبقوا العموم على ظاهره، قالوا: ولأنه إنما مُنع لحرمة القبلة، وهذا المعنى موجود، كان البنيان، أو لم يكن، قالوا: ولأنه لو كان الحائل كافيا، لجاز في الصحراء؛ لأن بيننا وبين الكعبة جبالاً وأودية، وغير ذلك من أنواع الحائل.
(1) رواه مسلم (262)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، والترمذي (16)، كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة، وأبو داود (7)، كتاب: الطهارة، باب: كراهعية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، والنسائي (41)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار.
(2)
رواه أبو داود (8)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند
قضاء الحاجة.
وتعّلق من أجاز ذلك مطلقًا بحديث ابن عمر الآتي: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً بيت المقدس، مستدبرا الكعبة (1)، وبحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال النبي: أوقد فعلوها؟! استقبلوا بمقعدتي للقبلة» (2) رواه أحمد بن حنبل في «مسنده» ، وابن ماجه، وإسناده حسن.
قال صاحب «البيان والتقريب» : فحمله ربيعة وداود على الإطلاق، وليس بمستقيم؛ فإن في الحديث ما يدل على أن ذلك في البنيان.
قلت: وهو ظاهر مكشوف، واحتج مالك رحمه الله ومن وافقه بحديث ابن عمر المذكور آنفًا؛ وهو في البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، فأخذوا منه جواز ذلك في البنيان، وبحديث جابر، قال: نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها. رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وإسناده حسن (3). وبحديث مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ
(1) سيأتي تخريجه في الحديث الثالث من هذا الباب.
(2)
رواه الإمام أحمد في «المسند» (6/ 227)، وابن ماجه (324)، كتاب: لكهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحارى.
قال الترمذي في «العلل» (ص: 24): سألت محمدا -يعني: البخاري- عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها.
(3)
رواه أبو داود (13)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، والترمذي =
راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ قال: بلى! إنما نُهِيَ عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس. رواه أبو داود وغيره (1).
فهذه أحاديث صحيحة صريحة بالجواز في البنيان، وحديث أبي موسى، وسلمان، وأبي هريرة، وغيرهما وردت بالنهي، فتحمل على الصحراء للجمع بين الأحاديث.
ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث: أنه لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها، والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه، فوجب المصير إليه.
وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى؛ بأنه تلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة، بخلاف الصحراء.
وأما من أباح الاستدبار، ومنع الاستقبال، فحجته: أن حديث سلمان ليس فيه إلا الاستقبال، فبقي جواز الاستدبار على أصل الإباحة.
قال صاحب «البيان والتقريب» : وهو ضعيف، فإنه إن سكت
= (9)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء من الرخصة في ذلك، وابن ماجه (325)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكنيف وإباحته دون الصحارى.
(1)
رواه أبو داود (11)، طتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وابن خزيمة في «صحيحه»:(60)، والحاكم في «المستدرك»:(551)، وغيرهم.
عنه في حديث، فقد صرح به في حديث آخر، فإن قالوا في حديث ابن عمر: إنه استدبر، قلنا: كان ذلك في البنيان، فأصح الأقوال ما قاله (1) مالك.
إلا أني أقول: في تخصيص عمومات هذه الأخبار الواردة بالمنع مطلقًا بحديث ابن عمر نظر؛ فإنه إنما يخصص العموم بأمر (2) يغلب على الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد به أن يكون بيانا لتخصيص اللفظ (3) العام، ويبعد -في المعروف من عادته- أن يكون قصد أن يطلع عليه ابن عمر لينقل عنه ذلك للأمة، حتى يخصص لفظ (4) العام بذلك؛ فإنه عليه الصلاة والسلام كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، فكيف يقصد أن يرى في مثل هذه الحال؟! وقد كان إذا أراد الخلاء، أبعد في المذهب.
لكن الجواب عن ذلك أن نقول: لعله عليه الصلاة والسلام كان عازما على أن يبين لهم تخصيص لفظه بغير هذا الفعل، فلما جلس ظانا أنه لا يراه أحد (5)، ثم رأى ابن عمر قد رآه، علم أنه يروي ذلك للناس، فيخصصون به عموم لفظه، فاكتفى بذلك، انتهى.
(1) في (ق): "قال.
(2)
بأمر زيادة من (ق).
(3)
في (ق): "بالتخصيص العام.
(4)
في (خ): لفظ.
(5)
في (ق): "أحدا.
قلت: وتعين أن يعتقد أن ابن عمر رضي الله عنه (1) لم يقصد الاطلاع على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، وإنما كان ذلك منه على سبيل الاتفاق، وأنه لم ير إلا أعاليه صلى الله عليه وسلم دون أسافله.
الثاني: اختلف أصحابنا في تعليله: فقيل: حرمة القبلة، وقيل: حرمة المصلين من الملائكة، والصحيح الأول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا أتى أحدكم البَراز، فليكرم قبلة الله، فلا يستقبلها، ولا يستدبرها» رواه الدارقطني (2).
وينبني على ذلك مسألة: وهي ما إذا كان في الصحراء، وثمّ ساتر لا يلجئ (3)؛ فإن عللنا باحترام القبلة، فالمنع، وإن عللناه برؤية المصلين، فالإباحة (4).
الثالث: هل الجماع كقضاء الحاجة أو لا، ينبني على محل العلة - أيضا -، هل (5): هو الخارج، فيجوز الجماع؛ إذ لا خارج، أو كشف
(1) في (ق): "عنههما.
(2)
رواه الدارقطني في «سننه» (1/ 57)، ومن طريقه: البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 111)، عن طاوس مرسلا. قال ابن القطان: وإسناده ضعيف، فإنه دائر على زمعة بن صالح وقد ضعفه أحمد بن حنبل وابن معين وأيو حاتم .. انظر:«نصب الراية» للزيلعي (2/ 103).
(3)
في (ق): "انجلى.
(4)
ذكره بنحوه ابن دقيق العيد في «شرح عمدة الأحكام» (1/ 53).
(5)
في (خ): قيل.
العورة، فيمتنع إذا كشف.
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: «ولكن شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» : قال الخطابي، وغيره: هو محمول على محل يكون التشريق والتغريب مخالفًا لاستقبال القبلة واستدبارها؛ كالمدينة، والشام، والمغرب، وما في معناها من البلاد (1).
الخامس: الشأم: -مهموز مقصور-، ويجوز: تخفيف الهمزة، ويجوز: الشآم - بفتح الشين والمد -، وهي ضعيفة، وإن كانت مشهورة.
قال صاحب «المطالع» : وأنكرها أكثرهم (2)، وهو من العريش إلى الفرات طولاً، وقيل: إلى نابلس (3).
وانتصابه على الظرفية، لا على المفعولية، أعني قوله:«فقدمنا الشام» .
السادس: قوله: «فننحرف عنها» : قيل: معناه: نحرص على اجتنابها بالميل عنها قدرتنا.
السابع: قوله: «ونستغفر الله عز وجل» : قال صاحب «المفهم» : هذا دليل على أنه لم يبلغه حديث ابن عمر، أو لم يره مخصصا،
(1) انظر: «معالم السنن» للخطابي (1/ 16).
(2)
وانظر: «مشارق الأنوار» للقاضي عياض (2/ 262).
(3)
انظر: «معجم ما استعجم» لأبي عبيد البكري (3/ 773).
وحمل (1) ما رواه على العموم (2).
قلت: إن صح هذا الثاني، فهو يضعف قول بعض المتأخرين من أهل الأصول: إن العموم في الذوات مطلق في الزمان والمكان، والأحوال والمتعلقات، والراجح عند جماعة من المحققين خلافه.
وقوله: «نستغفر الله» ، قيل: لباني الكنف على هذه الصفة الممنوعة عنده، وإنما حملهم على هذا التأويل: أنه إذا انحرف (3) عنها، لم يفعل ممنوعا، فلا يحتاج إلى الاستغفار.
ق: والأقرب أنه استغفار لنفسه، ولعل ذلك لأنه استقبل واستدبر (4) بسبب موافقته لمقتضى البناء غلطًا، أو سَهْوًا، فيتذكر، فينحرف، ويستغفر الله.
قال: فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعل إثمًا، فلا حاجة للاستغفار.
قلت: أهل الورع والمناصب العلية في التقوى، قد يفعلون مثل هذا، بناءً على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداءً، والله أعلم، انتهى كلامه (5).
(1) ففي (ق): "بحمل.
(2)
انظر: «المفهم» للقرطبي (1/ 522).
(3)
في (خ): لأنه إذ لم ينحرف.
(4)
استقبل واستدبر ليس من (خ)
(5)
انظر: «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (1/ 55).
* ولنذكر من آداب الاستنجاء ما تمس الحاجة إليه في حق كل مكلف:
فمنها: الإبعاد عن أعين الناظرين بحيث لا يرى شخصه، ولا يسمع صوت خارجه.
ومنها: أن يرتاد موضعا دمثًا؛ لئلا يتطاير عليه.
ومنها: الستر بحيث لا يكشف عن عورته حتى يدنو من الأرض.
ومنها: اتقاء المواضع المنهي عن ذلك فيها، وهي طرق المسلمين، وظلالهم، ومواردهم، والحجرة، والماء الراكد، والشجرة المثمرة.
ومنها: أن يستعد ما يزيل به النجاسة.
ومنها: أن يستعيذ بالله قبل التلبس، على ما تقرر.
ومنها: أن يعتمد في جلوسه على يساره.
ومنها: أن ينزع خاتمه، إذا كان فيه اسم الله تعالى.
قال اللخمي: واختلف إذا كان في شماله خاتم فيه اسم الله تعالى، هل يستنجي وهو في يده؟
قال: وأن لا يفعل ذلك (1) أحسن؛ للحديث، وقد ثبت في «الصحيحين»: أنه نهى أن يمس الذكر (2) بيمينه (3)، فإذا نزهت اليد اليمنى
(1) ذلك ليست من (خ).
(2)
في (ق): "الرجل ذكره.
(3)
سيأتي تخريجه في الحديث الخامس من هذا الباب.
عن ذلك، فذكر الله أولى وأعظم، وقد كره مالك أنتدفع الدراهم التي فيها اسم الله لكافر، فهذا أولى.
قال ابن بزيزة من أصحابنا في «شرح الأحكام» لعبد الحق: وقعت في «العتبية» رواية منكرة مستهجنة، قال مالك: لا بأس أن يستنجي بالخاتم، وفيه (1) اسم الله تعالى، وهذه رواية لا يحل سماعها، فكيف العمل عليها؟! وقد كان الواجب أن تطرح «العتبية» كلها لأجل هذه الرواية وأمثالها؛ مما حوته من شواذ الأقوال التي لم تلف في غيرها، ولذلك أعرض عنها المحققون من علماء المذهب، حتى قال أبو بكر بن العربي حين حكى أن من العلماء من كره بيع كتب الفقه، وإن كان ففي (2)«العتبية» .
قال أبو بكر بن العربي - أيضا -: وقد كان لي خاتم فيه منقوش: محمد بن العربي، فتركت الاستنجاء به؛ إجلالاً لاسم محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: وروى الأوزاعي مثل ما وقع في «العتبية» ، وقال الحسن: لا بأس أن يدخل (3) الخلاء، وفي إصبعه الخاتم (4).
(1) في (ق): "وفيها.
(2)
في (ق): "في.
(3)
في (ق) زيادة: الرجل.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1205) عن الحسن وابن سيرين في الرجل يدخل المخرج وفي يده خاتم فيه اسم الله، قال: لا بأس به.
وقال إبراهيم النخعي: يدخل الناس الخلاء بالدراهم للضرورة (1)، وكره ذلك مجاهد في الدراهم والخاتم (2).
وهذا الذي وقع في «العتبية» إنما هو (3) بناءً على أن الخاتم يحبس في الشمال، وقد اختلفت (4) الآثار في ذلك:
فصح عن جماعة من العلماء أنهم كانوا يرون حبسه في اليمين.
وروى بعض أصحاب قتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يساره، ولا يصح، والصحيح أنه كان يتختم في يمينه، وهي رواية أنس، وعبد الله بن جعفر، وابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وصح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد: أنهم كانوا يتختمون في اليسار.
وصح ذلك - أيضا - عن أبي بكر، وعمر، والحسن، والحسين (5).
وخرج قاسم بن أصبغ عن علي، قال: نهاني (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1212) وقال ليس للناس بد من حفظ أموالهم.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1209).
(3)
إنما هو ليس في (خ).
(4)
في (ق): "وقد اختلف.
(5)
انظر: «المصنف» لابن أبي شيبة (5/ 196)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 142).
(6)
في (ق): "نهى.
أن أتختم في هاتين؛ يعني: السبابة، والوسطى (1).
وروى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل فص خاتمه في باطن كفه في يمينه، رواه ابن وهب (2)،.
والآثار فيه مختلفة (3).
وفي مذهب مالك في المستحب من ذلك قولان: والصحيح: أنه يحبس في الشمال، ولا يستنجى به، وقد صح عن مالك: أنه كان لا يقرئ الحديث إلا على طهارة، فهذا يناقض ما وقع في «العتبية» .
قال بعض أصحاب مالك: كنا نأتي إلى باب داره، فنضرب عليه الباب، فيقول خادمه: يقول لكم الشيخ: الحديث تريدون أم المسائل؟ فإن قالوا: نريد (4) الحديث، دخل إلى مغتسله، واغتسل، ولبس أحسن
(1) رواه مسلم (2078)، كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن التختم في الوسطى، والتي تليها، ولفظه: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه أو هذه. قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها.
(2)
ورواه البخاري (5527)، كتاب: اللباس، باب: خواتيم الذهب.
(3)
قال الحافظ في «الفتح» (10/ 327): ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به، فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به، فاليسار أولى؛ لأنه كالدموع فيها. ويحصل تناوله منها باليمين، وكذا وضعه فيها. ويترجح التختم في اليمين مكلقا؛ لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التخم في اليسار بما أشرت إليه. وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين، وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث.
(4)
نريد ليست في (خ).
ثيابه، وخرج، وإن قالوا: نريد المسائل، لا يبالي كيف يخرج، انتهى كلامه.
ومنها: أن لا يتكلم في تلك الحال، ولا يرد سلاما، ولا يشمت عاطسا، ولا بأس أن يحمد الله إن عطس هو، هكذا نقله ابن رشد في «بيانه» عن ابن القاسم، ولا يحكي المؤذن.
ومنها: أن لا يمس ذكره بيمينه، فإن فعل، فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال أكثر الفقهاء: بئس ما صنع، واستنجاؤه مجزئ.
قال ابن بزيزة: وقال بعض الشافعية، وأهل الظاهر: لا يجزئه الاستنجاء باليمنى؛ للنهي الثابت، قالوا: وهو ضعيف في النظر؛ لأن النهي تأديب، والمقصود حاصل.
قلت: وهو كما قال.
ومنها: أن لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها؛ لما تقرر، والله أعلم.
* * *