الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
38 -
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً» (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (328)، في أول كتاب: التيمم، واللفظ له، و (427)، كتاب: المساجد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، و (2954)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلت لكم الغنائم» ، ومسلم (521)، وفي أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، والنسائي (432)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم بالصعيد، و (736)، كتاب: المساجد، باب: الرخصة في ذلك.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
«إكمال المعلم» للقاضي عياض (2/ 435)، و «شرح مسلم» للنووي (5/ 3)، و «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (1/ 113)، و «والعدة في شرح العمدة» لابن عطار (1/ 249)، و «فتح الباري» لابن رجب (2/ 16)، و «النكت على شرح العمدة» للزركشي (ص: 54)، و «التوضيح» لابن الملقن (5/ 150)، و «طرح التثريب» للعراقي (2/ 104)، و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 436)، و «عمدة =
* التعريف:
جابر بن عبد الله (1) بن حرام (2) بن عمرو بن سواد بن سلمة، ويقال: جابر بن عبد الله بن عمر (3) بن حرام، ولا بد منه.
ومن قال في نسبه: عمرو بن حرام بن عمرو بن سواد بن سلمة، فليس بصحيح؛ إذ ليس في بني سلمة لصلبه سواد، إنما سواد في عقبه، هو سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، والله أعلِم.
وهو أنصاري، سلمي، كنيته: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو طلحة، والأول أصح.
وأمه أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، أسلمت، وبايعت (4)، ذكرها ابن سعد في النساء الصحابيات.
قدم جابر الشام ومصر، وكان من سكان المدينة، وأبوه عبد الله عَقَبي بدري أحدي، وشهد جابر العقبة الثانية مع أبيه صغيرا، ولم يشهد الأولى، وذكره بعضهم في البدريين، ولا يصح؛ لأنه روي عنه: أنه قال: لم أشهد بدرا، ولا أحدا، منعني أبي، فلما قُتل أبي،
= القاري» للعيني (4/ 7)، و «كشف اللثام» للسفاريني (1/ 479)، و «سبل السلام» للصنعاني (1/ 93)، و «نيل الأوطار» للشوكاني (2/ 134).
(1)
في (ق) زيادة: ابن عمرو بن حرام.
(2)
حرام: -بالراء- في الأنصار، و-بالزاي-: في قريش.
(3)
في (ق): "عمرو.
(4)
في (ق): "وتابعت.
لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط، أخرجه مسلم في «صحيحه» (1).
وذكر البخاري: أنه كان ينقل الماء يوم بدر (2)، فيحتمل أنه كان شهدها وهو صغير بحيث إنه لم يعد من البدريين، ويكون ذلك جمعا بين القولين.
وذكر ابن الكلبي: أنه شهد أحدا، ولعله كالأول.
وروى عنه [أبو] الزبير: أنه قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه إحدى وعشرين غزوة، شهدت معه منها تسع عشرة غزوة (3)، فيحتمل أنه لم يحتسب ببدر وأحد؛ لأنه لم يحضرهما، أو لكونه صغيرا، والله أعلِم.
وكان من الحفاظ المكثرين في الرواية، وممن طال عمره حتى اتسع الأخذ منه (4)، وعمي في آخر عمره، ومات وهو ابن أربع وتسعين سنة، واختلف في وفاته، فقيل: في سنة ثلاث وسبعين، وقيل: أربع، وقيل:(5) ثمان، وقيل:(6) تسع وسبعين، وقيل: ثمان وستين بالمدينة،
(1) رواه مسلم (1813)، كتاب: الجهاد والسير، باب: عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (2/ 207).
(3)
رواه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 207)، وإسناده صحيح، كما قال الحافظ في «الإصابة» (1/ 434).
(4)
منه ليس في (ق).
(5)
في (ق) زيادة: ابن.
(6)
في (ق) زيادة: ابن.
وصلى عليه أبان بن عثمان ابن عفان رضي الله عنهما، وهو أميرها، ويقال: إنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة رضي الله عنه (1).
* ثم الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: «نصرت بالرعب» : قال ابن فارس في «مجمله» : النصر: العون، وانتصر الرجل: انتقم، والنصر: الإتيان، يقال: نصرت أرض بني فلان: أتيتها، والنصر: المطر، يقال: نُصرت الأرض، أي: مطرت، والنصر: العطاء، قال (2):[الرجز]
(1) فائدة: تقدم في في ترجمته جابر رضي الله عنه أن أباه معدود في الصحابة، لذلك يقال في جابر وأبيه: رضي الله عنهما.
قال ابن دقيق رحمه الله في «شرح الإلمام» (2/ 564): وكذلك الجادة فيمن يكون هو وأبوه صحابيين، وفيه من الفائدة الدلالة على صحابية أبي الراوي، فقد يكون خفيا عن الجمهور من لا أنس له بالرجال، انتهى.
وانظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 648)، و «التاريخ الكبير» للبخاري (2/ 207)، و «الاستيعاب» لابن عبد البر (1/ 219)، و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (11/ 208)، و «أسد الغابة» لابن الأثير (1/ 492)، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 149)، و «تهذيب الكمال» للمزي (4/ 443)، و «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر (1/ 434).
(2)
هو رئبة بن العجاج، كما في «ديوانه» (ص: 174).
إنِّي وَأَسْطارٍ سُطِرْنا سَطْرًا
…
لَقائِلٌ: يا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرًا (1)
انتهى (2).
وهو مصدر، والاسم: النصرة.
وأما الرعب: فهو الخوف والوجل مما يحاذر في المستقبل، يقال منه: رعبته، فهو مرعوب: إذا فزعته، ولا يقال: أرعبته (3).
وهذا الرعب - والله أعلم - هو الذي ألقاه الله تعالى في قلوب الكفار في قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151]، وقوله تعالى:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26].
الثاني: ق: الخصوصية التي يقتضيها لفظ الحديث متقيدة بهذا القدر من الزمان، ويفهم منه أمران:
أحدهما: أنه لا ينفي وجود الرعب من غيره في أقل من هذه المسافة.
والثاني: أنه لم يوجد لغيره في أكثر منها؛ فإنه مذكور في سياق الفضائل والخصائص، ومناسبته (4) أن لا تذكر الغاية فيه.
وأيضا: فإنه لو وجد أكثر من هذه المسافة لغيره، لحصل الاشتراك (5)
(1) انظر: «مجمل اللغة» لابن فارس (ص: 870).
(2)
انتهى ليس في (خ).
(3)
انظر: «الصتحاح» للجوهريب (1/ 136)، (مادة: رعب).
(4)
في (ق): "ومناسبة.
(5)
في (خ): الإشراك).
في الرعب في هذه المسافة، وذلك ينفي الخصوصية، انتهى (1).
قلت: وانظر هل كان ذلك مختصا به في نفسه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لو لم يكن هو في معسكر قوم أرسلهم -مثلاً- لم يسبقهم الرعب إلى قلوب أعدائهم، أو ذلك له ولأمته على الإطلاق؟
والظاهر: الأول، وإن كان في بعض الأحاديث:«والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرا» : ذكره أحمد بن حنبل في «مسنده» (2)، فإن صح، ففيه نظر؛ لأن الواقع قد لا يكون كذلك، فإنا نرى من العساكر القوية الشوكة من لا يسبقهم الرعب، فانظر علام يحمل ذلك إن صح الحديث؟ وبالله التوفيق.
الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» : قد تقدم أنه يقال: مسجد، ومسجَد - بكسر الجيم وفتحها -، وقيل: بالفتح اسم لمكان السجود، وبالكسر اسم للموضع (3) المتخذ مسجدا، هذا أصله في اللغة.
وأما في العرف، فينطلق على الموضع المبني للصلاة التي السجود منها.
(1) انظر: «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (1/ 115).
(2)
رواهخ الإمام أحمد في «المسند» (5/ 393)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
قلت: وفي إسناده ابن لهيعة.
(3)
في (ق): "الموضع
والذي ينبغي أن يحمل عليه في الحديث الوضع اللغوي دون الاصطلاحي، وهو موضع السجود في أي مكان كان؛ أي: جعلت الأرض كلها موضع سجود، ولا (1) يختص السجود منها بمكان دون غيره. ق
ق: ويجوز أن يجعل مجازا عن المكان المبني للصلاة؛ لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد (2) في ذلك، فأطلاق (3) اسمه عليها من مجاز التشبيه.
والذي يقرب هذا التأويل: أن الظاهر أنه إنما أريد: أنها موضع للصلاة بجملتها، لا للسجود فقط منها؛ لأنه لم ينقل أن الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون موضع (4).
قلت: ويحتمل أن يكون من باب تسمية البعض بالكل، من حيث كان موضع السجود بعضا للمسجد العرفي، والله أعلم.
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: «وطهورا» : ينبغي أن تعلم أن (فعولاً) المشتق في الكلام؛ إما للمبالغة، وإما لغيرها، فالذي للمبالغة شرطه أن يكون زائدا على معنى فاعل مع مساواته له فيما له من تعد ولزوم؛ كضروب بالنسبة إلى ضارب، وولوج بالنسبة إلى والج.
(1) في (ق): "فلا.
(2)
في (ق): "كالسجود.
(3)
في (خ) و (ق): "فأطلق، والصواب ما أثبت.
(4)
انظر: «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (1/ 115).
والذي لغير المبالغة إما بنية مفتتحة دالة على معنى فاعل، مغنية عنه، نحو: عقوق، وحصور للناقة الضيقة الإحليل، وهي التي ضاق مجرى لبنها من ضرعها، وإما دالة على ما يفعل به الشيء؛ كرقوء، وهو ما يرقأ به الدم؛ أي: ينقطع، وأشباهه.
فطهور في الحديث من القسم الأول، وهو الذي للمبالغة، فهو معنى: مطهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكره في معرض الخصوصية، ولو كان بمعنى: طاهر (1)، لم تكن فيه خصوصية؛ لأن طهارة الأرض عامة بالنسبة إلى سائر (2) الأمم.
وقد استدل بهذا الحديث على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض - كما تقدم -؛ للعموم الذي في قوله: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، ومن اشترط التراب، استدل بما جاء في الحديث الآخر:«وجعلت تربتها طهورا» (3)، وهذا خاص، فينبغي (4) أن يحمل العام عليه؛ كما يحمل المطلق على المقيد، على القول بذلك، وتختص الطهورية بالتراب.
واعترض على هذا بوجوه:
منها: منع كون التربة مرادفة للتراب، وادعى أن تربة كل مكان:
(1) في (ق): "يعني طاهر.
(2)
في (ق): "إلى عامة الأرض الأمم.
(3)
رواه مسلم (552)، في أول كتاب: المساجد، ومواضع الصلاة.
(4)
في (ق): "ينبغي.
ما فيه، ترابا كان أو غيره مما يقاربه.
ومنها: أنه مفهوم لقب؛ أعني: تعلق الحكم بالتربة، ومفهوم اللقب ضعيف، لم يقل به إلا الدقاق.
ق: ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن في الحديث قرينة زائدة على مجرد تعلق الحكم بالتربة، وهي الافتراق (1) في اللفظ بين جعلها مسجدا، وجعل تربتها طهورا، على ما في الحديث، وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الاقتران في الحكم، وإلا، لعطف أحدهما على الآخر نسقًا؛ كما في الحديث الذي ذكره المصنف. انتهى.
ومنها: أن حديث التربة، لو سلِّم أن مفهومه معمول به، لكان الحديث الآخر يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض، أعني: قوله: «مسجدا وطهورا» بمنطوقه، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم (2).
الخامس: أخذ بعض أصحابنا من هذا الحديث أن لفظ (طهور) يستعمل لا بالنسبة إلى الحدث، ولا الخبث، وقال: إن (3) الصعيد قد سمي طهورا، وليس بحدث، ولا خبث؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، هذا أو معناه، وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب بقوله صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل
(1) في (خ) و (ق): "الاقتران، والصواب ما أثبت.
(2)
انظر: «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (1/ 116).
(3)
إن ليست في (ق).
سبعا» (1) حين قال الشافعية: طهور يستعمل إما عن حدث، أو خبث، ولا حدث على الإناء، فتعين أن يكون عن خبث، فمنع هذا الحصر.
وقال: لفظة طهور تستعمل في إباحة الاستعمال؛ كما في التراب؛ إذ لا يرفع الحدث كما قلناه، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام:«طهور إناء أحدكم» مستعملاً في إباحة استعماله؛ أعني: الإناء كما في التيمم (2).
قلت: ومنه قول الشاعر:
عِذابِ الثَّنايا رِيقُهُنَّ طَهُورُ (3)
إذ لا حدث هناك - أيضا -، ولا خبث، فلا حصر إذن، وهذا إنما يتمشى إذا قلنا: بأن التيمم لا يرفع الحدث، وقد تقرر الكلام على هذه المسألة مستوعبا بما يغني عن الإعادة (4).
السادس: قوله عليه الصلاة والسلام: «فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» : ق: مما يستدل به - أيضا - على عموم التيمم بأجزاء الأرض؛ لأن قوله: «أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة» (5) صيغة عموم، فيدخل تحته من لم يجد ترابا، ووجد غيره
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (1/ 116).
(3)
انظر: «الأمالي» للقالي (1/ 186)، وصدر البيت:
إلى رجح الأكفال هيفٍ خصورها
(4)
في (ق): "عن إعادته.
(5)
من أمتي أدركته الصلاة ليس في (ق).
من أجزاء الأرض، ومن خص التيمم بالتراب يحتاج (1) أن يقيم دليلاً يخص به هذا العموم، أو يقول: دلّ الحديث على أنه يصلي، وأنا أقول (2) بذلك، فمن لم يجد ماءً ولا ترابا، صلى على حسب حاله، فأقول بموجب الحديث: إلا أنه قد جاء في رواية أخرى: «فعنده طهوره ومسجده» (3)، والحديث إذا جمعت طرقه، فسر بعضها بعضا (4).
السابع: «أي): اسم مبتدأ فيه معنى الشرط، و (ما): زائدة لتوكيد معنى (5) الشرط، والجملة التي هي «أدركته الصلاة» : في موضع خفض صفة للرجل، والفاء في «فليصل»: جواب للشرط، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره - والله أعلم -: فيما يقص عليكم، أو فيما فرض عليكم «أيما رجل» الحديث، وهو من باب قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، {وَالزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، وأشباه ذلك على مذهب سيبويه رحمه الله تعالى، فإن قدره (6): فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم (7)، كما تقدم.
وقيل: الخبر ما بعده؛ كما تقول: زيد فاضربه، وكأن الفاء زائدة،
(1) في (ق) زيادة: إلى.
(2)
في (ق): "وإنا نقول.
(3)
رواه الإمام أحمد في «المسند» (5/ 248)، بلفظ:«فعنده مسجده، وعنده طهوره» .
(4)
انظر: «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (1/ 117).
(5)
معنى ليس في (ق).
(6)
في (ق): "قدر.
(7)
انظر: «الكتاب» للسيبويه (1/ 143).
فعلى هذا يكون «فليصل» الخبر، لكن فيه بُعد من حيث إن (أيا) شرط صريح يقتضي الجواب، ولا جواب له هنا إلا الفاء، بخلاف الآيتين؛ فإنهما غير صريحتين في الشرط، فتعين الوجه الأول، وهو حذف الخبر، والله أعلم.
الثامن: هذا العموم؛ أعني: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» مخصوص بما استثناه الشرع من المواضع التي تحرم الصلاة فيها؛ كالأماكن المغصوبة، ونحو ذلك، أو تكره؛ كالمزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وظهر بيت الله الحرام، والحمام؛ حيث لا يوقن منه بطهارة، ومقابر المشركين، وكنائسهم، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه.
التاسع: وجه اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك: أن من كان قبلنا كانوا - على ما قيل - لا يصلون إلا فيما يتيقنون طهارته من الأرض، كالبيع، والكنائس، وخصصنا نحن بجواز الصلاة في جميع بقاع الأرض، إلا ما تيقنا نجاسته (1)، وما ذكر مع النجاسة آنفًا مما استثني.
العاشر: قد يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل» : أنه لا يجوز التيمم إلا بعد دخول الوقت؛ كما هو مذهب الجمهور، وأنه يضعف قول من يقول: إن التيمم يرفع الحدث، وإن كان هو الذي يقوم عليه الدليل من غير هذا الحديث، كما تقدم تقريره.
(1) انظر: «إكمال المعلم» للقاضي عياض (2/ 437).
الحادي عشر: قوله صلى الله عليه وسلم: «وأحلت لي الغنائم» : الغنائم: جمع غنيمة، وهي والمغنم بمعنى واحد، يقال منه: غنم القوم غنُما -بالضم- لا غير (1).
قال العلماء: كان الأمم قبلنا على ضربين:
منهم: من لم يحل لأنبيائهم جهاد الكفار، فلا غنائم لهم، ومنهم: من أحل لهم ذلك، إلا أنهم كانوا إذا غنموا مالاً، جاءت نار فأحرقته، فلا يحل لهم أن يتملكوا منه شيئًا، وأباح الله لهذه الأمة الغنائم، وطيبها لها (2).
ق: ويحتمل أن يريد بالغنائم؛ بعض الغنائم، وفي بعض الأحاديث:«وأحل لنا الخمس» ، أخرجه ابن حبان (3)، بكسر الحاء وبعدها باء موحدة (4).
الثاني عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: «وأعطيت الشفاعة» .
ق: الأمثل الأقرب أن تكون الألف واللام في (الشفاعة) للعهد، وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العظمى التي امتاز بها على سائر الخلق، وهي الشفاعة في إراحة الناس من طول القيام؛ بتعجيل حسابهم؛
كما جاء مبينا في «الصحيح» ، وهو المقام المحمود الذي
(1) انظر: «الصحاح» للجوهري (5/ 1999)، (مادة: غنم).
(2)
قال الحافظ في «الفتح» (1/ 438): والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا.
(3)
رواه ابن حبان في «صحيحه» (6399)، من حديث عوفربن مالك رضي الله عنه.
(4)
انظر: «شرح عمدة الأحطاك» لابن دقيق (1/ 117).
يحمده فيه الأولون والآخرون من أهل المحشر، ولا خلاف في هذه الشفاعة، ولا تنكرها المعتزلة.
ق: والشفاعات: الأخروية خمس (1):
إحداها: هذه، وقد ذكرنا اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بها، وعدم الخلاف فيها.
وثانيها: الشفاعة في إدخال قوم الجنة دون حساب، وهذه - أيضا - وردت لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم الاختصاص فيها، ولا عدم الاختصاص.
وثالثها: قوم استوجبوا النار، فيشفع في عدم دخولهم لها، وهذه - أيضا - قد تكون غير مختصة.
ورابعها: قوم دخلوا النار، فيشفع في خروجهم منها، وهذه قد ثبت فيها عدم الاختصاص؛ لما صح في الحديث من شفاعة الأنبياء والملائكة، وقد ورد - أيضا -: الإخوان من المؤمنين.
وخامسها: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها، وهذه - أيضا - لا تنكرها المعتزلة.
فتلخص من هذا: أن من الشفاعات ما علم الاختصاص به، ومنها ما علم عدم الاختصاص به، ومنها ما يحتمل الأمرين، فلا تكون الألف واللام للعموم، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تقدم منه إعلام
(1) في (ق): "خمسا.
الصحابة بالشفاعة الكبرى المختص بها التي صدرنا بها الأقسام الخمسة، فلتكن الألف واللام للعهد.
وإن كان لم يتقدم ذلك على هذا (1) الحديث، فلتجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة، وتتنزل على تلك الشفاعات؛ لأنه كالمطلق حينئذ، فيكفي تنزيله على فرد.
وليس لك أن تقول: لا حاجة إلى هذا التكلف، فإنه ليس في الحديث إلا قوله عليه الصلاة والسلام:«أعطيت الشفاعة» ، فكل
هذه الأقسام التي ذكرتها قد أعطيها صلى الله عليه وسلم، فليحمل اللفظ على العموم؛ لأنا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها صلى الله عليه وسلم، فلفظها - وإن كان مطلقًا -، إلا أن ما سبق في صدر الكلام يدل على الخصوصية (2).
الثالث عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: «وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة» : ظاهره أو نصه يقتضي اختصاصه صلى الله عليه وسلم بهذه الخصلة كغيرها مما تقدم، لكن قد يعارضه أن يقال: إن نوحا عليه الصلاة والسلام عمت - أيضا - رسالته أهل الأرض كلهم؛ لأنه حين خروجه من السفينة لم يبق معه إلا من كان مؤمنا، وهو مرسل إليهم، وهم أهل الأرض كلها حينئذ؛ لأن الغرق قد عم جميع الأرض، وعم الماء جميعها على ما طفحت به التفاسير، قاله ابن
(1) هذا زيادة من «ق» .
(2)
انظر: شرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 118).
عباس، وغيره.
ويجاب عنه: بأن يقال: عموم رسالة نوح عليه الصلاة والسلام جاءت بطريق الاتفاق، ولم يكن في أصل البعثة، وإنما وقعت بسبب ما
حدث من انحصار الخلق في الموجودين حينئذ بسبب هلاك غيرهم، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فعموم رسالته متأصل من أصل البعثة، فحصلت الخاصيةُ (1) له صلى الله عليه وسلم، وزال الاعتراض المذكور، والحمد لله، وأيضا: لم تدم بعده نبوة عامة؛ بخلاف نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (2).
الرابع عشر: قوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا» إلى آخر الحديث، لا يقتضي حصر خصوصياته في هذه الخمس، بل يجوز أن يكون له خصائص أخر، وإذا جمعت روايات هذا الحديث، وأضيف بعض ما ذكر فيها من الخصائص إلى بعض، كانت أكثر من خمس.
فإنه قد جاء في رواية لمسلم عدها ستا، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم» (3).
(1) في (خ): الخاصة.
(2)
انظر: شرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 114). وانظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 437).
(3)
رواه مسلم (523) في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد رواه البخاري (6611)، كتاب: التعبير، باب: المفاتيح في اليد، نحوه.
وفي رواية: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض» (1).
وفي رواية: «وختم بي النبيون» (3).
فقد تحصل من مجموع هذه الروايات عند إضافة بعض هذه الخصائص (4) إلى بعض: أنها عشر، لا خمس، وهي: النصر بالرعب، وجعل الأرض مسجدا وطهورا، وإحلال الغنائم، والشفاعة العظمى، وعموم الرسالة، وجعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وإيتاؤه جوامع الكلم، ومفاتيح خزائن الأرض، وخواتم البقرة، وكونه عليه الصلاة والسلام ختم به النبيون، فهذه عشر خصائص بالنسبة إلى
(1) رواه البخاري (2815)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر، ومسلم (523)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (31649)، والنسائي في السنن الكبرى (8022)، وابن خزيمة في صحيحه (263)، وابن حبان في صحيحه (1697)، وغيرهم من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(3)
تقدم تخريجه في رواية مسلم برقم (523) عنده.
(4)
في (ق): "الروايات.
ما رأيناه، ولعلها أكثر من ذلك (1)، ولا حاجة بنا إلى تأويل الحديث برد بعض هذه الخصائص إلى بعض من حيث التداخل، أو غير ذلك؛ لما تقدم من كون اللفظ لا يقتضي حصرا، بل خصائصه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة - لا تحصى، ومآثره أكثر من أن يحاط بها فتستقصى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وشرف وكرم.
* * *
(1) قال السفاريني في كشف اللثام (1/ 493): وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في شرف المصطفى: أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء: ستون خصلة وقد أفردت خصائصه بالتأليف، فبلغت أضعاف ذلك بكثير، وقد ذكرنا منها طرفا صالحا في شرح نونية الصرصري، معارج الأنوار، وفي تحبير الوفا، وغيرهما، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، على أن العدد لا مفهوم له عند الأكثر، فحينئذ يندفع الإشكال من أصله، انتهى.