الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ التَّيَمُّمِ
الحديث الأول
36 -
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً مُعْتَزلاً لَمْ يُصَلِّ فِي (1) الْقَوْمِ فَقَالَ: «يَا فُلانُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ ، وَلا مَاءَ ، قَالَ:«عَلَيْك بِالصَّعِيدِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ» (2).
(1) في (ق): "مع.
(2)
* تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (341)، كتاب: التيمم، باب: التيمم ضربة، واللفظ له. ورواه أيضا:(337)، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء، و (3378)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (682)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، والنسائي (321)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم بالصعيد.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
إكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 676)، وشرح مسلم للنووي (5/ 190)، وشرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 109)، والعدة في شرح العمدة لابن العطار (1/ 237)، وفتح =
التيممُ في اللغةً: القصدُ، قال تعالى:{وَلاءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]؛ أي: قاصديه.
وهو في الشرع: القصدُ إلى الأرض، ومسح الوجه واليدين منها (1)، عندنا.
وعند الشافعي: القصدُ إلى التراب الطاهر (2).
وهو مصدرُ: تَيَمَّمَ؛ كالتعلُّم لتعلَّم.
قال الأزهري: يقال: تَيَمَّمْتُ فُلَاناً، وَيَمَّمْتُهُ، وأَمَّمْتُهُ وَتَأَمَّمْتُهُ إذا قصدتُه، وأصلُه من الأَمِّ، وهو القصدُ (3).
قال الإمام المازري: ومنه قوله: [الطويل]
سَلِ الرَّبْعَ أَنَّى يَمَّمَتْ أُمُّ أَسْلَمَا
…
وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا (4)
التعريف: هو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبدِ نُهْم - بضم النون وسكون الهاء، وآخره ميم - ابن سالم بن غَضِرَةَ - بالغين
= الباري لابن رجب (2/ 70، 98)، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن (2/ 117)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 448)، وعمدة القاري للعيني (4/ 25)، وكشف اللثام للسفاريني (1/ 462)، ونيل الأوطار للشوكاني (1/ 322).
(1)
في (ق): "منه.
(2)
انظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري (ص: 52).
(3)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري (15/ 459).
(4)
البيت لحميد بن ثور الهلالي. وانظر: المعلم للمازري (1/ 383).
المعجمة والضاد المكسورة - ابن سلول - بالسين المهملة المفتوحة - ابن حُبْشِيَّة - بالحاء المهملة المضمومة، والباء الموحدة الساكنة، والشين المعجمة المكسورة وبعدها ياء باثنتين تحتها مشددة وآخره هاء - ابن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة، الخزاعيُّ، الكعبي، يكنى: أبا نُجَيْد، بنون مضمومة وجيم مفتوحة.
أسلم عمران بن حصين هو وأبو هريرة (1) عام خيبر، وهي سنة سبع من الهجرة، وكان من فضلاء الصحابة المشهورين.
روي: أنه كان يرى الحفظة، وأنه يسلم عليه بكرة وعشيا، وكان قد سكن البصرة، وكان قاضيا، استقضاه عبد الله بن عامر، فأقام بها أياما، ثم استعفاه فعفاه، ومات بها في سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية.
وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قَدِمَهَا -يعني: البصرة- راكبٌ خيرٌ من عمران بن حصين.
وقال محمد بن سيرين: أفضل من بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمران بن حصين.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة حديث، وثمانون حديثًا، اتفقا منها على ثمانية أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة (2).
(1) في (ق) زيادة: جميعاً.
(2)
في (ق): "بثمانية.
روى عنه: أبو رجاء العطاردي، ومضرب، وزرارة بن أوفى، وأبو السوار حسان، وخلق سواهم.
روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي، والله أعلم (1).
* ثم الكلام على الحديث من وجوه:
بعد مقدمة بين يديه في أحكام التيمم على طريق الاختصار، فنقول وبالله التوفيق.
التيمم ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهو خصيصة خص الله تعالى بها هذه الأمة، زادها الله شرفًا.
قال ابن العربي: وفيها حكمتان:
إحداهما: أن طهارتهم الأصلية كانت بالماء، فنقل الله منها -عند عدمِها- إلى التراب الذي هو أصل الخِلْقة؛ لتكون العبادة دائرة بين قوام الحياة، وأصل الخلقة.
الثانية: أن النفس خلقها الله تعالى على جِبِلَّة، وهي أنها كلما
(1) وانظرترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 9)، والتاريخ الكبير للبخاري (6/ 408)، والثقات لابن حبان (3/ 287)، والمستدرك للحاكم (3/ 534)، والاستيعاب لابن عبد البر (3/ 1208)، وأسد الغابة لابن الأثير (4/ 269)، وتهذيب الكمال للمزي (22/ 319)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 508)، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (4/ 705)، وتهذيب التهذيب له أيضا (8/ 111).
تركت عنه، وأعرضت، كسلت عنه ونفرت، وكلما تمرنت عليه، واعتادت، أنست به، واستمرت عليه، فلو لم يوظف (1) عليها عند عدم الماء حركة في الأعضاء، وإقبال على الطهور (2)، لكانت عند وجود الماء تبعد عنها العادة، فتشق عليها العبادة، فشرع الله لها ذلك دائما حتى يكون أنسها به قائما، فالخير عادة، والشر لجاجة.
وإذا ثبت أنه قائم مقام الماء، فإنه عامل عمله في إباحة الصلاة، ورفع الحدث؛ فإن الحديث ليس بمعنىً حسيًّ، وإنما هو عبارة عن المنع من الصلاة، فإذا تيمم، وصلى فقد زال المانع، وارتفع حكم الحدث.
قال: وهذا هو مذهب مالك رحمه الله الذي لا خلاف فيه، وقد قال بلفظه في كتابه، الذي هو نخبته، ولباب علمه: ولا بأس أن يؤم المتيمم للمتوضئين (3)؛ لأن المتيمم قد أطاع الله، وليس الذي وجد الماء بأطهرَ منه، ولا أتم (4) صلاةً (5). وهذا نص.
فإن قيل: قد قيل: لا يصلي فرضين بتيمم واحد.
قلنا: في ذلك تفصيل مذهبي.
(1) في (ق): "يوصف.
(2)
في (ق): "الطهارة.
(3)
في (ق): "المفرضين.
(4)
في (ق) زيادة: من.
(5)
انظر: القبس لابن العربي (3/ 412).
وبالجملة: فيجب أن تعلموا أن الله مدَّ طهارة الماء إلى غاية، وهي وجود الحدث، ومد طهارة التيمم إلى غاية، وهي وجود الماء، فإذا وجد الماء، ارتفع حكم التيمم، كما إذا وجد الحدث ارتفع حكم الماء.
والذي نقول: إن عليه أن يطلب الماء لكل صلاة، فإن وجده، استعمله، وصلى، وإن لم يجده، بقي على حكم التيمم الأول.
سمعت الإمام الشيخ أبا الحسن السلمي من أصحاب علي بن نصر بن إبراهيم المقدسي يقول: إذا تيمم للصلاة، فالتيمم قربة مبيحة للمحظور، وهو فعل الصلاة، فلا تتعدى إباحتها؛ كالكفارة في الظهار، فقلت له: إنما هو للطهارة، ورفع المانع؛ كالوضوء بالماء، فقال لي: لو كان كالوضوء بالماء، لما لزمه استعمال الماء إذا وجده بالحدث الأول، فقلت له الكلام المتقدم: وهو: أن الله تعالى مد طهارة الماء إلى غاية هي وجود الحدث، ومد طهارة التيمم إلى غاية هي وجود الماء، وجرى في ذلك كلام كثير، أصله مبين (1) في كتاب النزهة. انتهى.
قلت: وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في حديث: «لَا يَقْبَلُ اللهَ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتىَ يَتوَضَّأَ» بأوعب من هذا.
والتيمُّمُ لا يكون إلا في الوجه واليدين إجماعا، سواء كان عن
(1) في (ق): "مبني.
حدث أصغر، أو أكبر، سواء يتيمم لكل الأعضاء عندنا، أو بعضها عند من يقول به.
إذا ثبت هذا، فالتيمم يتعلق بخمسة أطراف: من يجوز له من المحدثين التيمم، وشروط جوازه، وصفة التيمم، وما يتيمم به، وما الصلوات التي يتيمم لها، وتؤدَّى به.
أما الطرف الأول: وهو من يجوز له من المحدثين التيمم، فهو: كل محدث حدثًا أدنى أو أعلى، أو أدنى كما تقدم.
وأما الطرف الثاني: وهو شروط جوازه، فشرطان: عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله، فإن وجد بعض ما يكفيه من الماء، لم يلزمه استعماله عندنا، وكان كعادم الجملة، وعّلل ذلك أصحابنا: بأن فيه جمعا بين البدل والمبدل منه، وذلك لا يجوز، ولا يجب؛
كصيام بعض الشهرين، وإعتاق بعض الرقبة؛ لأن الله تعالى أوجب الوضوء على المحدث، والغسل على الجنب، ثم نقلنا عند تعذر الماء إلى التيمم، فمن أوجب الجمع بينهما، فقد وضع شرعا مخالفًا للقرآن؛ ولأن الشافعي وافقنا على أن واجد بعض الرقبة لا يعتق ما وجد، ويصوم، وأدلتنا على هذه المسألة مبسوطة في كتب الفقه، وهذا إنما يمشي إذا ثبت أن التيمم بدل من الوضوء، وإلا، فقد ذكر عبد الحق في تهذيب الطالب عن بعض المتأخرين: أنه قال: لا أقول إن التيمم بدل، وإنما أقول: إنه عبادة مستأنفة.
قال: وأراه إنما قال ذلك؛ لأن البدل يقوم مقام المبدل منه، ويسد مسده في كل الأحوال، والتيمم لا يقوم مقام الطهارة بالماء، ولا يسد مسدها في كل الأحوال؛ لأنه لا يصلَّى به صلوات، ولا يرفع حدثًا، فهو بخلاف الطهارة بالماء، وإن كان قد تستباح به الصلاة كما تستباح بالطهارة بالماء، فهو بخلافها فيما ذكرنا، فامتنع لذلك أن نسميه بدلاً. انتهى (1).
وهو بخلاف خصال الكفارة، فإن كل واحدة تسد مسد الأخرى على الإطلاق، فلا شبه (2) بينهما، أعني: التيمم، وما قيس عليه من خصال الكفارة، على هذا التقدير، وإن قلنا: إن التيمم بدل من الوضوء، فالظاهر اعتدال القياس، والله أعلم.
وأما الطرف الثالث: في صفة التيمم، فهو: أن يضع يديه على الصعيد، ثم يمسح بهما وجهه كله، ويديه إلى المرفقين على المشهور.
وقيل: إن اقتصر على مسحهما إلى الكوعين، أجزأه.
ع: وقال ابن شهاب: إلى الآباط (3)، فمن قال: إلى الكوعين، فكأنه بنى على تعليق الحكم بأول الاسم، ويؤيده - أيضا - بحديث
(1) وانظر: مواهب الجليل للحطاب (1/ 325).
(2)
في (ق): "فالشبه بينهما.
(3)
في (ق): "الإبط.
فيه: «وَجْهُكَ وَكَفَّيْكَ» (1).
ومن قال: إلى الآباط، بناه على تعليق الحكم بآخر الاسم؛ إذ ذلك أكثر ما ينطلق عليه اسم يد، ويؤكده ما وقع في بعض روايات حديث العقد: أن الراوي قال: فتيممنا إلى الآباط، أو قال: إلى المناكب.
وأما من قال: إلى المرافق، فكأنه رده إلى الوضوء لما كان تستباح الصلاة به كما تستباح بالوضوء، والحكم إذا أطلق في شيء، وقيد فيما بينه وبينه مشابهة، اختلف أهل الأصول في رده إليه؛ كهذه المسألة، والعتق في الكفارة على (2) الظهار، هل يشترط فيها الإيمان، وترد إلى كفارة القتل؟ انتهى (3).
قلت: وقد نقل ح عن أبي سليمان الخطابي: أنه قال: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزمه مسح ما وراء المرفقين (4).
وهذا لا يلتئم مع ما قدمناه من الخلاف في ذلك عن ابن شهاب، فلينظر (5).
(1) رواه مسلم (368)، كتاب: الحيض، باب: التيمم.
(2)
في (ق): "في.
(3)
انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 218).
(4)
انظر: معالم السنن للخطابي (1/ 99). وانظر: شرح مسلم للنووي (4/ 56).
(5)
فلينظر ليس في «ق» .
وإذا ثبت هذا، فلا بد من مراعاة الصفة في مسح اليدين على المشهور من مذهبنا، وهي (1): أن يبدأ بيسرى يديه يمسح بها ظاهر اليمنى، مارا إلى المرفق، ثم يعيد على الباطن مارا إلى الكف، وفي اليسرى كذلك.
وعلى هذا: هل يمسح كف اليمنى قبل الشروع في اليسرى، أو يشرع فيها إذا وصل إلى الكوع، ثم إذا وصل إليه من الأخرى مسح الكفين بعضهما ببعض؟ قولان لأصحابنا.
والمأمور به ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين، فإن اقتصر على ضربة واحدة؛ فالمشهور: لا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وقيل: يعيد في الوقت.
وقال ابن سيرين: إنه لا يجزئه أقل من ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة ثانية لكفيه، وثالثة لذراعية، كذا نقله عنه ح، في شرح مسلم (2).
وأما الطرف الرابع، وهو ما يتيمم به: فالمشهور من مذهب مالك -رحمه الله تعالى-: الأرض، وما تصاعد عليها، مما لا ينفك عنها غالبا، فيجزئ عندنا التيمم على الحجر الصَّلْد، والرمل، والسِّباخ، والنورة، والزرنيخ، وجميع أجزاء الأرض، ما دامت على جهتها، ما لم
(1) في (ق): "وهو.
(2)
انظر: شرح مسلم للنووي (4/ 56).
تغيرها صنعة آدمي بطبخ وغيره (1)، سواء فعل ذلك مع وجود التراب، أو مع عدمه.
وقيل: لا يجزئ بغير التراب مطلقًا كما يقوله الشافعي.
وخصص ابن حبيب من أصحابنا الإجزاء بعدم التراب.
واختلف أصحابنا في التيمم على الثلج والملح والحشيش (2).
ع: والحجة للقولة (3) المشهورة عن مالك: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، والصعيد ينطلق على الأرض، وقوله صلى الله عليه وسلم:«جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً» (4).
ويحتج الشافعي، والقولة الشاذة عندنا: بما وقع في أحد (5) طرق هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«وَتُرَابُهَا طَهُوراً» (6)، فذكر التراب (7).
وأما الطرف الخامس، وهو ما يتيمم له: فقال القاضي عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: كلُّ قُربة لزم التطهيرُ لها بالماء؛ كالصلوات كلها،
(1) في (ق): "ونحوه.
(2)
انظر: الذخيرة للقرافي (1/ 349).
(3)
في (ق): "القوية.
(4)
سيأتي تخريجه في الحديث الثالث من هذا الباب.
(5)
في (ق): "إحدى.
(6)
سيأتي تخريجه.
(7)
انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 218).
ومس المصحف، وغسل الميت، ولا يكاد يتصور في الطواف إلا لمريض، انتهى.
قيل: وإنما قال: كل قُربة، ولم يقل: كل ما لزم التطهير له مطلقًا؛ لئلا يدخل فيه وطء الحائض إذا انقطع دمُها؛ لأن الاغتسال له واجب
إذا أراد الزوج وطأها، ومع ذلك، لا يتيمم له، وأظن هذا أيضا كلامه، والله أعلم.
وهذا ما أردنا من المقدمة.
وأما الوجوه، فالأول: المعتزل، المنفرد عن القوم المتنحي (1) عنهم.
قال الجوهري: اعتزلَهُ، وتَعَزَّلَهُ بمعنى.
قلت: وانعزل أيضا في غير المتعدِّي.
والاسم العزلة، يقال: العزلةُ عبادةٌ (2).
واعتزالُه عن القوم استعمالٌ للأدب (3) والسنة في ترك جلوس الإنسان عند المصلين إذا لم يصلِّ معهم.
فإن قلت: لم قال صلى الله عليه وسلم للرجل الآخر الذي وجده جالسا: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ؟ أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟» (4) وهذا إنكار
(1) في (ق): "المنتحي.
(2)
انظر: الصحاح للجوهري (5/ 1763)، (مادة: عزل).
(3)
في (خ): الأدب.
(4)
رواه الإمام مالك في الموطأ (1/ 132)، ومن طريقة: الإمام =
لهذه الصورة (1)، وقال لهذا:«يَا فُلَانُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ؟» ، وهذا كلام لا إنكار فيه، بل فيه حسن الملاطفة والرفق، حتى أخرج كلامه عليه الصلاة والسلام له في معرض السؤال عن السبب المقتضي للترك خاصةً من غير لفظٍ يُشعر بإنكارٍ ما ولا إغلاظ، بخلاف الأول.
قلت: الرجل الذي أنكر عليه صلى الله عليه وسلم -كان في الحَضَر في المسجد، والذي لم (2) ينكر عليه كان في السفر؛ لأن هذا هو حديث ال وادي، والمصنف لم يورده على الوجه بكماله من بعض الروايات، والسفر مظنة الأعذار؛ من إعواز الماء وغيره، فهو أقرب إلى احتمال ما هو عذر من حالة الحضر.
الثاني: فلان وفلانة: كناية عن الأعلام، ولذلك لا يثنيان، ولا يجمعان من حيث كان الاسم لا يثنى ولا يجمع إلا بعد التنكير (3)، وهناه: كنايةٌ عن النكرات، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام
= الشافعي في مسنده (ص: 214)، وابن حبان في صحيحه (2405). وغيرهم، عن محجن رضي الله عنه.
(1)
انظر: شرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 109).
(2)
لم ليس في «ق» .
(3)
انظر: المحكم لابن سيده (10/ 381)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/ 474)، والقاموس المحيط للفيروزأبادي (ص: 1277)، (مادة: ف ل ن).
خاطب الرجل بلفظ: يا فلان! ويحتمل أن يكون خاطبه باسمه، ولكن الراوي كَنَّى عنه، إما لأنه نسي اسمه، أو لأمر آخر.
الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: «ما منعك أن تصلي في القوم؟» وقد روي: «مَعَ القَوْمِ» ، ومعنى الحرفين مختلف، فإن (في) للظرفية، فكأنه جعل اجتماع القوم ظرفاً خرج منه هذا الرجل، و (مع) وإن كانت ظرفًا، لكن فيها معنى المصاحبة، فكأنه قال: ما منعك أن تصحبهم في فعلهم؟
تنبيه: وقولي: إن (مع) ظرف -أعني: المفتوحة العين-، وأما الساكنة العين، فهي حرف على رأي، والأكثرون على أنها اسم مطلقًا؛ لأن الخليل حكى: جئتُ مِنْ مَعَه، فأدخلوا عليها حرف الجر، وقالوا: جئنا معاً، فنونوا.
قال بعضهم، وما يبعد في الإسكان تقوية الحرفية؛ لأنها إذا كانت اسماً مع الإسكان، فقد أسكن المنصوب، ولم يقل به أحد، وإذا قلنا: إنها ظرف، فهي ظرف مكان؛ بدليل وقوعها خبرا عن الجثث في نحو قولنا: زيدٌ مع بَكْر، وظروف الزمان لا تكون إخبارا عن الجثث، فاعرفه.
الرابع: قال الجوهري: القوْمُ: الرجال دون النساء، لا واحدَ له من لفظه.
قال زهير: [الوافر]
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي
…
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وقال الله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، ثم قال (1):{وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11]، وربما دخل النساء فيه على سبيل التبع؛ لأن قوم كل نبي رجال ونساء، وجمعُ القوم: أقوام، وجمعُ الجمع: أقاوم.
قال أبو صخر:
فَإِنْ يَعْذِرِ القَلْبُ العَشِيَّةَ فِي الصَّبا
…
فُؤَادَكَ لا يَعْذِرْكَ فِيهِ الأَقَاوِمُ
عنى بالقلب: العقل.
وقال ابن السَّكّيت: يقال: أقايِم (2)، وأقَاوِم.
والقوم يذكر: ويؤنث؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كان للآدميين، يذكر ويؤنث؛ مثل: رَهْط، ونَفَر، قال الله تعالى:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66]، فذكّر، وقال:{كَذَّبِتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105]، فأنث، فإن صُغِّرَتْ، لم يدخل فيها الهاء، وقلت: قُوَيْم، ورُهَيْط، ونُفَير، وإنما يلحق التأنيث فعله، وتدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين؛ مثل: الإبل، والغنم؛ لأن التأنيث لازم له، وأما جمع التكسير مثل، جِمال ومساجد، فإن ذكّر وأنث، فإنما تريد الجمعَ إذا ذَكَّرت، والجماعةَ إذا أَنثت (3)، انتهى (4).
(1) في (ق) زيادة: تعالى.
(2)
في (ق): "أقاويم.
(3)
في (ق): "أنث.
(4)
انظر: الصحاح للجوهري (5/ 2016)، (مادة: قوم).
الخامس: ق: في شرح الإلمام في هذا الحديث: فيه: الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا المعتزل عن الناس لأجل الجنابة، مع احتمال الحال لوجوه عديدة، وتعينه (1) لبعضها طريقه الاجتهاد، فإنه يحتمل أن يكون لأنه لا يعلم مشروعية التيمم، ويحتمل أن يكون لاعتقاده أن الجنب لا يتيمم، وإن تيمم المحدث كما نقل عن بعض الصحابة، ثم إذا لم يتيمم، كان كمن عدم الماء والصعيد، فاحتمل أن يصلي ويقضي، ويصلي ولا يقضي، ولا يصلي ويقضي، ولا يصلي ولا يقضي، كما اختلف الفقهاء في ذلك، والذي يتعلق بالقضاء لا يعلم لما اعتقده فيه، لكنه رجح عدم الأداء، ويقع احتماله التيمم مع احتماله للتيمم وعدمه، وتعيين المحتملات طريقه الاجتهاد، ولأنه عمل على كونه لم يكن التيمم مشروعا؛ فإن (2) ذلك قبل نزول الآية؛ لأن (3) قوله عليه الصلاة والسلام: «عليك
بالصعيد، فإنه يكفيك» دليل على تقدم مشروعية التيمم على هذا القول؛ لأن مشروعية التيمم لم تعلم إلا بالآية ونزولها، فالحكم بمقتضاها يقتضي تقدمها، وأخص من هذا: الاجتهاد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع إمكان مَنْ يُفتيه (4).
(1) في (ق): "وتعيينه.
(2)
في (ق): "وإن.
(3)
في (ق): "إلا أن.
(4)
انظر: شرح الإلمام لابن دقيق (5/ 39).
السادس: قوله: «أصابتني جنابةٌ، ولا ماءَ» : لا ينبغي أن يحمل على أنه اعتقد أن المحدث (1) لا يتيمم؛ لأن مشروعية التيمم كانت متقدمة على زمن إسلام عمران بن حصين (2) راوي هذا الحديث - كما تقدم -؛ فإنه أسلم عام خيبر، ومشروعية التيمم كانت قبل ذلك في غزاة المريسيع، وهي (3) واقعة مشهورة، وإنما ينبغي أن يحمل على أنه اعتقد أن الجنب لا يتيمم، كما ذكر عن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما، وتكون الملامسة المذكورة في قوله -تعالى-:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، عندهم -أعني: عند من شك في
تيمم الجنب -محمولة على غير الجماع؛ لأنهم لو حملوها على الجماع، لكان تيمم الجنب مأخوذًا (4) من الآية، فلم يقع لهم شك في تيمم الجنب، إلا أن يكون هذا الرجل لم يبلغه نزول الآية، فيحمل على أنه لم يعلم مشروعية التيمم، وفيه بعد، والله أعلم (5).
وقوله: «ولا ماءَ» : هو بفتح الهمزة: اسم لا مبني معها، والخبر محذوف، أي: لا ماء معي، أو عندي، أو موجود، أو نحو ذلك.
ق: وفي حذفه بسطٌ لعذره؛ لما فيه من عموم النفي، كأنه نفى
(1) في (ق): "الجنب.
(2)
في (ق): "الحصين.
(3)
في (ق): "مأخوذ.
(4)
في (ق): "مأخوذ.
(5)
انظر: شرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 110).
وجود الماء بالكلية؛ بحيث لو وجد بسبب، أو سعي، أو غير ذلك، لحصله، فإذا نفي وجوده مطلقًا، كان أبلغ في النفي، وأعذر له.
قال: وقد أنكر بعض المتكلمين على النحاة في تقديرهم في قولنا: لا إله إلا الله: لنا، أو في الوجود، وقال: إن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة؛ فإنها إذا نفيت مقيدة، كان ذلك دليلاً على سلب الماهية مع القيد، وإذا نفيت غير مقيدة، كان نفيا للحقيقة، وإذا انتفت الحقيقة (1)، انتفت مع كل قيد، أما إذا نفيت مقيدة بقيد مخصوص، لم يلزم نفيها مع قيد آخر، هذا، أو معناه (2).
قلت: وفي هذا الإنكار عندي نظر، فإن قولن: لا إله في الوجود إلا الله، يستلزم نفي كل إله غير الله تعالى قطعا، فهو في الحقيقة نفي
للحقيقة مطلقة لا مقيدة، وقد قدره (3) ابن عطية: لا إله (4) معبودٌ، أو موجودٌ (5)، وهو قريب مما تقدم، أو هو هو من حيث المعنى، ولا معنى لهذا الإنكار، وليت شعري ما يقدِّرُ هذا المنكِرُ فيه؛ إذ لا بد من تقدير الخبر، وإلا، أدى ذلك إلى خرم قاعدة عربية مجمَع عليها.
(1) الحقيقة ليست في «ق» .
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(3)
في (خ): قدرها.
(4)
في (ق): "إلا الله بدل لا إله.
(5)
انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 340).
السابع: قوله عليه الصلاة والسلام: «عليك بالصعيد، فإنه يكفيك» (1).
قال الأزهري: الصعيد في كلام العرب على وجوه: فالتراب الذي على وجه الأرض يسمى صعيدا، ووجه الأرض يسمى صعيدا، والطريق يسمى صعيدا.
قال: وقد قال بعض الفقهاء: الصعيد: وجه الأرض، سواء كان عليه التراب، أو لم يكن، ويرى التيمم بوجه الصفاة الملساء جائزا، وإن لم يكن عليها ترابٌ إذا تمسح بها للتيمم، وسمي وجه الأرض صعيدا؛ لأنه صعد على الأرض.
ومذهب أكثر الفقهاء أن الصعيد في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]: أنه التراب الطاهر، وجد على وجه الأرض، أو أخرج من باطنها، ومنه قوله عز وجل:{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، انتهى (2).
ق: في شرح الإلمام: قوله عليه الصلاة والسلام: «عليك بالصعيد» يحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد؛ إذ هاهنا صعيد معهود، وهو المكان الذي هم فيه، ويحتمل أن تكون للجنس، فإذا حمل على العهد، دل على جواز التيمم بما هو صعيد حينئذ بذلك المكان، ولا دليل لنا على تعين ذلك الصعيد، مما اختلف فيه من
(1) فإنه يكفيك ليس في «ق» .
(2)
انظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري (ص: 52 - 53).
المسائل، ولا يمكن الاستدلال بهذا عليه.
وإن حمل على الجنس، رجع الحال إلى معرفة ما يسمى صعيدا، ويكون الحديث كالآية سواء في أخذ حكم التيمم منه، ولا شك في تناول اللفظ لذلك الصعيد، إما بخصوصه، أو بعمومه.
قلت: فتحصيل هذه المسألة: أن ما يتيمم به على ثلاثة أقسام:
جائز باتفاق: وهو التراب المنبت الطاهر.
ومقابله، وهو التراب النجس.
والثالث: مختلف فيه، وهو ما كان طاهرا ليس بتراب؛ كالرمل، والحجر، والجِصِّ، والنورة، ونحو ذلك مما تقدم ذكره، والله أعلم.
الثامن: في الحديث دليل صريح على جواز تيمم الجنب، ولم يختلف الفقهاء في ذلك، إلا أنه روي عن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما: أنهما منعا تيمم الجنب، وقيل: إن بعض التابعين وافقهما، وأظنه الحسن، وقيل: إنهما رجعا عن ذلك.
ق: وكأن سبب التردد ما أشرنا إليه من حمل الملامسة على غير الجماع، مع عدم وجود دليل عندهم على جوازه، والله أعلم (1).
التاسع: فيما اشتمل عليه الحديث من الفوائد، وذلك مسائل:
الأولى: أن على العالم إذا رأى من فعل فعلاً يحتمل أن يسوغ، ويحتمل ألا يسوغ: أن يسأله؛ ليتبين حاله.
(1) انظر: شرح الإلمام (5/ 40)، وشرح عمدة الأحكام كلاهما لابن دقيق (1/ 110).
الثانية: فيه أن انفراد الإنسان بحضرة المصلين أمر معفي على صاحبه.
الثالثة: فيه حسن الملاطفة والرفق في إنكار ما هو منكر، أو محتمل لما هو منكر؛ لإخراجه عليه الصلاة والسلام كلامه في معرض
السؤال عن السبب المقتضي للترك، على ما تقدم تقريره.
الرابعة: فيه أمر الصلاة جماعة.
الخامسة: فيه ذكر إبداء العذر لنفي اللوم.
السادسة: هذه اللفظة قد تدل على أن الذي عرض للمنعزل هو اعتقاد أن التيمم ليس سائغا للجنب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام
أحاله على الصعيد من غير بيان للتعبد بما يفعله فيه، وصفة تيممه به، ولم يزد على قوله:«عليك بالصعيد» ، هذا هو الظاهر من اللفظ، ولو كان غير عالم بكيفية التيمم، وصفة العمل فيه، لوجب بيانه، واحتمال بيانه من غير أن ينفك البيان خلاف ما دل عليه ظاهر اللفظ.
السابعة: فيه الاكتفاء في البيان الأحكام الشرعية بما يحصل به المقصود من الإفهام، دون تعيين ما هو صريح في البيان غير محتمل لشيء آخر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«عليك بالصعيد» .
الثامنة: فيه دليل على اعتبار ما دلت عليه القرائن من فهم المقصود في العام والمطلق، إذا اقتضت القرائن تخصيصا أو تقييدا (1)؛ فإن قوله عليه الصلاة والسلام: «عليك بالصعيد؛ فإنه
(1) في (ق): "تقيداً.
يكفيك» لا بد أن يفهم منه: فإنه يكفيك في هذه الحالة، أو في مثل هذه الحالة، ولا يؤخذ (1) منه إطلاق الكفاية، بل يتقيد بما يوجد فيه الشرط، والركن في التيمم.
التاسعة: قد يؤخذ من قوله عليه الصلاة والسلام: «فإنه يكفيك» دليل على عدم القضاء للمسافر المتيمم (2).
العاشرة: في الحديث: الجريان على سنة العادة التي أجراها الله تعالى في خلقه، وعدم التوقف لأجل انخراقها، وأن ذلك غير منعي، ولا ناقص في التوكل، والتوحيد يحرك نظرا كثيرا في مسائل التوكل، والاقتضاب، وما ينافي التوكل في المباشرات للأسباب، وما لا (3) ينافيه، وله موضع آخر، إلا أن الذي يحتاج إليه هاهنا: هو أن مثل هذا السبب غير مناف، والله أعلِمَ.
ولتعلم: أن أكثر هذه الفوائد العشر من كلام ق في شرح الإلمام (4)، غير أني لخصت بعضها من حيث العبارة خاصة، والله الموفق.
* * *
(1) في (خ): يوجد.
(2)
في (ق): "التيمم.
(3)
لا ليست في «ق» .
(4)
انظر: شرح الإلمام لابن دقيق (5/ 41) وما بعدها.