الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
5 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: - «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ (1)» (2).
وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» (3).
(1) في (ق): "فيه.
(2)
* تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (236)، كتاب: الوضوء، باب: البول في الماء الدائم، واللفظ له، ومسلم (282)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، وأبو داود (69)، كتاب: الطهارة، باب: البول في الماء الراكد، والنسائي (400)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، والترمذي (68)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في كراهية البول في الماء الراكد، إلا أنه قال:«ثم يتوضأ منه» .
(3)
رواه مسلم (283)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاغتصال في الماء الراكد، وأبو داود (70)، كتاب: البول في الماء الراكد، والنسائي (220)، كتلاب: الطهارة، باب: النهي عن اغتصال الجنب في الماء الدائم، وابن ماجه (605)، كتاب: الطهارة، باب: الجنب ينغمس في الماء الدائم، أيجزئه. =
* الشرح:
* الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: هل هذا النهي على التحريم، أو على الكراهة؟
فمالك رحمه الله حمله على الكراهة؛ لاعتقاده أنَّ الماء لا ينجس إِلَّا بالتغيير (1)؛ لدليل دله (2) على ذلك. وحمله غيره على التحريم، وسيأتي الكلام على ذلك (3) بعد إن شاء الله تعالى.
الثاني: الدائم: الراكد الساكن، والدائم -أيضا-: الدائر، قيل: هو من الأضداد، يقال للساكن والدائر: دائم (4)، ويقال: به (5) دُوَامٌ -بالضم-؛ أي: دُوار، وهو دوار الرأس.
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
معالم السنن للخطابي (1/ 38)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 105)، والمفهم للقرطبي (1/ 541)، وشرح مسلم للنووي (3/ 187)، وشرح الإلمام (1/ 161، 259)، وشرح عمدة الأحكام كلاهما لابن دقيق (1/ 21)، والتوضيح لابن الملقن (4/ 484)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 347)، وكشف اللثام للسفاريني (1/ 71)، وسبل السلام للصنعاني (1/ 19)، ونيل الأوطار للشوكاني (1/ 27).
(1)
في (ق): "بالتغييير.
(2)
في (ق): "ذلك.
(3)
في (ق): "على هذا.
(4)
دائم ساقط في (ق).
(5)
في (ق): "فيه.
قال الجوهري: وتدويم الطير: تحليقه، وهو دورانه في تحليقه؛ ليرتفع إلى السماء، وقال بعضهم: تدويم الكلب: إمعانه في الهرب (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «الذي لا يجري» ، قيل: هو توكيد لمعنى الدائم، وتفسير له.
وهذا عندي ضعيف، والذي يليق بالحديث غيره، وهو أن يقال: لا يمتنع أن يطلق على البحار والأنهار الكبار التي (2) لا ينقطع ماؤها؛ أنها دائمة، بمعنى أنها غير منقطع ماؤها، وقد اتفق على أنها غير مرادة في هذا الحديث، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام:«الذي لا يجري» ، مخرجا لها من حيث كان يطلق عليها أنها دائمة (3) بالمعنى المذكور. و (4) هذا أولى من حمله على التوكيد الذي الأصل عدمه، ولأنَّ حمل الكلام على فائدة جديدة أولى من التوكيد، لاسيما كلام الشارع، بل أقول: لو لم يأت قوله: «الذي لا يجري» ، لكان مجملاً بحكم (5) الاشتراك بين الدائر والدائم، فلا يصح الحمل على التوكيد، والله أعلم.
(1) انظر: الصحاح للجوهري (5/ 1922)، مادة:(دوم).
(2)
في (خ): الذي.
(3)
في (ق): "دائرة.
(4)
الواو ليست في (خ).
(5)
في (ق): "بحسب.
وقال بعض الشافعية: يجوز أن يكون تحرزا عن الراكد الذي لا يجري بعضه؛ كالبرك، ونحوها (1).
وهذا كأنه راجع لما قلناه، ولكن في العبارة فتور.
الثالث: أصل الماء: مَوْهٌ؛ بدليل مُوَيْه وأمواه تصغيرا، أو تكسيرا، فحركت (2) الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، فاجتمع (3) خفيان: الألف والهاء، فقلبت الهاء همزة، والله أعلم (4).
الرابع: الألف واللام في الماء لبيان حقيقة الجنس، ويقال فيها -أيضا-: للمح الحقيقة، كما يقال ذلك في نحو: أكلت الخبز، وشربت الماء، وليست للجنس الشامل؛ إذ لا ينهى الإنسان عن البول في جميع مياه الأرض؛ إذ النهي (5) إنما يتعلق بالممكن دون المستحيل، ويجوز أن تكون للعهد الذهني، والأول أظهر.
فائدة:
الألف واللام لها تسعة أقسام:
للجنس: نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2].
وللعهد: نحو قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16].
(1) انظر: شرح مسلم للنووي (3/ 187).
(2)
في (ق): "بتصغير أو تكسير، تحركت.
(3)
في (ق): "فاجتمعت خفتان.
(4)
انظر: تفسير القرطبي (1/ 229).
(5)
في (ق): "والنهي.
ولبيان حقيقة الجنس، أو لتعريف (1) الحقيقة: نحو ما تقدم من قولنا: أكلت الخبز، وشربت الماء.
وللحضور: نحو يا أيها الرجل! وخرجت هذا (2) الحين، وهذا الوقت، ونحو ذلك.
وَلِلَمْحِ الصفة: نحو الحارث، والعباس، على ما هو مبين في كتب النحو.
وبمعنى الذي: نحو الضارب، والمضروب، أي: الذي ضَرَبَ، والذي ضُرِبَ.
وغالبة (3): نحو النجم، والعَيُّوق، فإنه غلب على نجم مخصوص، وعَيُوقٍ مخصوص، وكذلك قولنا: قرأت الكتاب العزيز، فإنه غلب على القرآن الكريم، وإن كان الكتاب صالحًا لغيره.
وللتزيين: في نحو: الذي، والتي، على الصحيح عند النحاة رحمهم الله تعالى، لا للتعريف، وهي كذلك عند بعض الأصوليين في قولهم: دلَّ الدليل على كذا.
وزائدة: كقولهم: ادخلوا الأول فالأول، وجاؤوا الجماء الغفير، ومن ذلك قول الشاعر:[الرجز]
(1) في (ق): "للمح.
(2)
في (ق): "في هذا.
(3)
في (ق): "وللغلبة.
بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِ وَمِنْ أَسِيرِهَا
…
حُرَّاسُ أَبْوَابٍ عَلَى قُصُورِهَا (1)
فأدخل الألف واللام على الاسم العلم زيادة (2).
الخامس: قال القرطبي في «المفهم» : الرواية الصحيحة «يغتسلُ» برفع اللام، ولا يجوز نصبها؛ إذ لا ينصب بإضمار أن بعد (3) ثم، وبعض الناس قيده (ثم يغتسل) مجزوم اللام على العطف على (4)(يبولن)، وهذا ليس بشيء، إذ لو أراد ذلك، لقال: ثم لا يغتسلن؛ لأنه إذ ذاك عطفُ فعل على فعل، لا عطف جملة على جملة، وحينئذ يكون الأصل مساواة الفعلين في النهي عنهما، وتأكيدهما بالنون الشديدة؛ فإن المحل الذي تواردا عليه هو شيء واحد، وهو الماء، فعدوله (5) عن «ثم لا يغتسلن» دليل على أنه لم يرد العطف، وإنما جاء (ثم يغتسل) على التنبيه على مآل الحال، ومعناه: أنه إذا بال فيه، قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله؛ لما أوقع فيه من البول، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة، ثم يضاجعُها» (6)،
(1) لأبي النجم العجلي، كما ذكر الزمخشري في «المفصل» (ص: 30).
(2)
في (خ): زائدة.
(3)
في (ق): "إلا بنصب بإضمار أن فعل ثم.
(4)
على ليست في (ق).
(5)
في (ق): "فقدله.
(6)
رواه البخاري (4658)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، ومسلم (2855)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، =
برفع يضاجعها، ولم يروِه أحد بالجزم، ولا تخيله فيه؛ لأن المفهوم منه: أنه إنما نهاه عن ضربها؛ لأنه يحتاج إلى مضاجعتها في ثاني حال، فيمتنع عليه بما أساء من معاشرتها، ويتعذر عليه المقصود لأجل الضرب، وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها، وثم هو يغتسل، انتهى كلامه (1).
ح: الرواية: (يغتسل) مرفوع، أي: لا تبل، ثم أنت تغتسل منه.
قال: وذكر شيخنا أبو عبد الله (2) بن مالك: أنه يجوز أيضا جزمه عطفًا على (يبولن)، ونصبه بإضمار أن؛ بإعطاء (ثم) حكم واو الجمع، فأما الجزم فظاهر، وأما النصب فلا يجوز؛ لأنه يقتضي أن (3) المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقله أحد، بل البول منهي عنه، سواء (4) أراد الاغتسال فيه، أو منه (5)، أو لا (6)، انتهى كلامه.
= باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه بلفظ:«إلام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة، ولعله يضاجعها من آخر يومه؟» ، وهذا سياق مسلم. ورواه الإمام أحمد في «المسند» (4/ 17)، عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه أيضا بلفظ:«علام يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد، ثم يضاجعها من آخر الليل؟» .
(1)
انظر: «المفهم» للقرطبي (1/ 541).
(2)
في (ق) زيادة: محمد.
(3)
أن ليست في (ق).
(4)
سواء ليست في (ق).
(5)
أو منه ليست في (ق).
(6)
انظر: «شرح مسلم» للنووي (3/ 187).
فقد رأيت موافقته في جواز الجزم لابن مالك، وهو ضعيف، كما قاله القرطبي آنفًا.
ق (1): وهذا التعليل الذي عّلل به يحيى -يعني (2) النواوي- امتناع النصب ضعيف؛ لأنه ليس فيه أكثر من كون هذا الحديث لا يتناول النهي عن البول في الماء الراكد بمفرده، وليس يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة بلفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث (3)، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر، والله أعلم (4).
قلت: ووقع لي أن مثل هذا الحديث على القول بجواز النصب: قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42]، على أحد الوجهين، وهو النصب لا الجزم؛ فإن النهي في الآية أيضا عن شيئين:
أحدهما: لبس الحق بالباطل، وهو زيادتهم في التوراة ما ليس منها.
والثاني: كتمان الحق، وهو جحدهم ما فيها من نعوته عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك، حتى إنه يقال في الآية أيضا على
(1) في (ق): "قلت.
(2)
يحيى -يعني- ليس في (ق).
(3)
في (ق): "الواحد.
(4)
انظر: «شرح الإلمام» لابن دقيق (1/ 178).
وجه النصب -إنه يؤخذ منها النهي عن الجمع، ويؤخذ النهي عن الإفراد من دليل آخر، كما قاله ق في الحديث المذكور، ثم إني بعد ذلك وجدت الآية المذكورة منصوصا عليها في «شرح المفصل» لابن يعيش رحمه الله. قال: وجرت هذه المسألة يوما في مجلس قاضي القضاة بحلب، فقال أبو الحزم الموصلي: لا يجوز النصب في الآية؛ لأنه لو كان منصوبا، لكان من قبيل: لا تأكلِ السمك وتشربَ اللبن، وكان مثله في الحكم، فيجوز (1) تناول كل واحد منهما، كما يجوز ذلك في (2) لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فقلت: يجوز أن يكون منصوبا، ويكون النهي عن الجمع بينهما، ويكون كل واحد منهما منهيا (3) عنه بدليل آخر، ونحن إنما قلنا في قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، إنه يجوز تناول كل واحد منهما منفردا؛ لأنه لا دليل إلا هذا (4)، ولو قدرنا دليلاً آخر للنهي عن كل واحد منهما منفردا، لكان كالآية، فانقطع الكلام عند ذلك، انتهى كلامه.
فالحمد لله الذي أرشدنا لما أرشد إليه من قبلنا.
فإذا ثبت جواز النصب في الآية المذكورة، ثبت جوازه في الحديث
(1) في (خ): يجوز.
(2)
في ليست في (ق).
(3)
في (ق): "منهي.
(4)
في (ق): "إلا أنه لا دليل إلا هذا.
المذكور على ما تقرر؛ إلا أن الرفع فيه هو (1) الأصل، كما أن الجزم في الآية هو الأصل، وبالله التوفيق.
فائدة أصولية:
النهي المتعلق بشيئين؛ تارة يكون نهيا عن الجمع (2) بينهما (3)، وتارة يكون على (4) الجمع بينهما.
أما النهي عن الجمع (5) بينهما (6)، فيقتضي المنع من كل واحد منهما.
وأما النهي على (7) الجمع بينهما، فمعناه: النهي عن فعلهما معا بقيد الجمعية، ولا يلزم منه المنع من أحدهما إلا (8) مع الجمعية، فيمكن أن يفعل أحدهما من غير أن يفعل الآخر، والنهي عن الجمع مشروط بإمكان الانفكاك بين الشيئين، والنهي على (9) الجمع مشروط بإمكان الخلو عن الشيئين، والنهي على الجمع (10) منشؤه أن يكون في
(1) في (ق): "فهو.
(2)
في (ق): "الجميع.
(3)
بينهما ليست في (ق).
(4)
في (ق): "عن.
(5)
في (ق): "الجميع.
(6)
بينهما ليست في (ق).
(7)
في (ق): "عن.
(8)
في (خ): لا.
(9)
في (ق): "عن.
(10)
في (ق): "عن الجميع.
كل واحد منهما مفسدة تستقل بالمنع، والنهي عن الجمع حين تكون المفسدة ناشئة عن اجتماعهما، وهذا الحديث من باب النهي عن الجمع؛ أي: لا يجمع بين البول في الماء الراكد، والاغتسال منه، وقد جاءت فيه رواية تقتضي النهي على (1) الجمع، وهي رواية محمد بن عجلان، وهي:«لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه» ، والله أعلم (2).
* السادس: وفيه مسائل:
الأولى: الماء إما جارٍ، أو راكد، فالراكد إذا خلط بنجاسة، ولم تغيره، فإن كان مستبحرا جدا، لم تؤثر (3)، وإن كان دون ذلك ففيه مذاهب:
أحدها: قال مالك: لا ينجس إلا بالتغيير، قليلاً كان أو كثيرا، ونقل ذلك عن بعض الصحابة، وهو مذهب الأوزاعي، وداود، وقول (4) لأحمد بن حنبل، نصره بعض المتأخرين من أتباعه، ورجحه الروياني (5)، من أتباع الشافعي.
(1) في (ق): "عن.
(2)
نقل المؤلف هذه الفائدة ع شيخه ابن دقيق في كتابه «شرح الإلمام» (1/ 174)، ولم يشر إلى ذلك رحمه الله.
(3)
في (ق) زيادة: فيه.
(4)
في (ق) زيادة: به.
(5)
في (ق): "الروتاتي، وهو خطأ.
وأما أبو حنيفة ومن تابعه، فإن الطحاوي قال في «مختصره»: وإذا وقعت نجاسةٌ في ماء ظهر لونها أو طعمها، أو ريحُها، أو لم يظهر ذلك فيه، فقد نجّسه، قليلاً كان (1) أو كثيرا؛ إلا أن يكون جاريا، أو حكمه حكم الجاري؛ كالغدير الذي لا يتحرك أحد أطرافه بتحرك (2) سواه من أطرافه (3).
وأما الشافعي رحمه الله، فاعتبر القلتين، وقال: إنه ينجس ما دونهما بوقوع النجاسة وإن لم يتغير (4)، وهي رواية عن أحمد، ورجحها جماعة من أتباعه في غير بول الآدمي، وعذرتِهِ المائعة، فأما هما فينجسان الماء، وإن كان قلتين فأكثر على المشهور، ما لم يكثر إلى حيث لا يمكن نزحه (5)؛ كالمصانع التي بطريق مكة.
وأما الجاري: فهو عندنا كالكثير إذا كان المجموع كثيرا.
هذا على الجملة، ولا حاجة بنا هنا (6) إلى التفصيل والتفريع؛ إذ ذلك مبسوط في كتب الفقه، والقصد (7) هنا ما يتعلق بألفاظ الحديث.
(1) في (ق) زيادة: ذلك الماء.
(2)
في (ق): "بتحريك.
(3)
انظر: «مختصر الطحاوي» (ص: 16).
(4)
في (ق): "تغير.
(5)
في (ق): "ترجحه.
(6)
هنا ساقط في (ق).
(7)
في (ق): "والمقصود.
* الثانية: عموم هذا الحديث لا بد من تخصيصه بالاتفاق، فإن المستبحِرَ لا يثبت فيه هذا الحكم -كما تقدم-، ولا تؤثر فيه النجاسة.
واتفق على منع استعمال المغير (1) بالنجاسة، فمالك رحمه الله وإن حمل (2) النهي على الكراهة؛ لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير (3) -كما سبق-، فلا بد أن تخرج صورة التغير (4) بالنجاسة؛ فإن الحكم ثم التحريم، والحنفي خصصه بما حكيناه آنفًا، وكذلك أحمد بن حنبل رحمهما الله، فقد اتفق الكل على التخصيص، فاعرفه.
* الثالثة: ارتكب الظاهرية ها (5) هنا مذهبا شنيعا، واخترعوا في الدين أمرا بديعا، فوَّق سهام الملامة إليهم، وأوجب عظيم الإزراء عليهم، حتى أخرجهم بعض الناس من (6) أهلية الاجتهاد، بل من العلم مطلقًا، واعتبار الخلاف في الإجماع، منهم: ابن حزم القائل: إن كل ماء راكد، قلّ أو كثر، نحو (7) من البرك العظام وغيرها، بال فيه إنسان (8)،
(1) في (ق): "المتغير.
(2)
في (ق) زيادة: -تعالى- وإن حمل على النهي على الكراهة.
(3)
في (ق): "بالتغيير.
(4)
في (ق): "المتغير.
(5)
ها زيادة من (ق).
(6)
في (ق): "عن.
(7)
نحو ليست في (ق).
(8)
في (ق): "الإنسان.
لا يحل لذلك البائل خاصة الوضوء منه، ولا الغُسل، وإن لم يجد غيره، وفرضه (1) التيمم، وجائز لغيره الوضوء منه والغُسل، وهو طاهر مطهر لغير الذي بال فيه، قال: ولو تغوط فيه، أو بال خارجا منه، فسال البول إلى الماء الدائم، أو بال في إناء (2) وصبه في ذلك الماء، ولم تتغير له صفة، فالوضوء منه والغُسل جائز لذلك المتغوط فيه، والذي سال بوله فيه، ولغيره (3).
فيا له مذهبا ما أشنعه، ومعتقدا ما أبشعه!
وممن شنع على ابن حزم في ذلك، الحافظ أبو بكر بن مفوز، فقال (4) بعد حكاية كلامه: فتأمل -أكرمك الله- ما جمع هذا القول من السخف، وحوى من الشناعة! ثم يزعم أنه الدين الذي شرعه الله تعالى، وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم -أكرمك الله- أن هذا الأصل الذميم مربوط إلى ما أقول، ومخصوص على ما أمثل: أن البائل في (5) الماء الكثير -ولو نقطة، أو جزءًا من نقطة-، فحرام عليه الوضوء منه، وإن تغوط فيه حِملًا، أو
(1) في (ق): "ففرضه.
(2)
في (ق): "في الماء.
(3)
انظر: «المحلى» لابن حزم (1/ 135).
(4)
فقال ليست في (ق).
(5)
في (ق): "على.
جمع بوله في إناء شهرا، ثم صبه فيه، فلم يغير له (1) صفة، جاز له الوضوء منه، فأجاز له الوضوء منه بعد حمل غائط أنزله به (2)، أو صب من بول صبه فيه، وحرمه عليه لنقطة من بول بالها فيه، جَلَّ الله تعالى عن قوله، وكرم دينه عن إفكه.
السابع: النهي عن الاغتسال لا يخص الغسلَ، بل الوضوءَ كذلك. كما ورد مصرحا به في الرواية الأخرى المتقدم ذكرها، وهو قوله:«ثم يتوضأ منه» ، ولو لم ترد، لكان ذلك معلوما؛ إذ لا فرق بين الوضوء والغسل في المعنى؛ لما تقدم من أن المقصود: إنما هو التنزه عن النجاسات والمستقذرات مطلقًا، كان ذلك في وضوء، أو غسل.
الثامن: أما الرواية الثانية، وهي قوله عليه الصلاة والسلام:«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» ، فقد استدل به بعض الشافعية على مسألة الماء المستعمل، وأن الاغتسال في الماء يفسده؛ لأن النهي هاهنا وارد على مجرد الغسل، فدل على وقوع المفسدة بمجرده، وهي خروجه عن كونه أهلاً للتطهير (3)، إما لنجاسته، أو لعدم طهوريته، وإن كان للشافعي قولان، لكن أشهرهما: أنه غير طهور، وهذا بناء منهم على أن النهي على التحريم.
(1) في (ق): "لونه بدل له.
(2)
في (ق): "فيه.
(3)
في (ق): "أصلا للتطهير به.
وأما مالك رحمه الله تعالى، فقد تقدم أنه يحمله على الكراهة دون التحريم -كما تقرر-، وإذا ثبت أن النهي على الكراهة، أو احتمل ذلك، سقط الاستدلال على عدم طهورية الماء المستعمل بهذا الحديث.
هذا، وقد روى أبو داود: أنه عليه الصلاة والسلام مسح رأسه من فضل ماء كان في يده (1)، وقد قال في بئر بُضاعة: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء» (2)، ومن جهة المعنى: أن هذا الماء لم يلاقِ إلا جسما طاهرا، ولم يخرج عن اسم الماء، وكونه أديت به عبادة لا تأثير له كما لو صلى بالثوب الواحد مرارا، وكالمد من الطعام يكفر به مرارا.
فإن قلت: لم كُره عند وجود غيره، عند مالك رحمه الله؟ قلت: اختلف في علة ذلك، فقيل: لاختلاف العلماء فيه، فغيره مما لا خلاف فيه أولى، وقيل: لشبهه بالماء المضاف؛ وإن كانت الإضافة لم تغيره، إذ الأعضاء -في الأغلب- (3) لا تخلو عن الأعراق
(1) رواه أبو داود (130)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها.
(2)
رواه أبو داود (66)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بئر بضاعة، والنسائي (326)، كتاب: المياه، باب: ذكر بئر بضاعة، والترمذي (66)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، وقال: حسن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
في (ق): "الغالب.
والأوساخ، لا سيما أعضاء الوضوء؛ لأنها بارزة للغبرات والقترات -غالبا-، فتخالط الماء. هذا هو المشهور من مذهب مالك رحمه الله تعالى؛ أعني: طهورية الماء المستعمل، لكن كره لما ذكرناه.
وقال أصبغ: إنه (1) غير طهور.
وقيل: مشكوك فيه، فيتوضأ به، ويتيمم.
وأما أبو حنيفة رحمه الله، فقال في إحدى الروايات عنه: إنه نجس نجاسة صريحة، إلا أنه يقول على هذه الرواية: إن ما يترشش منه على الثوب، وما يعلق بالمنديل عند التنشيف (2) من بلله طاهر، وإنما يحكم بنجاسته عند استقراره متصلاً إلى الأرض، أو إلى الإناء.
وعنه رواية ثانية: أنه طاهر غير مطهر.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: هو طاهر غير مطهر.
وروي عنه أيضا: أنه مطهر كما يقول مالك.
التاسع: مادة الجنابة، البعد؛ هذا أصلها في اللغة، قال الشاعر:[الطويل]
يَنَالُ يَدَاكَ الْمُعْتَفِي عَنْ جَنَابَةٍ
…
وَلِلْجَارِ حَظٌّ مِنْ نَدَاكَ سَمِينُ (3)
(1) إنه ليست في (ق).
(2)
في (ق): "على الثياب، وما يتعلق بالتنشف عند المنديل.
(3)
لخلف بن خليفة، كما نسبه إليه ابن الأنباري في «الأضداد» (ص: 202).
أي: يناله عن بعد.
والجُنُبُ من الرجال: البعيد الغريب، قال الله عز وجل:{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36].
وقال الشاعر: [المنسرح]
مَا ضَرَّهُ لَوْ غَدَا (1) لِحَاجَتِنَا
…
غَادٍ كَرِيمٍ أَوْ رَائِدٌ جُنُبُ (2)
أي: بعيد، وقد حمل عليه قوله تعالى:{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، فقيل: أي (3): عن بعد، ويثنى هذا، ويجمع، فيقال (4): جُنُبَان، وهم جُنُبُون، وأجناب.
قالت (5) الخنساء: [البسيط]
فَابْكِي أَخَاكِ لِأَيْتَامٍ وَأَرْمَلَةٍ
…
وَابْكِي أَخَاكِ إِذَا جَاوَرْتِ أَجْنَابَا (6)
أي: أقواما بُعَدَاء.
وقيل: معنى تَجَنَّبَ الرجل الشيء: جعله جانبا، وتركه، فقيل: من هذا يقال: رجل جُنُبٌ؛ أي: أصابته الجنابة، كأنه في جانب عن الطهارة.
(1) في (ق): "عاد.
(2)
لعبيد الله بن الرقيات، كما في «ديوانه» (ص: 3).
(3)
أي ليست في (ق).
(4)
في (ق): "يقال.
(5)
في (ق): "وقالت.
(6)
انظر: «ديوان الخنساء» (ص: 11).
ولتعلم أن الجنابة في عرف حملة الشرع تطلق (1) على إنزال الماء، والتقاء الختانين، أو ما يترتب على ذلك.
قال أبو القاسم الراغب في «المفردات» : وقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ أي: أصابتكم الجنابة، وذلك بإنزال الماء، أو بالتقاء الختانين.
ثم قال: وسميت الجنابة بذلك؛ لكونها سببا لتجنب الصلاة في حكم الشرع، والله أعلم (2)، هكذا نقله ق في «شرح الإلمام» (3).
* * *
(1) في (ق): "تنطلق.
(2)
انظر: «مفردات ألفاظ القرآن» (ص: 206).
(3)
انظر: «شرح الإلمام» لابن دقيق (1/ 247 - 249). وقد نقل المؤلف رحمه الله أكثر الفوائد التي ذكرها في شرح هذا الحديث عن شيخه ابن دقيق دون عزو.