الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
48 -
عَنْ عَلِيٍّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: «مَلأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (1) وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ» (2).
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى؛ صَلاةِ الْعَصْرِ» ،
(1) في (ق): "قبورهم.
(2)
* تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2773)، كتاب: الجهاد، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، واللفظ له، و (3885)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، و (4259)، كتاب: التفسير، باب:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ الوُسْطَى} [البقرة: 238]، و (6033)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، ومسلم (627)، (1/ 436)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر، وأبو داود (409)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة العصر، والنسائي (473)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على صلاة العصر، والترمذي (2984)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة، وابن ماجه (684)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على صلاة العصر.
ثُمَّ صَلاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (1).
وَلَهُ (2): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ صلاة الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى؛ صَلاةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً» ، أَوْ:«حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً» (3).
* * *
* الكلام على الحديث من وجوه:
(1) رواه مسلم (627)(1/ 437)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر. ووقع عنده: «
…
ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء».
(2)
من قوله: «وله عن عبد الله بن مسعود» إلى آخر الحديث ليس في «ق» .
(3)
رواه مسلم (628)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليط في تفويت صلاة العصر، وابن ماجه (686)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على صلاة العصر.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
إكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 592)، والمفهم للقرطبي (2/ 253)، وشرح مسلم للنووي (5/ 127)، وشرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 139)، والعدة في شرح العمدة لابن العطار (1/ 303)، وطرح التثريب للعراقي (2/ 168)، وفتح الباري لابن حجر (7/ 405، 8/ 195)، وعمدة القاري للعيني (14/ 203)، ونيل الأوطار للشوكاني (1/ 393).
الأول: قوله: (يوم الخندق): أي: في يوم من أيام حفر الخندق، وكان حفر الخندق سنة أربع من الهجرة، وقيل: سنة خمس، ويسمى أيضا: يوم الأحزاب؛ لتحزيب الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلى بني النضير، فخرج نفر منهم إلى مكة - شرفها الله تعالى -، فحرضوا قريشا على قتاله عليه الصلاة والسلام، ثم عادوا إلى غطفان وسُليم، فحرضوهم أيضا، فاجتمع الكل على القتال، فأولئك الأحزاب، فلما أقبلوا نحو المدينة، أشار سلمان رضي الله عنه بالخندق، فحُفِر.
الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام «شغلونا» : هذه هي اللغة الفصحى شغل، وفي لغة رديئة، أشغل.
والشغل، قال الجوهري: فيه أربع لغات: شُغْل، وشُغُل، وشَغْل، وشَغَل، والجمع: أشغال (1).
الثالث: «الوسطى» : (فُعْلَى) مؤنث الأفعل، وهو الأوسط، وكلاهما لا يستعمل إلا بالألف واللام، أو الإضافة، أو من، ف «الوسطى» على الرواية الأولى؛ صفة، وعلى الثانية؛ بدل صلاة العصر من الصلاة الوسطى (2)، من باب بدل الكل من الكل، والمعرفة من المعرفة.
فائدة: (وس ط) في تركيب لسان العرب عبارة عن أحد معنيين: إما عن الغاية في الجودة، وإما عن معنى يكون ذا طرفين، نسبتهما إلى
(1) انظر: الصحاح للجوهري (5/ 1735)، (مادة: شغل).
(2)
صلاة العصر من الصلاة الوسطى ليس في (ق).
الطرفين من جهتهما سواء، وذلك يكون بالعدد، والزمان، والمكان.
الرابع: اختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] على أقاويل تنيف على العشرة، على ما ستراه:
فقيل: صلاة الصبح، وقيل: الظهر، وقيل: العصر، وقيل: المغرب، وقيل: العشاء الآخرة، وقيل: الجمعة، وقيل: الجمعة يوم الجمعة، والظهر سائر الأيام، وقيل: جميع الصلوات الخمس، وقيل: الصبح والعصر، وقيل: الصبح والعشاء الآخرة، وقيل: مبهمة في الخمس إبهام الساعة في يوم الجمعة، وليلة القدر في رمضان، واسم الله الأعظم في سائر أسمائه تعالى، وشبه ذلك؛ لأنه أبعث على المحافظة على جميعها؛ إذ في إبهامها وترك تعيينها حث على الإتيان بجميعها، فكان أولى بها من التعيين المفضي إلى إهمال ما سواها.
وقيل: صلاة الجماعة، وقيل: الوتر، وقيل: صلاة الخوف، فهذه أربعة عشر قولاً (1).
تفصيل هذه الأقوال، ونسبتها إلى قائليها، وتوجيه ما أمكن توجيهه منها:
أما أنها الصبح: فمن (2) نُقل عنه ذلك: عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد،
(1) ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 196) فيها عشرين قولاً، فلتنظر عنده.
(2)
في (ق): "فمن.
والربيع بن أنس، ومالك بن أنس (1)، والشافعي، والجمهور من أصحابه، وغيرهم رضي الله عنهم.
وأما أنها الظهر: فممن (2) نقل ذلك عنه: زيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبو سعيد الخدري، وعائشة، وعبد الله بن شداد، ورواية عن أبي حنيفة.
وأما أنها العصر: فممن (3) نقل ذلك عنه: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو أيوب، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعبيدة السلماني، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والضحاك، والكلبي، ومقاتل، وأبو حنيفة، وأحمد، وداود، وابن المنذر، وابن حبيب من أصحابنا، وغيرهم.
قال الترمذي: وهو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم (4).
وقال الماوردي: وهو مذهب جمهور التابعين (5).
وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر (6).
وقال ابن عطية في «تفسيره» : وعلى هذا القول جمهور الناس،
(1)«ومالك بن أنس» ليس في (ق).
(2)
في (خ): فمن.
(3)
في (خ): فمن.
(4)
انظر: سنن الترمذي (1/ 342).
(5)
انظر: الحاوي للماوردي (2/ 7).
(6)
انظر: التمهيد (4/ 289)، والاستذكار كلاهما لابن عبد البر (2/ 191).
وبه أقول (1).
وقال الإمام أبو عبد الله المازري (2)، وغيره: هذا مذهب الشافعي؛ لصحة الحديث فيه، وإنما نص على أنها الصبح؛ لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر (3)، ومذهبه اتباع الحديث (4).
قلت: وقد صنف شيخنا شرف الدين الدمياطيُّ -رحمه الله تعالى- في أن مذهب الشافعي أنها العصر مجلدا سماه: «كشف المغطَّى في تبيين الصلاة الوسطى» ، أجاد فيه وأحسن، وأوضح فيه وبيَّن، فليقف عليه من أراد تحصيل هذه المسألة.
وأما أنها المغرب: فقد روي ذلك عن قبيصة ابن ذؤَيب، وقتادة، على اختلاف عنه.
وأما أنها صلاة العشاء الآخرة: فحكي عن علي بن أحمد النيسابوري، وغيره.
وأما أنها الجمعة: فحكاه الماوردي في تفسيره الملقب ب «النكت» عن آخرين، ونسبه ابن ظفر إلى بعض المتأخرين، وحكاه - أيضا - الحافظ المقدسي.
(1) انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 323).
(2)
انظر: المعلم بفوائد مسلم للمازري (1/ 432).
(3)
في العصر ليس في (ق).
(4)
نقل السفاريني في كشف اللثام (2/ 24) عن الزركشي أنه قال: كان بعض الفضلاء يتوقف في نسبة ذلك إلى الشافعي، فإن الأحاديث المصرحة بأنها العصر، من جملة من رواها الشافعي، ولم يخف عنه أمرها مع شهرتها.
وأما أنها الجمعة في يوم الجمعة، والظهر في سائر الأيام، فذكره أبو بكر محمد بن مقسم في «تفسيره» ، وعزاه إلى علي بن أبي طالب -
رضي الله عنه.
وأما أنها جميع الصلوات الخمس: فقال النقاش أيضا في «تفسيره» : ثم زعمت طائفة خرجت عن الأقاويل المشهورة: أن معنى الصلاة الوسطى، هي: الصلوات الخمس، وهي الوسطى من الدين، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«بني الإسلام على خمس» (1)، قالوا: فهي الوسطى من الخمس، وهذا القول يروى عن معاذ، وابن حنبل، وعبد الرحمن بن غنم، والله تعالى أعلم بحقيقته. وقال الحافظ أبو الحسن المقدسي: قيل: إنها الصلوات الخمس؛ لأنها وسط الإسلام؛ أي: خياره، وكذلك قال عمر رضي الله عنه: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة (2)؛ لأن تاركها كافر مطلقًا على قول بعض العلماء، فيكون قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] على هذا عاما في المفروضات والمندوبات، ثم خص المفروضات بمزيد المحافظة؛ تأكيدا لها بالوجوب، وتشريفًا لها بالإفراد بالذكر؛ كقوله تعالى:{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، وكقوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68].
(1) رواه البخاري (8)، كتاب: الإيمان، باب: الإيمان، ومسلم (16)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه محمد بن نصرالمروزي في كتابه القيم: تعظيم قدر الصلاة (2/ 892).
وأما أنها الصبح والعصر جميعا: فذهب إليه القاضي أبو بكر الأبهري من أصحابنا، على ما نقله شيخنا شرف الدين الدمياطي -رحمه الله تعالى- في كشف المغطى.
وأما أنها الصبح والعشاء الآخرة: فذكره ابن مقسم في «تفسيره» ، ونسبه إلى أبي الدرداء رضي الله عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوا» (1)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة فيهما.
وأما أنها مبهمة غير معينة: فهو قول الربيع بن خيثم (2)، ويحكى عن سعيد بن المسيب، ونافع، وشريح، وزيد بن ثابت -رضي الله
عنهم-.
وأما أنها صلاة الجماعة: فحكاه الماوردي في «نكته» ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا» (3)، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في ذلك.
وأما أنها الوتر: فهو اختيار الشيخ أبي الحسن علي بن محمد السخاوي المقرئ النحوي -رحمه الله تعالى-، متمسكًا بأن المعطوف غير المعطوف عليه، وزعم أن الأمر بالمحافظة وقع على الصلوات الخمس، وبالمحافظة على الصلاة الوسطى وقع على صلاة أخرى من غيرهن، وليس لنا صلاة أخرى خارجة عنهن إلا الوتر، وذكر الأحاديث الواردة في فضل الوتر تقوية لما ذهب إليه.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في (خ): خيثم.
(3)
سيأتي تخريجه في باب: فضل صلاة الجماعة.
وأما أنها صلاة الخوف: فلم أعلم قائله على التعيين، غير أن الشيخ شرف الدين رحمه الله قال في كشف المغطى المذكور: حكاه
لنا من يوثق به من أهل العلم؛ لقوله -تعالى- بعد (1): {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238 - 239]، وذكر وجه الدليل من الآية من ثلاثة أوجه، في بعضها أو كلها نظر، لا نطول بذكرها.
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله: وقيل: إنها صلاة عيد الأضحى؛ حكاه لنا من وقف عليه في بعض الشروح المطولة.
قال: وذهب آخرون إلى أنها صلاة عيد الفطر (2)، حكاه لنا أيضا المشار إليه في صلاة الأضحى، قال: وذاكرت فيها أحد شيوخي الفضلاء، فقال: أظنني وقفت على قول من ذهب إلى أنها صلاة الضحى، ثم تردد فيه، فإن ثبت هذا القول، فهو تمام سبعة عشر قولاً. قال الشيخ: وكان شيخنا الحافظ أبو محمد المنذري رحمه الله يقول (3): في المراد «بالوسطى» ، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أوسط الصلاة مقدارا.
والثاني: أنها أوسطها محلاًّ.
(1)«بعد» ليس في (خ).
(2)
قوله: حكاه لنا من وقف عليه في بعض الشروح المطولة. قال: وذهب آخرون إلى أنها صلاة عيد الفطر ليس في (ق).
(3)
«يقول» ليس في (ق).
والثالث: أنها أفضلها، وأوسط كل شيء أفضله.
فمن قال: الوسطى: الفُضْلى، جاز لكل ذي مذهب أن يدعيه، ومن قال: مقدارا، فهي المغرب (1)؛ لأن أقلها ركعتان، وأكثرها أربع، ومن قال: محلاً، ذكر كل أحد (2) مناسبة يوجه بها قوله.
قال الشيخ شرف الدين: وحكى ابن مقسم، عن ابن المسيب: أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا مختلفين في الصلاة الوسطى، وشبك بين أصابعه (3).
وقال النقاش: قال أنس رضي الله عنه: ما اختلفوا في شيء، ما اختلفوا في الصلاة الوسطى، وشبك بين أصابعه.
وأما التابعون، والمفسرون، والمتأولون؛ فعلى مثل اختلاف الصحابة فيها، وليس من الصلوات الخمس صلاة إلا قيل فيها: إنها الصلاة الوسطى، انتهى.
قلت: وبالجملة: فقد قال غير واحد من العلماء: إن أصح هذه الأقوال قول من قال: إنها العصر، أو الصبح (4)، ومال كثيرون إلى ترجيح قول من قال: إنها العصر (5)؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك
(1) في (ق): "للمغرب.
(2)
في (ق): "واحد.
(3)
رواه الطبري في تفسيره (2/ 566).
(4)
قال النووي في المجموع (3/ 65): الصحيح من المذاهب فيها مذهبان: الصبح والعصر.
(5)
قال النووي: والذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر، وهو المختار. =
-على ما تقدم-، ثم الآثار، ثم ما ورد فيها من الاختصاص والفضل، ودل على شرف وقتها في شرعنا وشرع من قبلنا.
وأما ما روي عن (1) عائشة رضي الله عنها: أنها أملَت على كاتبها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، ثم قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وروي عن حفصة بنت عمر رضي الله عنها نحوه (3)، والعطف يدل على التغاير، فلا يعارض ما جاء في ذلك من الأحاديث
الصحيحة؛ لأنه لا حجة فيه من حيث كانت القراءة الشاذة لا توجب علما، ولا عملاً، قال ابن العربي: باتفاق الأمة.
قلت: قوله: باتفاق الأمة فيه نظر؛ فإن الشيخ أبا الوليد الباجيَّ رحمه الله قال في المنتقى في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ما معناه: إن العلماء اختلفوا
= وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (1/ 139): اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى؛ فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها العصر، ودليلهما هذا الحديث -يعني: حديث الباب- مع غيره، وهو قويٌّ في المقصود، وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة.
(1)
في (خ): ما روت.
(2)
رواه مسلم (629)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
(3)
رواه الإمام مالك في الموطأ (1/ 139)، وابن حبان في صحيحه (6323)، وابن جرير في تفسيره (2/ 562)، وغيرهم.
في القراءة الشاذة، هل تجري مجرى خبر الواحد، أو لا؟ على ثلاثة أقوال، ثالثها: الفرق بين أن يسند، أو لا يسند، وصحح عدم العمل بها، واختاره (1). وهذا لا يلتئم مع ما نقله ابن العربي -رحمه الله تعالى-.
وقال بعض متأخري الشافعية -وأظنه ح-: مذهبنا: أن القراءة الشاذة لا يحتج بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع، وإذا لم يثبت قرآنا، لا يثبت خبرا، انتهى (2).
هذا مع أن حديث عائشة رضي الله عنها في أفراد مسلم، وحديث علي متفق عليه.
وأيضا: ثبوت الواو رواه واحد، وإسقاطها رواه جماعة، تقرب روايتهم من حد التواتر، بل قد زعم بعض السلف أنها تواتر.
وأيضا: ظاهر حديثها يحتمل التأويل، وحديث علي رضي الله عنه نص صريح لا يحتمل التأويل.
وأيضا: ليس في حديث علي ما يخالف التلاوة القطعية التي قامت بها الحجة، وحديثها يخالفها.
وأيضا: فقد روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: نزلت: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر)، فقرأناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، ثم نسخها الله عز وجل، فأنزل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ
(1) انظر: المنتقى للباجي (2/ 124).
(2)
انظر: شرح مسلم للنووي (5/ 130).
الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فقال له رجل: أفهي العصر؟ قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله تعالى.
صحيح عالٍ انفرد به مسلم، فرواه في مسنده الصحيح، وقال فيه: هي إذن صلاة العصر (1).
فقد تعارض حديث البراء وحديث عائشة رضي الله عنها في هذه الرواية، فيتساقطان، ويتعين المصير إلى حديث علي رضي الله عنه، على أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها من وجهين:
أحدهما: أن تكون الواو زائدة كما جاءت زائدة في كتاب الله تعالى، وغيره من كلام الفصحاء في غير ما موضع، من ذلك قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 105]، وقاله تعالى:{وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّيْنَ} [الأحزاب: 40]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25]، معناه فيما حكي عن الخليل: يصدون عن سبيل الله، والواو فيه مُقْحَمة، ومثله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} [الأنبياء: 48]، وكذلك:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103 - 104]، أي: ناديناه، وقال الأخفش والكوفيون في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]: إن الجواب (فتحت
أبوابها).
ولا اعتبار بما ذكره بعض ضعفة النحويين: من أنها واو الثمانية، على ما قررناه في «شرح رسالة ابن أبي زيد» ، أعان الله على إكماله.
(1) رواه مسلم (630)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى
…
بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ
أي: انتحى بنا (1).
وقال آخر: [الكامل]
حَتَّى إِذَا قَمِلَتْ بطونُكمُ
…
وَرَأَيْتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا
وَقَلَبْتُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا
…
إِنَّ اللَّئِيمَ الْعَاجِزُ الخِبُّ (2)
أي: قلبتم لنا، ومعنى قملت: كبرت.
والوجه الثاني: وهو المختار عند محققي النحاة رحمهم الله: أن الواو ليست بزائدة، وأن العطف جاء للتنويه والتعظيم، ويكون من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] الآية، وكقوله تعالى:{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، كما عطف المطلق على المقيد (3) في قوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، إلى غير ذلك من الآيات (4).
(1)«بناء» ليس في (ق).
(2)
البيتان أنشدهما ثعلب في «مجالسه» (1/ 59).
(3)
في (ق): " «المقيد على المطلق» .
(4)
وانظر: شرح الكافية لابن مالك (3/ 1261).
قال (1) الزمخشري عند قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]: إن قلت: كيف قال تعالى: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} ؟ قلت: الدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص، فجيء بالعام، ثم عطف عليه الخاص؛ إيذانا بفضله؛ كقوله تعالى:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238](2)، ومنه بيت الحماسة:[الطويل]
أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجاً ولَبَانَهُ
…
إِذَا مَا اشْتَكَى وَقْعَ الرِّمَاحِ تَحَمْحَمَا (3)
فعطف لبانه على الصحيح من الرواية -وهو صدره- على (4) دعلج، وهو اسم فرس، ومعلوم أن الفرس لا يكر دون صدره، فعطف البعض على الكل الذي هو داخل فيه، لما كان الصدر يلتقي به، وتقع به المصادمة، فأعاده لهذه الفائدة، وكقول الآخر:[المتقارب]
إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ
…
وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ (5)
(1) في (ق): " «وقال» .
(2)
انظر: الكشاف للزمخشري (1/ 427).
(3)
انظر: ديوان الحماسة للتبريزي (1/ 43).
(4)
في (ق) زيادة: الصحيح من الرواية.
(5)
انظر: خزانة الأدب للبغدادي (1/ 451).
فعطف (ليثِ الكتيبة، وابنِ الهمام) على (الملكِ القرمِ)، وهو هو في المعنى؛ لما فيه من الزيادة في مدحه، والتنويه بذكر أبيه.
فإن قلت: قد حصل التخصيص والتنويه في العطف الأول، وهو قوله تعالى:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فوجب أن يكون الثاني، وهو قوله:(وصلاة العصر) مغايراً (1) له، وأن الوسطى ليست العصر، إذ الشيء لا يعطف على نفسه.
قلت: العطف الأول لما ذكر، والثاني: جاء توكيدا وبيانا لما اختلف اللفظان، كما حكى سيبويه: مررت بأخيك وصاحبك، والصاحب هو الأخ (2).
وقال أبو دؤاد (3) الإيادي: [الخفيف]
سُلِّطَ المَوْتُ والمَنُونُ عليهِمْ
…
فلَهُمْ في صَدَى المَقَابِرِ هامُ (4)
والمنون: الموت.
وقال عديُّ بن زيد العباديُّ:
وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ
…
فَأَلْفَى قَوْلهَا كَذِباً وَمَيِناَ (5)
(1) في (خ): مغاير.
(2)
انظر: الكتاب لسيبويه (1/ 399).
(3)
في (ق): "داوود.
(4)
انظر: الأصمعيات (ص: 187)، وتهذيب اللغة للأزهري (12/ 151).
(5)
انظر: طبقات فحول الشعراء لابن سلَاّم (1/ 76)، وجمهرة اللغة لابن دريد (2/ 993).
والمَيْن: الكذب.
وقال آخر: [الطويل]
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ
…
وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ (1)
والنأي: البعدُ بعينه.
وقال طَرَفَة بن العبد: [الطويل]
فَمَالِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكًا
…
مَتَى أَدْنُ مِنْهُ يَنْأَ عَنِّي وَيَبْعُدِ
وقال عنترة: [الكامل]
حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ
…
أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَمِ
وأقوى: بمعنى: أقفر.
وقال ابن دريد: [الرجز]
مَنْزِلَةٌ مَا خِلْتُهَا يَرْضَى بِهَا
…
لِنَفْسِهِ ذُو أَرَبٍ وَلا حِجَا
والأربُ والحِجا: العقل.
حتى إن الشيء يضاف لنفسهِ عند اختلاف اللفظ؛ كما قال ابن دريد أيضا: [الرجز]
فَكُلُّ مَا لاقَيْتُهُ مُغْتَفَرٌ
…
فِي جَنْبِ مَا أَسْأَرَهُ شَحْطُ النَّوَى (2)
(1) البيت للحطيئة.
(2)
ذكر هذين البيتين: المرزوقي في أماليه، من قصيدة ساقها لأبي بكر محمد ابن الحسن بن دريد الأزدي.
والشحطُ (1): وهو النوى؛ أي: البعد.
وهذا كثير جدا لا يكاد يحصى، والله أعلم (2).
وإذا ثبت الجمع بين الحديثين، ثبت أنها العصر.
وأما ما روي عن مالك رحمه الله: أنه بلغه أن علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقولان: الصلاة الوسطى: صلاة
الصبح، قال مالك: وذلك رأيٌ.
فللمخالف أن يجيب عنه بأن يقول: البلاغ في معنى المرسل الذي لا يثبت به حجة عندي.
وأيضا: فقد روينا بالإسناد المتصل إلى علي، وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: الصلاة الوسطى: صلاة العصر، فيقدم على هذا (3) البلاغ.
وأيضا: فقد روينا في بعض طرق حديث (4) علي رضي الله عنه المتقدم: أنه كان يراها الصبح، ثم رجع عنه، والمرجوع عنه لا يكون مذهبا للراجع.
فإن قلت: فقد روى النسائي في سننه من حديث جابر بن زيد،
(1) في (خ): والشحط والنوى.
(2)
وانظر في هذا البحث: الفصول المفيدة في الواو المزيدة للعلائي (ص: 142).
(3)
هذا: ليس في (ق).
(4)
حديث: ليس في (ق).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أَدْلَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عَرَّسَ، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، أو بعضها، فلم نصل حتى ارتفعت الشمس، فصلَّى، وهي صلاة (1) الوسطى (2). وذلك ظاهر في صلاة الصبح.
قلت: يجوز أن يكون قوله: وهي صلاة الوسطى من كلام الراوي، بل هو الظاهر، لا من كلام ابن عباس، سلَّمنا أنه من كلامه، لكن تقدم ما يعارضه من قوله وحديثه، وقد نقل عنه ابن عطية: أنه قرأ: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، صلاة العصر) على البدل.
قال: وروى (3) هذا القول سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وتواتر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا» ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كنا نرى أنها الصبح، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر» ، فعرفنا أنها العصر (4).
هذا كله على الرواية في حديث عائشة رضي الله عنها: وصلاة العصر، وإلا، فقد قال ابن عطية في تفسيره: وفي مصحف عائشة
(1) في (ق): "الصلاة.
(2)
رواه النسائي (625)، كتاب: المواقيت، باب: كيف يقضي الفائت من الصلاة، وإسناده ضعيف؛ انظر: الكامل في الضعفاء لابن عدي (2/ 401).
(3)
في (ق): "وقد روى.
(4)
انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 323).
-رضي الله عنها: والصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر.
قال: وهو قولها المرويُّ عنها.
قال: ومن روى: وصلاة العصر، فيتأول بأنه عطف أحدى (1) الصفتين على الأخرى، وهما لشيء (2) واحد؛ كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل (3).
وإذا ثبت هذا، ارتفع التعارض بين الحديثين من كل وجه، ولم يحتج إلى استدلال على كونها صلاة العصر، والله أعلم.
وأما بقية الأقوال، فتوجيهها مذكور في كشف المغطى المتقدم ذكره، وخشية الإطالة مانعة من ذكره، وبالله التوفيق.
السادس: قوله: «فصلاها بين المغرب والعشاء» ؛ أي: بين وقت المغرب والعشاء، ويحتمل أن يكون المراد: صلاها بين صلاة المغرب والعشاء، فيؤخذ من الأول الترتيب، ومن الثاني: عدمه، وهذان الاحتمالان متساويان أو متقاربان؛ إذ اللفظ بظاهره (4) يعطي تقديم المغرب على العصر، إلا أنه يترجح الأول، أو يتعين بالحديث الآتي في آخر الباب؛ حيث قال فيه جابر: «فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها
(1) في (ق): "أحد.
(2)
في (ق): "شيء.
(3)
المرجع السابق، (1/ 322 - 323).
(4)
في (ق): "الرواية.
المغرب»، فهذا صريح في تقديمها على صلاة المغرب (1)، لكن هل ذلك على طريق الوجوب، أو الندب؟
فيه نظر، وينبغي أن يتخرج على مسألة أصولية، وهي: أن أفعاله عليه الصلاة والسلام التي ليست بيانا لمجمَل، هل هي على الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، أو الوقف؟ وقد تقدم مثل هذا.
وقد (2) تقدم أن مذهب مالك رحمه الله: أنها على الوجوب، فالترتيب عنده يجب في خمس صلوات فما دونهن، أو أربع.
والشافعي يقول: هي على الندب، فالترتيب (3) عنده مستحب، قلَّت الفوائت أو كثرت، لكن بشرط (4) أن لا يخرج وقت الحاضرة لصلاة فائتة، بخلاف ما نقول؛ فإن مذهبنا البداية بتقديم الفائتة، وإن خرج وقت الحاضرة على ما تقدم من العدد المذكور.
ولتعلم: أن العلماء اختلفوا في ترتيب الفوائت على ثلاثة مذاهب:
فمذهبنا (5): الوجوب -على ما تقدم-، وبه قال أبو حنيفة.
ومذهب الشافعي: الاستحباب، وبه قال طاووس، والحسن البصري، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور، وداود.
(1) انظر: شرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 142).
(2)
قد ليست في (ق).
(3)
في (ق): "والترتيب.
(4)
في (ق): "يشترط.
(5)
في (ق): "فمشهور مذهبنا.
والثالث: قول زفر، وأحمد، وهو أن الترتيب واجب، قلّت الفوائت أو كثرت.
قال أحمد: ولو نسي الفوائت، صحت الصلوات التي يصلى بعدها.
وقال أحمد، وإسحاق: ولو ذكر فائتة وهو في حاضرة، أتم التي هو فيها، ثم قضى الفائتة، ثم تجب إعادة الحاضرة (1).
السابع: كان هذا التأخير قبل نزول صلاة الخوف، وسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى.
وهل كان هذا التأخير عمدا، أو نسيانا؟
قيل: إنه أخرها نسيانا؛ لاشتغاله عليه الصلاة والسلام بأمر العدو، والله أعلِمَ (2).
واختلفت الروايات في عدد الصلوات التي أخرها عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث:
ففي الكتابين: أنها العصر، وظاهره أنه لم يفته غيرها.
وفي الموطأ: أنها الظهر والعصر (3).
وفي غيرهما: أنه أخر أربع صلوات: الظهر، والعصر (4)، والمغرب،
(1) انظر: المجموع في شرح المهذب للنووي (3/ 76).
(2)
انظر: شرح مسلم للنووي (5/ 130).
(3)
رواه الإمام مالك في الموطأ (1/ 184)، عن سعيد بن المسيب مرسلا.
(4)
والعصر ليست في (ق).
والعشاء، حتى ذهب هَوِيُّ من الليل (1)، وقد يمكن الجمع بينهما، بأن يقال: إن وقعة الخندق كانت أياما، فيكون قد وقع هذا في يوم، وهذا في يوم آخر، والله تعالى أعلم.
الثامن: لا يتوهم من قوله في الحديث الآخر: «حتى اصفرت الشمس» مخالفته (2) للحديث الأول؛ من صلاتها بين المغرب والعشاء؛ لأن الحبس انتهى إلى هذا الوقت، لكن لم تقع الصلاة إلا بعد المغرب؛ كما في الحديث الأول، إما لاشتغاله عليه الصلاة والسلام بأسباب الصلاة، أو غيرها؛ مما يصلح أن يكون عذرا في التأخير (3).
التاسع: فيه دليل على جواز الدعاء على الكفارة بمثل هذا، وإنما تردد ابن مسعود رضي الله عنه بين «ملأ» ، و «حشا» ؛ لاختلاف معناهما، فإن «حشا» يقتضي التراكم، وكثرة أجزاء المحشو، بخلاف «ملأ» ، فلا يكون في ذلك متمسك لمن منع رواية الحديث بالمعنى؛ إذ من شرط الرواية بالمعنى أن لا ينقص معنى أحد اللفظين عن الآخر شيئًا، مع الاتفاق على أن رواية اللفظ أولى، فلعل ابن مسعود رضي الله عنه تحرَّى الأَوْلى، والله أعلم (4).
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 67)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
في (ق): "مخالفة.
(3)
انظر: شرح عمدة الأحكام لابن دقيق (1/ 143).
(4)
المرجع السابق، الموضع نفسه.