الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب أدب القاضي
ــ
[البناية]
[كتاب أدب القاضي]
[شروط تولى القضاء]
م: (كتاب أدب القاضي)
ش: أي هذا كتاب في بيان أدب القاضي. والأدب الخصال الحميدة، سيمت به لأنها تدعو إلى الخيرات والحسنات، من الأدب بسكون الدال، وهو الدعاء.
قال طرفة الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
…
لا ترى الآدب فينا ينتقر
والأدب فاعل من أدب يأدب أدبا، إذا دعا، وسمي الأدب أدبا؛ لأنه يدعو الناس إلى المحامد. وعن أبي يزيد: الأدب يقع على رياضة محمودة، فيخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.
والمراد من أدب القاضي هو الخصال المدعو إليها، والقضاء يستعمل في أشياء، ويراد به في الشرع الإلزام، وقيل: القضاء الحكم.
وقال ابن أبي قتيبة: القضاء يجيء لمعان مختلفة كلها تعود إلى واحد أصله الحتم والفراغ عن الأمر، وبه يجري ألفاظ القرآن.
وفي الشرع يراد به الإلزام، وفصل الخصومات وقطع المنازعات، وسمي حكما لما فيه من منع الظالم عن المظلوم، وأصله قضاي؛ لأنه من قضيت، إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف همزت، كرداء أصله رداي. ولما كان وضع القضاء لفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام، وأكثر الخصومات يقع في البياعات والديون، ذكر بعدها كتاب القضاء لمساس الحاجة إلى القضاء.
وفي الزاد القضاء فريضة محكمة وشرعة متبعة، وعبادة شريفة لأجل ذلك أثبت الله تعالى لآدم عليه السلام الخلافة بقوله:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30](البقرة: الآية 30) ولداود عليه السلام بقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26](ص: الآية 26) ، وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء عليهم السلام، ثم القضاء مشروع بالكتاب كما ذكرنا، وبالسنة لما روي أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال:«إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، فله أجر، وإن أصاب فله أجران» ،
قال: ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل الاجتهاد
ــ
[البناية]
وحديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر وبالإجماع، وهو ظاهر وبالمعقول وهو أن في القضاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع الظلم عن المظلوم، ودفع التهارج، وقطع المنازعات، وفصل الخصومات، والكل حسن عقلا وهو فرض كفاية بالإجماع، وإن لم يصلح للقضاء إلا واحد، تعين عليه ووجب عليه بالإجماع.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى) ش: بفتح اللام اسم مفعول من التولية، وإنما قال: المولى ولم يقل: المتولي ليكون فيه دلالة على تولية غيره إياه بدون طلبه م: (شرائط الشهادة) ش: وهي الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعدالة؛ لأن مبنى القضاء على حكم الشهادة م:(ويكون) ش: بالنصب عطفا على قوله حتى يجتمع م: (من أهل الاجتهاد) ش: الصحيح عندنا أن هذا شرط الأولوية، لا شرط الجواز، وقيل شرط الجواز وإليه مال صاحب شرح الأقطع.
وفي " وجيز الشافعية "، لا بد للقضاء من صفات، وهو أن يكون ذكرا حرا، مجتهدا، بصيرا عدلا، فلا يجوز قضاء المرأة، والأعمى، والصبي، والفاسق، والجاهل، والمقلد انتهى.
وقد ذكر محمد رحمه الله في الأصل أن المقلد لا يجوز أن يكون قاضيا. وذكر الخصاف: ما يدل على جوازه، لأنه قال: القاضي يقضي باجتهاد نفسه إذا كان له رأي، فإن لم يكن له رأي، وسأل فقيها، أخذ بقوله.
والدليل على أن الاجتهاد ليس بشرط الجواز ما أخرجه أبو داود عن شريك رحمه الله عن سماك عن حنش «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: فما زلت قاضيا، وما شككت في قضاء بعد» ، ورواه
أما الأول، فلأن حكم القضاء يستقى من حكم الشهادة؛ لأن كل واحد منهما من باب الولاية،
ــ
[البناية]
الحاكم رحمه الله أيضا في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلي لم يكن حينئذ من أهل الاجتهاد، وقال الأستروشني في "فصوله ": قال بعضهم إذا كان صوابه أكثر من خطأه حل له الاجتهاد، وقاله البستي في "أصوله ". قال بعض أصحابنا: إذا كان عالما في مسألة تعرف حقيقتها، ولا يخفى عليه دقيقتها يكون من أهل الاجتهاد في تلك المسألة، وأما المجتهد الذي ذكره أهل الأصول، فهو أن يكون عالما بالنصوص من الكتاب والسنة مما يتعلق به الأحكام الشرعية، ولا يشترط أن يكون عالما بجميع ما في الكتاب والسنة، وهذا عزيز، والرخصة في ذلك أن يكون بحال يمكنه طلب الحادثة الواقعة من النصوص التي تتعلق بها الأحكام، ويشترط أيضا أن يكون عالما بوجوه العمل بالكتاب والسنة والإجماع على ما عرف في أصول الفقه، وإذا بلغ الرجل هذا الحد يصير مجتهدا، ويجب عليه العمل باجتهاده، ويحرم عليه تقليد غيره، كذا في الميزان.
وقال صدر الإسلام البزدوي في "أصوله "، وأهل الاجتهاد من يكون عالما بالكتاب ناسخه ومنسوخه، وعالما بالسنن ناسخها ومنسوخها، وعالما بمعاني الكتاب والسنن التي هي أقيسة. وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في كتاب الحدود، وبعضهم قالوا: يجب أيضا أن يكون عالما بعرف بلده وكلامهم ولغتهم من الصريح والكناية، والصحيح أن أهل الاجتهاد في مسائل الفقه، من يكون عالما بدلائل الفقه، وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس، إلى هنا لفظ صدر الإسلام.
وأما المفتي فقد قال صدر الإسلام البزدوي في أصوله: أجمع الفقهاء والعلماء، أن المفتي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، فإنه لا يقدر أن يفتي الناس إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، فإنه يحتاج إلى الاجتهاد لا محالة، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، لا يحل له أن يفتي إلا بطريق الحكاية، فيحكي ما يحفظ من أقوال الفقهاء، ولا يحل له أن يفتي فيما لا يحفظ فيه قولا من أقوال المتقدمين، إلى هنا لفظ صدر الإسلام رحمه الله.
م: (أما الأول) ش: يعني اشتراط شرائط الشهادة وقد ذكرناها م: (فلأن حكم القضاء يستقى) ش: أي يستفاد، وهكذا وقع في نسخة شيخي بلفظ يستفاد في الكتاب. وقال تاج الشريعة رحمه الله يستقى من حكم الشهادة، أي يؤخذ ويستنبط ويستخرج ويستفاد بطريق ترشيح الاستعارة، لمشابهة العلم بالماء، إذ به حياة الأرواح، كما أن بالماء حياة الأشياء م:(من حكم الشهادة لأن كل واحد منهما) ش: لأنه مبنى القضاء على الشهادة كما مر م: (من باب الولاية) ش: إذ كل واحد منهما تنفيذ القول على الغير، ولأن كل واحد منهما إلزام، فالشهادة ملزمة على القاضي والقضاء ملزم على الخصم.
فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء، وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء. والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشاهدة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا ولو كان القاضي عدلا، ففسق بأخذ الرشوة.
ــ
[البناية]
م: (فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء) ش: هذا نتيجة ما قبله من الكلام، وكذلك قوله م:(وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء) ش: بل اشتراطها في القضاء أولى؛ لأن القضاء ولاية عامة م: (والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح) ش: أي تقليده م: (إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا) ش: وقال الشافعي رحمه الله ومالك وأحمد - رحمهما الله -: لا يصح تقليده، وبه قال بعض مشايخنا رحمهم الله قلت: الصواب معهم، ولا سيما قضاة هذا الزمان. وقال أصبغ المالكي: يصح، ولكن يجب عزله.
وفي " وسيط الغزالي ": اجتماع هذه الشرائط من الاجتهاد والعدالة وغيرهما مستعذر في عصرنا بخلو العصر عن المجتهد والولي، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا فاسقا.
وفي " خلاصة الفتاوى ": واختلفت الروايات في تقليد الفاسق للقضاء، والأصح أنه يصح التقليد، ولا ينعزل بالفسق، ثم قال، قال في " المحيط ": يستحق العزل عند عامة المشايخ رحمهم الله إلا إذا شرط في التقليد أنه متى جاء ينعزل. وعند الشافعي رحمه الله ينعزل، والإمام يصير إماما مع الفسق، ولا ينعزل بالفسق بلا خلاف، إلى هنا لفظ الخلاصة.
وفي " نوادر هشام "، قال محمد رحمه الله: لو فسق القاضي ثم تاب، فهو على قضائه، وحكي عن الكرخي: أنه ينعزل بفسقه، وعن علي المرازي صاحب أبي يوسف رحمه الله إنه ينعزل القاضي بفسقه، ولا ينعزل الخليفة بفسقه إلى هنا لفظ كتاب " الأجناس " وقال فيه أيضا:
وفي " أدب القاضي " للحسن بن زياد: وفي قاضي خان مكث وهو تقي، ثم فسق بعد ذلك وارتشى، وقد كان قضى بقضايا، قيل أن يفسق، وبقضايا بعد ما فسق أبطل كل قضية قضى بها، بعد ما فسق، وأنفذت القضايا التي قضى بها قبل أن يفسق.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو أن قاضيا قضى بين الناس زمانا، وأنفذ قضايا كثيرة، ثم علم أنه فاسق مرتش، لم يزل منذ ولي على ذلك، ينبغي للقاضي الذي يختصمون إليه أن تبطل كل قضية قضى بها ذلك القاضي إلى هنا لفظ الأجناس.
م: (ولو كان القاضي عدلا، ففسق بأخذ الرشوة) ش: الرشوة بكسر الراء وضم الراء لغة فيه
أو غيره لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب وعليه مشايخنا رحمهم الله وقال الشافعي: الفاسق لا يجوز قضاؤه، كما لا تقبل شهادته عنده. وعن علمائنا الثلاثة رحمهم الله في "النوادر" أنه لا يجوز قضاؤه، وقال بعض المشايخ رحمهم الله: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها، وهل يصلح الفاسق مفتيا؟ قيل لا، لأنه من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات، وقيل يصلح؛ لأنه يجتهد الفاسق حذرا عن النسبة إلى الخطأ.
ــ
[البناية]
مأخوذة من الرشا بالمد، فإن نازح البئر لا يتصل إليه إلا به، فلذلك الإنسان لا يتوصل إلى مقصوده الحرام إلا بها والرشوة على أربعة أوجه:
منها ما هو حرام للآخذ والمعطي، وهو الرشوة في تقليد القضاء، فإنه لا يصير قاضيا بالرشوة بالإجماع سواء كان قضاؤه بحق أم بغير حق، ومنها ما يأخذه القاضي على القضاء، وهو حرام من الجانبين أيضا، ولا ينفذ قضاؤه بحق أو بغير حق، ومنها ما يدفعها لخوف على نفسه أو ماله فهذا حرام على الآخذ لا الدافع، ومنها ما لو دفعها ليستوي أمره عند السلطان حل الدفع، ولا يحل الأخذ، فلو أراد الآخذ أن يحل، يستأجر الدافع الآخذ يوما إلى الليل بما يريد أن يدفع إليه فإنه يجوز هذه الإجارة، ثم المستأجر إن شاء استعمله في هذا العمل، وإن شاء استعمله في غيره. كذا في " فتاوى قاضي خان " رحمه الله و " أدب القاضي " للصدر الشهيد رحمه الله م:(أو غيره) ش: أي أو في غير أخذ الرشوة كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك من المعاصي م: (لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب، وعليه مشايخنا رحمهم الله) ش: أي علماء بخارى وسمرقند رحمهم الله.
م: (وقال الشافعي: الفاسق لا يجوز قضاؤه كما لا تقبل شهادته عنده) ش: أي: عند الشافعي رحمه الله م: (وعن علمائنا الثلاثة رحمهم الله) ش: وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله م: (في " النوادر ": أنه لا يجوز قضاؤه) ش: أي قضاء الفاسق، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة رحمهم الله.
م: (وقال بعض المشايخ رحمهم الله: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها) ش: أي دون العدالة م: (وهل يصلح الفاسق مفتيا قيل: لا) ش: أي لا يصلح م: (لأنه) ش: أي لأن الإفتاء م: (من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات) ش: لأن مبناه على الأمانة والاحتراز عن الجناية، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م:(وقيل يصلح لأنه) ش: أي لأن المفتي م: (يجتهد الفاسق) ش: كل الجهد في إصابة الحق م: (حذرا عن النسبة إلى الخطأ) ش: وقال أبو العباس الناطفي رحمه الله في آخر
وأما الثاني، فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية، فأما تقليد الجاهل، فصحيح عندنا، خلافا للشافعي رحمه الله، وهو يقول: إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه، ولا قدرة دون العلم، ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقيه، وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .
ــ
[البناية]
أدب القاضي من كتاب " الأجناس "، للفقيه إذا كان فاسقا، هل يجوز أن يستفتى منه فيه كلام بين المشايخ رحمهم الله.
ذكر محمد بن شجاع رحمه الله في "نوادره " سمعت بشر بن غياث رحمه الله يقول: أرى الحجر على ثلاثة، قاض فاسق، وطبيب جاهل، ومكار مفلس. وقال محمد بن شجاع رحمه الله من قول نفسه: لا بأس بأن يستفتى من الفقيه الفاسق؛ لأنه يكره أن يخطئه الفقهاء، فيجيب بما هو الصواب.
م: (وأما الثاني) ش: أي الشرط الثاني في الولي، وهو شرط الاجتهاد، وقد مر الكلام فيه، ولكن نتكلم في حل المتن م:(فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية) ش: والمجتهد أحب من غيره م: (فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا، خلافا للشافعي رحمه الله) ش: وبقوله قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (وهو) ش: أي الشافعي رحمه الله م: (يقول: إن الأمر بالقضاء يستعدي القدرة عليه) ش: لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا أمر بلا قدرة، ولا قدرة بلا علم، وهو معنى قوله م:(ولا قدرة دون العلم) ش: لأن الجاهل يخبط خبط العشو، ولا يميز بين الحق والباطل م:(ولنا أنه) ش: أي أن الجاهل م: (يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه) ش: وفي بعض النسخ إلى المستحق.
فإن قلت: روى أبو داود عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القضاة ثلاثة، اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به، وجار في الحكم، فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق، فقضى بين الناس على جهل، فهو في النار» . وقيل له: الحديث محمول على الجاهل الذي يعمل بجهله ولا يرجع إلى الغير.
م: (وينبغي للمقلد) ش: بكسر اللام م: (أن يختار من هو الأقدر) ش: على القضاء م: (والأولى) ش: لعلمه ودينه وأمانته، م:(لقوله عليه الصلاة والسلام) ش: أي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قلد إنسانا عملا، وفي رعيته من هو أولى منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» روى الحاكم -
وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه، وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة،
ــ
[البناية]
رحمه الله في "مستدركه " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استعمل رجلا على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» . وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الطبراني رحمه الله في "معجمه " عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمور المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .
وروى أبو يعلى الموصلي رضي الله عنه في "مسنده "، عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس وعلم أن في العشرة من هو أفطن منه، فقد غش الله ورسوله وجماعة المسلمين» . فانظر إلى ملوك زماننا هذا، كيف يولون قضاة ونوابا، مع علمهم أن في رعيتهم من هو أفضل منهم وأعلم وأدين، وغالب توليتهم بالرشاء والبواطيل.
وقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي.» وروى الخصاف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش ملعون، والراشي المعطي، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما ليسوي أمره» .
م: (وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه) ش: أي في أصول الفقه لفخر الإسلام رحمه الله وغيره في باب معرفة المجتهدين، وقد ذكرنا فيما مضى في هذا الباب مما فيه الكفاية م:(وحاصله) ش: أي حاصل ما قيل في حد الاجتهاد م: (أن يكون) ش: أي الذي يدعي الاجتهاد م: (صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب) ش: أي أو يكون صاحب م: (فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل: أن يكون مع ذلك صاحب قريحة) ش: قال صاحب "الجمهرة ": القريحة خالص الطبيعة، ومنه اشتقاق القراح، وهو الخالص الذي لم يمزج بغيره من السبخ، وغيره في "تهذيب الديوان ": قريحة البئر أول
يعرف بها عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبتني عليها.
قال: ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أنه يؤدي فرضه، لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه وكفى بهم قدوة ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف. قال: ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه
ــ
[البناية]
مائها، والقريحة الطبيعة، ومنه يقال لفلان قريحة جيدة براه استنباط العلم، وهي على وزن فعيلة بمعنى مفعولة اسم للبئر من قرحتها، إذا حفرتها ثم سموا الماء بذلك لملابسته بينهما، ثم قالوا فلان حسن القريحة، إذا ابتدع شعرا أو خطبة أجاد فيهما، فاستعاروها للطبع، وهو من مستعار المجاز؛ لأن أصل القرح الجرح والشق ومنه القارح، وهو الفرس الذي قرح نابه أي شق.
م: (يعرف بها) ش: أي بالقريحة م: (عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبتني عليها) ش: أي على العادات، لأن العرف قد يغلب على القياس، كما في الاستصناع جوزوا بخلاف القياس.
م: (قال) ش: أي القدوري رحمه الله: م: (ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أنه يؤدي فرضه) ش: أي فرض القضاء وهو الحق، لأن القضاء بالحق فرض أمر به الأنبياء عليهم السلام م:(لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه) ش: أي القضاء، وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه رحمهم الله أن عليا رضي الله عنه "تقلد القضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ".
روى البيهقي أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه، استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وروى ابن سعد في "الطبقات " عن نافع لما استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه زيد بن ثابت رضي الله عنه على القضاء فرض له رزقا م:(وكفى بهم قدوة) ش: أي كفى بالصحابة أسوة.
قال الجوهري رحمه الله: القدوة الأسوة، يقال فلان قدوة يقتدى به، وقد يضم فيقال لي بك قدوة وقدوه م:(ولأنه) ش: أي ولأن القضاء م: (فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف) ش: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض.
فإن قيل: قوله فرض كفاية يوجب أن الدخول فيه مستحب كما في صلاة الجنازة وغيرهما قلنا: نعم، لكن فيه خطر عظيم، وأمر مخوف، لا يسلم في بحره كل سائح، فبالنظر إلى كونه فرض كفاية وبالنظر إلى كونه متضمنا أمرا مخوفا يكره، فقلنا لعدم البأس.
م: (قال:) ش: أي القدوري رحمه الله: م: (ويكره الدخول فيه) ش: أي في القضاء م: (لمن يخاف العجز عنه) ش: أي عن القضاء وكره بعض العلماء رحمهم الله أو بعض السلف -
ولا يأمن على نفسه الحيف فيه، كيلا يصير شرطا لمباشرته القبيح. وكره بعضهم الدخول فيه مختارا، لقوله عليه الصلاة والسلام:«من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين» .
ــ
[البناية]
رحمهم الله الدخول فيه سواء، وثقوا بأنفسهم أو خافوا عليها العجز عنه، وفسروا الكراهة هنا بعدم الجواز.
فقال الصدر الشهيد رحمه الله في " أدب القاضي ": ومنهم من قال: لا يجوز الدخول فيه إلا مكرها.
ألا ترى أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دعي إلى القضاء ثلاث مرات فأبى حتى ضرب في كل مرة ثلاثين سوطا، فلما كان في المرة الثالثة، قال: حتى أستشر أصحابي، فاستشار أبا يوسف رحمه الله فقال أبو يوسف رحمه الله: لو تقلدت لنفعت الناس، فنظر إليه أبو حنيفة رحمه الله نظر المغضب وقال: أرأيت لو أمرت أن أعبر البحر سباحة أكنت أقدر عليه، وكأني بك قاضيا، ويروى أنه قال: أراك أن تبتلى بالقضاء، وكذا دعي محمد رحمه الله إلى القضاء فأبى حتى قيد وحبس فاضطر ثم تقلد.
م: (ولا يأمن على نفسه الحيف فيه؛ كيلا يصير شرطا) ش: أي كيلا يصير الدخول في القضاء وسيلة م: (لمباشرته القبيح) ش: وهو الحيف في القضاء، وإنما عين بلفظ الشرط لأنه أكثر ما يقع من الحيف إنما هو بالميل إلى حطام الدنيا بأخذ الرشاء، وفي الغالب يكون ذلك مشروطا بمقدار معين مثل أن يقول: لي على فلان أو له علي مطالبته بكذا، فإن قضيت لي فلك كذا.
م: (وكره بعضهم الدخول فيه) ش: أي في القضاء حال كونه م: (مختارا لقوله عليه الصلاة والسلام) ش: أي لقول النبي صلى الله عليه وسلم م: «من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين» ش: هذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة رحمهم الله عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين» :. ورواه الحاكم رحمه الله في "مستدركه " وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. رواه ابن عدي رحمه الله في "الكامل " عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استقضى فقد ذبح بغير سكين» وروي: "ذبح بسكين" وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في " أدب القاضي ": وجه التشبيه أن السكين تؤثر
والصحيح أن الدخول فيه رخصة طمعا في إقامة العدل
ــ
[البناية]
في الظاهر والباطن جميعا، والذبح بغير سكين، ذبح بطريق الخنق والفم ونحو ذلك، فإنه يؤثر في الباطن، والقضاء لا يؤثر في الظاهر، فإنه في ظاهره جاه وفي باطنه هلاك.
وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: لا ينبغي لأحد أن يزدري هذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي، فقد حكي أن قاضيا روى له هذا الحديث، فازدراه وقال: كيف يكون هذا، ثم دعا في مجلسه من يسوي شعره، فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه، إذ هو عطس فأصابه الموسي، وألقى رأسه بين يديه.
وقد جاء في التحذير عنه آثار، وقد اجتنبه أبو حنيفة رحمه الله فصبر على الضرب واجتنبه كثير من السلف رحمهم الله وقيد محمد رحمه الله نيفا وثلاثين يوما أو نيفا وأربعين يوما، حتى تقلده هذا كله ليس بموجود في بعض النسخ، وروايته موجودة في نسخة شيخي العلاء رحمه الله، فلذلك استدركه وكتبه على الحاشية، وشرحه مضى عن قريب.
والذي ضرب أبا حنيفة رحمه الله على تركه القضاء، هو أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، وكان الذي قلد القضاء لمحمد رحمه الله هو الرشيد ثم عزله [
…
] .
وقد جاء في التحذير، أي عن الدخول في القضاء، آثار أي أخبار كثيرة منها حديث أبي ذر رضي الله عنه، رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» ومنها حديث ابن أبي بريدة رحمه الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة»
…
" الحديث، ومنها حديث رواه ابن حبان رحمه الله في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره» .
م: (والصحيح أن الدخول فيه) ش: أي في القضاء م: (رخصة طمعا في إقامة العدل) ش: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدل ساعة خير من عبادة سنة".» وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من نور عن يمين