الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجملة الرابعة (في ذكر ملوك هذه المملكة)
قد تقدّم أن هذه المملكة قد اجتمع بها خمسة «1» أقاليم، وهي: إقليم مالّي، وإقليم صوصو، وإقليم غانة من الجانب الغربيّ عن مالّي، وإقليم كوكو، وإقليم تكرور في الجانب الشرقي عن مالّي، وأن كلّ إقليم من هذه الخمسة كان مملكة مستقلة، ثم اجتمع الكلّ في مملكة صاحب هذه المملكة، وأن مالّي هي أصل مملكته. قال في «مسالك الأبصار» : وهو وإن غلب عليه عند أهل مصر اسم سلطان التّكرور فإنه لو سمع هذا أنف منه، لأن التّكرور إنما هو إقليم من أقاليم مملكته، والأحبّ إليه أن يقال (صاحب مالّي) لأنه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر.
ونقل عن الشيخ سعيد الدّكّاليّ: أنه ليس بمملكته من يطلق عليه اسم ملك إلا صاحب غانة وهو كالنائب له وإن كان ملكا. وكأنه إنما بقي اسم الملك على صاحب غانة دون غيره لعدم انتزاعها منه والاستيلاء عليها استيلاء كلّيّا. فقد قال في «التعريف» : وأما غانة فإنه لا يملكها وكأنه مالكها، يتركها عن قدرة عليها: لأن بها وبما وراءها جنوبا منابت الذهب. وذكر ما تقدّم من أن بلاد منابت الذهب متى فشا فيها الإسلام والأذان، عدم فيها نبات الذهب، وصاحب مالّي يتركها لذلك لأنه مسلم، وله عليها إتاوة كبيرة مقرّرة تحمل إليه في كل سنة.
وقد ذكر صاحب «العبر» : أن هذه الممالك كانت بيد ملوك متفرّقة، وكان من أعظمها مملكة غانة. فلما أسلم الملثّمون من البربر، تسلّطوا عليهم بالغزو حتّى دان كثير منهم بالإسلام، وأعطى الجزية آخرون، وضعف بذلك ملك غانة واضمحلّ، فتغلّب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم، وملكوا غانة من أيدي أهلها. وكان ملوك مالّي قد دخلوا في الإسلام من زمن قديم.
قال: ويقال: إن أوّل من أسلم منهم ملك اسمه (برمندانّة) بباء موحدة وراء مهملة مفتوحتين وميم مكسورة ونون ساكنة ودال مهملة بعدها ألف ثم نون مشدّدة مفتوحة وهاء في الآخر فيما ضبطه بعض علمائهم. ثم حجّ بعد إسلامه، فاقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده.
ثم جاء منهم ملك اسمه (ماري جاظة) ومعنى (ماري) الأمير الذي يكون من نسل السلطان ومعنى (جاظة) الأسد، فقوي ملكه وغلب على صوصو، وانتزع ما كان بأيديهم من ملكهم القديم وملك غانة الذي يليه إلى البحر المحيط. ويقال: إنه ملك عليهم خمسا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه (منساولي) ومعنى (منسا) بلغتهم السلطان، ومعنى (ولي) عليّ، وكان من أعظم ملوكهم، وحجّ أيام الظاهر بيبرس صاحب مصر.
ثم ملك من بعده أخوه (والي) .
ثم ملك من بعده أخوه (خليفة) وكان أحمق، يغلب عليه الحمق فيرمي الناس بالسّهام فيقتلهم، فوثب به أهل مملكته فقتلوه.
وملك بعده سبط من أسباط «ماري جاظة» المقدّم ذكره، اسمه (أبو بكر) على قاعدة العجم في تمليك البنت وابن البنت.
ثم تغلّب على الملك مولى من مواليهم اسمه (ساكبورة) . ويقال (سيكره) فاتسع نطاق مملكته وغلب على البلاد المجاورة له، وفتح بلاد كوكو واستضافها إلى مملكته، واتّصل ملكه من البحر المحيط الغربيّ إلى بلاد التّكرور، فقوي سلطانه، وهابه أمم السّودان ورحل إليه التّجّار من بلاد الغرب وأفريقيّة. وحجّ أيام السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» «1» ورجع فقتل في أثر عوده.
وملك بعده (قو) ابن السلطان «ماري جاظة» .
ثم ملك من بعده (محمد بن قو) ثم انتقل الملك من ولد ماري جاظة إلى ولد أخيه أبي بكر.
فولي منهم (منسا موسى) بن أبي بكر. قال في «العبر» : وكان رجلا صالحا، وملكا عظيما، له أخبار في العدل تؤثر عنه، وعظمت المملكة في أيامه إلى الغاية، وافتتح الكثير من البلاد.
قال في «مسالك الأبصار» : حكى ابن أمير حاجب والي مصر عنه، أنه فتح بسيفه وحده أربعا وعشرين مدينة من مدن السّودان ذوات أعمال وقرى وضياع.
قال في «مسالك الأبصار» : قال ابن أمير حاجب: سألته عن سبب انتقال الملك إليه- فقال: إن الذي قبلي كان يظنّ أن البحر المحيط له غاية تدرك، فجهز مئين سفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها أن لا يرجعوا حتّى يبلغوا نهايته أو تنفد أزوادهم، فغابوا مدّة طويلة، ثم عاد منهم سفينة واحدة وحضر مقدّمها، فسأله عن أمرهم. فقال: سارت السفن زمانا طويلا حتّى عرض لها في البحر في وسط اللّجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم فرجعت بسفينتي، فلم يصدّقه: فجهّز ألفي سفينة ألفا للرجال وألفا للأزواد، واستخلفني وسافر بنفسه ليعلم حقيقة ذلك، فكان آخر العهد به وبمن معه. قال في «العبر» : وكان حجّه في سنة أربع وعشرين وسبعمائة في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» .
قال في «مسالك الأبصار» : قال لي المهمندار خرجت لملتقاه من جهة السلطان فأكرمني إكراما عظيما، وعاملني بأجمل الآداب، ولكنه كان لا يحدّثني إلا بترجمان مع إجادته اللسان العربيّ. قال: ولما قدم، قدّم للخزانة السلطانية حملا من التّبر؛ ولم يترك أميرا ولا ربّ وظيفة سلطانيّة إلا وبعث إليه بالذهب.
وكنت أحاوله في طلوع القلعة للاجتماع بالسلطان حسب الأوامر السلطانية فيأبى خشية تقبيل الأرض للسلطان ويقول: جئت للحجّ لا لغيره، ولم أزل به حتّى وافق على ذلك.
فلما صار إلى الحضرة السلطانية. قيل له: قبّل الأرض، فتوقف وأبى إباء ظاهرا. وقال: كيف يجوز هذا؟ فأسرّ إليه رجل كان إلى جانبه كلاما- فقال: أنا أسجد لله الذي خلقني وفطرني ثم سجد، وتقدّم إلى السلطان، فقام له بعض القيام وأجلسه إلى جانبه وتحدّثا طويلا، ثم قام السلطان موسى فبعث إليه السلطان بالخلع الكاملة له ولأصحابه، وخيلا مسرجة ملجمة. وكانت خلعته طرد وحش بقصب كثير، بسنجاب مقندس، مطرّز بزركش، على مفرج إسكندري، وكلّوتة زركش، وكلاليب ذهب، وشاش بحرير، ورقم خليفتيّ، ومنطقة ذهب مرصّعة، وسيف محلّى، ومنديل مذهب خزّ، وفرسين مسرجين ملجمين بمراكب بغل محلّاة وأعلام، وأجرى عليه الأنزال والإقامات الوافرة مدّة مقامه.
ولما آن أوان الحج بعث إليه بمبلع كبير من الدراهم، وهجن «1» جليلة كاملة الأكوار والعدّة لمركبه، وهجن أتباع لأصحابه وأزواد جمة، وركز له العليق في الطّرق، وأمر أمير الركب بإكرامه واحترامه.
ولما عاد، بعث إلى السلطان من هديّة الحجاز تبرّكا، فبعث إليه بالخلع الكاملة له ولأصحابه، والتّحف والألطاف، من البزّ السّكندريّ والأمتعة الفاخرة، وعاد إلى بلاده.
وذكر عن ابن أمير حاجب والي مصر أنه كان معه مائة حمل ذهبا أنفقها في سفرته تلك على من بطريقه إلى مصر من القبائل ثم بمصر، ثم من مصر إلى الحجاز توجّها وعودا حتّى احتاج إلى القرض، فاستدان على ذمّته من تجّار مصر بمالهم عليه فيه المكاسب الكثيرة، بحيث يحصل لأحدهم في كلّ ثلاثمائة دينار سبعمائة دينار ربحا، وبعث إليهم بذلك بعد توجّهه إلى بلاده. قال في «العبر» ويقال: إنه كان يحمل آلته اثنا عشر ألف وصيفة لا بسات أقبية الدّيباج.
قال في «مسالك الأبصار» : وذكر لي عنه ابن أمير حاجب: أنه حكى له أن من عادة أهل مملكته أنه إذا نشأ لأحد منهم بنت حسناء، قدّمها له أمة موطوءة، فيملكها بغير تزويج مثل ملك اليمن- فقلت له: إن هذا لا يحل لمسلم شرعا- فقال: ولا للملوك؟ - فقلت: ولا للملوك واسأل العلماء. فقال: والله ما كنت أعلم ذلك! وقد تركته من الآن. قال في «العبر» : ودام ملكه عليهم خمسا وعشرين سنة ومات.
فملك بعده ابنه (منسا مغا) ومعنى مغا عندهم محمد، يعنون السلطان محمدا، ومات لأربع سنين من ولايته.
وملك بعده أخوه (منسا سليمان) بن أبي بكر، وهو أخو منسا موسى المقدّم ذكره. قال في «مسالك الأبصار» : واجتمع له ما كان أخوه افتتحه من بلاد السّودان وأضافه إلى يد الإسلام، وبنى به المساجد والجوامع والمنارات، وأقام به الجمع والجماعات والأذان، وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وتفقّه في الدين. قال في «العبر» ودام ملكه أربعا وعشرين سنة، ثم مات.
وولي بعده ابنه (قنبتا بن سليمان) ومات لتسعة أشهر من ملكه.
وملك بعده (ماري جاظه) بن منسا مغا بن منسا موسى فأقام أربع عشرة سنة أساء فيها السيرة، وأفسد ملكهم، وأتلف ذخائرهم بسرفه وتبذيره، حتّى انتهى به الحال في السّرف أنه كان بخزائنهم حجر ذهب، زنته عشرون قنطارا منقولا من المعدن من غير سبك ولا علاج بالنار. وكانوا يرونه من أنفس ذخائرهم لندور وجود مثله في المعدن، فباعه على تجّار مصر المتردّدين إليه بأبخس ثمن، وصرف ذلك كله في الفسوق، وكان آخر أمره أن أصابته علّة النوم وهو مرض كثيرا ما يصيب أهل تلك البلاد لا سيّما الرؤساء منهم، يأخذ أحدهم النوم حتّى لا يكاد يفيق،