الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديثاً، وخصوصاً من دخل في الإسلام من أهل الآفاق، ولو أن السنة دونت ووزعت على الأمصار وتناولها الناس بالحفظ والدراسة لزاحمت القرآن، ولم يُؤمن أن تلتبس به على كثير منهم، ولم يكن في هذا الرأي تضييع للأحاديث فقد كان الناس لا يزالون بخير، ولا تزال ملكاتهم قوية وحوافظهم قادرة على حفظ السنن وأدائها أداءً أميناً، وقد تتابع الخلفاء على سنة عمر رضي الله عنه، فلم يعرف عنهم أنهم دونوا السنن أو أمروا الناس بذلك.
ثالثاً: الجهود المبذولة في تدوين السنة بعد عهد الخلفاء الراشدين:
وهكذا انقضى عصر الصحابة ولم يُدَوَّن من السنة إلا القليل، حتى جاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فأمر بجمع الحديث لدواع اقتضت ذلك، بعد حفظ الأمة لكتاب ربها، وأمنها عليه أن يشتبه بغيره من السنن.
وفي بيان ذلك نقول: إن القرن الأول الهجري كاد أن ينتهي ولم يصدر أحد من الخلفاء أمره بجمع الحديث وتدوينه، بل تركوه موكولاً إلى حفظ العلماء والرواة وضبطهم، وبعض الكتابات الفردية، وكان مرور مثل هذا الزمن الطويل كفيلاً بتركيز القرآن وتثبيته في نفوس الناس، فقد أصبح يتلوه القاصي والداني، ويعرفه الخاص والعام، ولا يختلف فيه أحد أو يشك في شيء من آياته، كما كان مرور هذا الزمن الطويل أيضاً كفيلاً بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة والتابعين في الحروب والفتوحات، وأن يتفرقوا في الأمصار، مما هيأ لأهل الأهواء والبدع - الذين ظهروا في هذه الفترة - أن يزيدوا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يُدْخلوا فيه ما ليس منه مما يؤيد بدعتهم ويلبي انحرافهم، كما أن انتشار الإسلام وتوسع الدولة الإسلامية جعل العرب يختلطون بغيرهم من الأعاجم في البلدان المختلفة، مما نتج عنه قلة الضبط في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ضعف ملكة الحفظ عند الناس.
وفي العام التاسع والتسعين للهجرة تولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خلافة المسلمين، فنظر إلى الأحوال والظروف التي تمر بها الأمة، فرأى أن عليه البدء بكتابة الحديث وتدوينه حفظا له من الضياع والتحريف، حيث أن المانع الذي كان يمنع تدوين الحديث قد زال، ومصلحة المسلمين باتت تستدعي جمع الحديث وتدوينه.
فكتب إلى عُمَّاله وولاته يأمرهم بذلك، حيث أرسل إلى أبي بكر ابن حزم - عامله وقاضيه على المدينة - قائلاً له:"انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم - يعني: اندراسه واختفائه - وذهاب العلماء"، وطلب منه أن يكتب ما عند عَمْرة بنت عبد الرحمن الأنصارية والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وكتب إلى علماء المسلمين في الأمصار المختلفة:"انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه" .. وكان ممن كتب إليهم الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أحد الأئمة الأعلام، وعالم أهل الحجاز والشام المتوفى سنة (124 هـ)، حيث استجاب لطلب عمر بن عبد العزيز فجمع حديث أهل المدينة وقدمه له، فبعث عمر إلى كل أرض دفتراً من دفاتره، وكانت هذه هي المحاولة الأولى لجمع الحديث وتدوينه بشمول واستقصاء، وكان تدوين الإمام الزهري للسنة عبارة عن: جمع ما سمعه من أحاديث الصحابة من غير تبويب على أبواب العلم.
فأول من أمر بتدوين السنة هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فى نهاية القرن الأول الهجرى، وقد تولى الخلافة سنة 99 هـ وتوفى سنة 101 هـ.
وقد روى الإمام البخارى رحمه الله فى صحيحه تعليقاً، قال: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَبِي
بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ
(1)
: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ العُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" وَلْتُفْشُوا العِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ العِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا "
(2)
.
الكتابة، والتدوين، والتصنيف فى اللغة:
أ- الكتابة: قال فى اللسان:" كتب الشئ كتباً، وكتاباً، وكتابة، وكتبه خطه" فكتابة الشاء خطه
(3)
.
ب- التدوين: قال فى اللسان: "والديوان مجتمع الصحف"
(4)
. وقال فى تاج العروس: "وقد دونه تدويناً جمعه. وعليه فالتدوين هو جمع الصحف المشتتة فى ديوان ليحفظها
(5)
.
ج- التصنيف: قال فى اللسان: والتصنيف: تمييز الأشياء بعضها من بعض، وصنف الشئ ميز بعضه من بعض. وتصنيف الشئ جعله أصنافاً. وعليه فالتصنيف تمييز الجزئيات، كأن يميز المصنف الصواب من الخطأ، أو الأهم من المهم"
(6)
.
وهذا تعريف موجز للكتابة والتدوين والتصنيف: يتضح منه الفرق بين الكتابة والتدوين.
ومن هذه التعاريف: يتضح لنا أن الكتابة غير التدوين، فالكتابة مطلق خط الشئ، دون مراعاة لجمع الصحف المكتوبة فى إطار يجمعها، أما التدوين فمرحلة تالية للكتابة ويكون بجمع الصحف المكتوبة فى ديوان يحفظها "
(7)
.
أما التصنيف؛ فهو أدق من التدوين، فهو ترتيب ما دون فى فصول محدودة، وأبواب مميزة
(8)
.
وعلى ذلك فالسنة دونت فى نهاية القرن الأول، لكنها كانت مكتوبة ولكنها لم تصل لدرجة التدوين وهو: جمع الصحف فى دفتر.
(9)
.
و أول من دون العلم هو ابن شهاب الزهرى"
(10)
فهو رحمه الله أول من دون أو صنف المجموعات المكتوبة من الأحاديث.
و يقول الحافظ ابن حجر: "وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهرى على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير"
(11)
وقال أيضاً: " اعلم، علمنى الله وإياك أن آثار النبى صلى الله عليه وسلم لم تكن فى عصر الصحابة، وكبار تابعيهم مدونة فى الجوامع ولا مرتبة
(12)
أ. هـ.
ومعلوم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالي - حينما أمر بتدوين السنة لم يبدأ ذلك من فراغ، ولكنه اعتمد على أصول مكتوبة كانت تملأ أرجاء العالم الإسلامي كله، من خلال روح علمية
(1)
هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى البخارى، من سادات التابعين، ثقة عابد، مات سنة 120 هـ.0 تقريب التهذيب (8017).
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم 1/ 234، والدارمى رقمى 487، 488.
(3)
لسان العرب 1/ 698، وانظر: القاموس المحيط 1/ 120، ومختار الصحاح ص 562.
(4)
لسان العرب 13/ 166.
(5)
تاج العروس 9/ 204.
(6)
لسان العرب 9/ 198.
(7)
السنة النبوية مكانتها الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص 97.
(8)
انظر: تصدير الدكتور يوسف العش فى تقييد العلم ص 8، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز أحمد ص 283، 284.
(9)
السنة النبوية 0 مكانتها 0 الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص 97.
(10)
ابن شهاب الزهرى: هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهرى، القرشى، أبو بكر، الفقيه الحافظ، متفق على جلالته واتقانه 0 مات سنة 125 هـ 0 له ترجمة فى: تقريب التهذيب (6315).
(11)
فتح البارى 1/ 251 رقم 113، وانظر 1/ 235 رقم 100، وانظر: جامع بيان العلم لابن عبدالبر 1/ 73، وتذكرة الحفاظ للذهبى 1/ 160، وشرح الزرقانى على الموطأ 1/ 14، والسنة النبوية 0 مكانتها. للدكتور عبد المهدى ص 94، 98.
(12)
هدى السارى ص 8.
نشطة، أشعلها الإسلام فى أتباعه، فأصبحوا يتقربون إلى الله تعالى بأن يزدادوا فى كل يوم علما، وخير العلوم-قطعاً- ما كان متعلقاً بالقران والسنة.
وبذلك ثبت أن تدوين السنة قام على أساس المكتوب فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، وبإذن منه صلى الله عليه وسلم، وأن السنة قد بدأت كتابتها منذ عصر النبى صلى الله عليه وسلم إلى زمن تدوينها تدويناً رسمياً أصبح حقيقة علمية مؤكدة ثبتت بالبراهين القطعية، وتضافرت على إثبات هذه الحقيقة الساطعة أقوال جملة من الباحثين الثقات الأثبات
(1)
.
كالدكتور محمد عجاج الخطيب فى كتابه "السنة قبل التدوين" والدكتور محمد مصطفى الأعظمى فى كتابة: "دراسات فى الحديث النبوى"، والدكتور امتياز أحمد فى كتابه:"دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث"، والدكتور رفعت فوزى عبدالمطلب فى كتابه: "توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى أسسه واتجاهاته) وغيرهم.
نماذج من أشهر ما كتب من السنة النبوية فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم وبعده إلى زمن التدوين الرسمى:
1 -
ما ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه: أنه لما فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب فى الناس، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ "
(2)
.
2 -
وأيضاً كتابه صلى الله عليه وسلم فى الصدقات والديات والفرائض والسنن، الذى أرسله إلى عمرو بن حزم
(3)
، حين بعثه إلى اليمن، أخرجه النسائى، وأبو عبيد القاسم في الأموال
(4)
.
3 -
وَكَتَبَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنس بن مالك رضي الله عنه فرائض الصدقة، الذى سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى البحرين"
(5)
.
4 -
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الصحابي الجليل عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ رضي الله عنه بأذربيجان كتاباً فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام"
(6)
.
ومع أن الفاروق عمر كان يوصف بأنه واحد من أشد المعارضين لكتابة الحديث، ومنع تدوينها، إلا أننا على العكس نراه أول متثبت لكتابة الأحاديث بهمِّه بتدوين السنة المطهرة.
فكان أول مقترح بتدوينها حفاظاً لها كما كان أول مقترح بتدوين القرآن الكريم تدويناً عاماً فى مكان واحد حفاظاً لكتاب الله عز وجل، زمن أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ففى همِّه بكتابة السنة، ليس مجرد الكتابة! فهى كانت مكتوبة. وإنما المراد بالكتابة تدوينها تدويناً عاماً فى مكان واحد.
وكان أبى بكر وعمر- رضى الله عنهما- من أنصار تدوين السنة!.
فعمر رضي الله عنه عندما همَّ بتدوين السنة استشار فى ذلك أهل الحل والعقد فلم يتردد واحد منهم فى
(1)
تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير للدكتور مروان شاهين ص 68 بتصرف 0
(2)
الحديث بطوله ونص الخطبة فى صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/ 248 رقم 112.
(3)
هو: عمرو بن حزم بن عبد عوف الأنصارى الخزرجى، ثم البخارى، كنيته أبو الضحاك، وأول مشاهده الخندق 0 وهو ابن خمس عشرة سنة، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل نجران سنة 10 هـ بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد، فأسلموا، وكتب له كتاباً فيه الفرائض، والسنن، والصدقات، والديات 0 مات بالمدينة سنة 51، وقيل: 53، وقيل: 54 هـ 0 له ترجمة فى: الإصابة: (5810)، واسد الغابة:(3905)، والاستيعاب:(1907).
(4)
النسائى فى سننه كتاب القسامة، رقم 4853 - 4859، والأموال ص 358 - 362، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة ص 368 وما بعدها 0 ذكر كثير من الكتابات والصحف التى كتبت فى عهده صلى الله عليه وسلم، وانظر:"مكاتيب الرسول" للأستاذ على الأحمدى جمع فيه مؤلفه كتب الرسول وصحفه ورسائله التى بكتب الحديث والسيرة 0
(5)
الحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الزكاة، باب العرض فى الزكاة 3/ 365 رقم 1448، وفى باب زكاة الغنم 3/ 371 رقم 1454 بتمامة، وفى غير هذين الموضعين 0 وانظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور محمد الأعظمى 1/ 93.
(6)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب اللباس، باب لبس الحرير للرجال، وقدر ما يجوز منه 10/ 295 رقم 5828.
الموافقة كما جاء فى الأثر: " فأشاروا عليه بأن يكتبها "
(1)
.
و يدل هذا الهمّ والموافقة على حجية السنة عند الصحابة رضي الله عنهم.
ويدل على أنهم من أنصار تدوين السنة المطهرة، وحفظتها!
وكتب عمر إلى عُمَّاله كتاباً فى كتابه إلى عتبة بن فرقد رضي الله عنه؟، وهو القائل "قيدوا العلم بالكتاب"
(2)
، وجمع عمر الوثائق الخاصة بالزكاة والخراج والمسائل المالية الأخرى
(3)
، و أدخل نظام الدواوين فى الأعمال الرسمية
(4)
!.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ السُّنَنَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتَبًا فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا "
(5)
.
" وكان الصواب ما رأى عمر، فالعصر عصر صحابة للنبى صلى الله عليه وسلم لا عصر تابعين، وهم أشبه ما يكون بحوارى عيسى عليه السلام، ولنا فى أهل الكتاب تجربة حين سجل أصحاب النبى عيسى عليه السلام، ما سمعوه وما رأوه، نسبت الأناجيل إليهم لا إلى عيسى، ولا إلى الله تعالي،
…
فكان الحذر والحيطة من عمر رضي الله عنه بالعدول عن التدوين، إذ لو فعل لم يأمن أن تتعدد كتب السنة بتعدد قائليها، وتتنوع بتنوع أسماء كاتبيها، فتكون أناجيل فى الأمة، ويهمل الكتاب الأصلى الذى هو درة التاج، وقلادة العقد.
لمن هذه البصيرة النافذة إن لم تكن لعمر بعد النبى صلى الله عليه وسلم؟!
ولمن هذا القول الفصل إن لم يكن للفاروق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ولمن هذا الحرص الشديد إن لم يكن لهذا الغيور على دينه؟!
فياليت قومى يعلمون
(6)
أ. هـ.
و أشهر ما كتب من السنة فى زمن النبوة وبعده إلى زمن التدوين الرسمى:
1 -
الصحيفة الصادقة التى كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم تصل هذه الصحيفة كما كتبها عبد الله بن عمرو بخطه فقد وصل إلينا محتواها، لأنها محفوظة فى مسند الإمام أحمد
(7)
، حتى ليصح أن نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزيدنا اطمئناناً إلى صحة هذه الوثيقة أنها كانت نتيجة طبيعة محتومة لفتوى النبى صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا! فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ:" اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ "
(8)
. وآية اشتغال ابن عمرو بكتابة هذه الصحيفة وسواها من الصحف قول أبى هريرة رضي الله عنه: " مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ "
(9)
.
(1)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 64، والخطيب في تقييد العلم ص 49.
(2)
أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/ 187، 188 رقمى 359، 360 وقال: صحيح من قول عمر، وقد أسند من وجه غير معتمد، ووافقه الذهبى وقال وصح مثله من قول أنس رضي الله عنه 0 وانظر: جامع بيان العلم 1/ 72، وتقييد العلم 87، 88.
(3)
سنن أبى داود كتاب الزكاة، باب فى زكاة السائمة 2/ 98 - 99 رقم 1570 والأموال للقاسم بن سلام ص 367 رقم 934.
(4)
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 203، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز أحمد ص 198.
(5)
أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى 407 رقم 731، وابن راشد في جامعه 11/ 257 رقم 20484، وسنده صحيح.
(6)
السنة فى مواجهة أعدائها ص 243، 244. الأستاذ الدكتور طه حبيشى.
(7)
انظر: مسند عبد الله بن عمرو فى مسند أحمد 2/ 158 - 226 0
(8)
أخرجه أبو داود فى سنته كتاب العلم باب فى كتاب العلم 3/ 318 رقم 3646.
(9)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/ 249 رقم 113.
2 -
والصحيفة الصحيحة التى كتبها همام بن منبه
(1)
، زوج ابنة أبى هريرة رضي الله عنه كتبها أمام أبى هريرة، ولهذه الصحيفة مكانة خاصة فى تدوين الحديث، لأنها وصلت إلينا كاملة سالمة كما رواها ودونها همَّام بن منبه عن أبى هريرة، فكانت جديرة باسم "الصحيفة الصحيحة"
(2)
على مثال " الصحيفة الصادقة " لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد سبقت الإشارة إليها.
ونحب أن ننبه أن مصطلح "صحيفة وكتاب وجزء ونسخة
…
إلخ لا يعنى بالضرورة "مجموعات صغيرة أو مذكرة عن الحديث" كما كان يعتقد أحياناً وهذا ما أكد صحته الدكتور امتياز أحمد فى كتابه "دلائل التوثيق المبكر للسنة"
(3)
.
وهذه الكتابات السابقة وغيرها الكثير
(4)
؛ تقطع بكتابة السنة المطهرة فى عصر النبوة والصحابة والتابعين
(5)
.
وتؤكد أن التوفيق بين النهى عن كتابة السنة والإذن بكتابتها، وهو أن النهى دائر مع الخوف من علة النهى التى سبق تفصيلها، والإذن دائر مع الأمن منها
(6)
.
وهذا يؤكده أيضاً أن كل من نُقل عنه (أى من الصحابة والتابعين) النهى عن كتابة السنة فقد نُقل عنه عكس ذلك أيضاً
(7)
، ما عدا شخصاً أو شخصين، وقد ثبتت كتابتهم أو الكتابة عنهم، وبذلك صرح الدكتور محمد مصطفى الأعظمى
(8)
، وأكده باستفاضة فى كتابه (دراسات فى الحديث النبوى) حيث عقد الفصل الأول من الباب الرابع لبيان كتابة الصحابة، ومن كتب عنهم فى حياتهم
(9)
، والفصل الثانى فى " كتابة كبار التابعين، ومن كتب عنهم فى حياتهم "
(10)
حتى زمن التدوين الرسمى فى عهد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، بل وبعد زمنه أيضاً
(11)
.
كل ذلك يؤكد الحقائق التى سبق ذكرها من الفرق بين الكتابة، والتدوين وأن عمر بن عبد العزيز، حينما أمر بالتدوين الرسمي للسنة لم يبدأ من فراغ ولكنه اعتمد على أصول الكتابات التى سبق ذكر بعضها وكانت تملأ أرجاء العالم الإسلامي.
ثم نشطت حركة التدوين بعد ذلك، وأخذت في التطور والازدهار، وتعاون الأئمة والعلماء في مختلف الأمصار، فكتب ابن جريج بمكة، وكتب مالك وابن إسحاق بالمدينة، وكتب سعيد بن أبي عَروبة والربيع بن صُبيح وحماد بن سلمة بالبصرة، وكتب سفيان الثوري بالكوفة، وكتب أبو عمرو الأوزاعي بالشام، وكتب عبد الله بن المبارك بخراسان، وكتب معمر باليمن، وغيرهم من الأئمة.
(1)
همام بن منبه هو: ابن كامل الصنعانى، أبو عتبة، أخو وهب 0 روى عن أبى هريرة، ومعاوية، وعنه ابن أخيه عقيل بن معقل، ومعمر، متفق على توثيقه 0 مات سنة 132 هـ على الصحيح 0 له ترجمة فى تقريب التهذيب:(7343)، والثقات للعجلى (1750)، والثقات لابن شاهين (1471).
(2)
وهذه الصحيفة أخرجها الإمام أحمد بنصها فى مسنده 2/ 312 - 319، وقد طبعت عدة مرات بتحقيق الدكتور محمد حميد الله 0 انظر: السنة النبوية 0 مكانتها 0 الدكتور عبد المهدى ص 119، وعلوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 32.
(3)
ص 148، 158، 161.
(4)
انظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 1/ 84 - 142، ودلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز ص 463 - 590.
(5)
وفى تلك الكتابات رد على الأستاذ محمد رشيد رضا، ومن تابعه كمحمود أبو رية، والسيد صالح أبو بكر (فى أن الصحابة لم يكتبوا، وعدم كتابتهم دليل على أنهم لم يريدوا أن تكون السنة ديناً عاماً دائماً كالقرآن 0 وسبق تفصيل الرد على ذلك ص 298 - 306.
(6)
ينظر: السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام للمؤلف 1/ 288 وما بعدها.
(7)
بل والندم على عدم الكتابة، كما روى عن عروة بن الزبير رضي الله عنه إذ يقول:"كتبت الحديث ثم محوته، فوددت أنى فديته بمالى وولدى وأنى لم امحه". أخرجه الخطيب فى تقييد العلم ص 60.
(8)
انظر: دراسات فى الحديث النبوى 1/ 76.
(9)
انظر: المصدر السابق 1/ 92 - 142.
(10)
انظر: دراسات فى الحديث النبوى 1/ 143 - 167.
(11)
انظر: دراسات فى الحديث النبوى 1/ 168 - 325. فأين كل هذا مما زعمه الدكتور موريس بوكاى من أنه ليس هناك أية مجموعة أحاديث قد ثبتت نصوصها فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم. انظر: دراسة الكتب المقدسة ص 152.
وكانت طريقتهم في التدوين هي جمع أحاديث كل باب من أبواب العلم على حدة، ثم ضم هذه الأبواب بعضها إلى بعض في مصنف واحد، مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين، ولذلك حملت المصنفات الأولى في هذا الزمن عناوين مثل (مصنف) و (موطأ) و (جامع).
ويعتبر هذا العصر هو عصر التصنيف وتدوين السنة على الأبواب، وبدايته من سنة ثلاث وأربعين ومائة، وكانت السنّة قبل ذلك يتلقاها العلماء حفظاً، أو في صحف غير مرتّبة.
يقول الذهبي رحمه الله: (في سنة ثلاث وأربعين- يعني ومائة- شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير. فصنَّف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنَّف ابن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي، ثم بعد يسير صنف هشيم، والليث، وابن لهيعة، ثم ابن المبارك، وأبو يوسف، وابن وهب، وكثُر تدوين العلم وتبويبه ودوِّنت كتب العربية، واللغة، والتاريخ، وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم، أو يَرْوُونَ العلم من صحف صحيحة غير مرتَّبة)
(1)
.
وأن أوَّل من صنّف على الأبواب: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت 150 هـ) بمكة، والإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) أو محمد بن إسحاق بن يسار (ت 151 هـ) بالمدينة والربيع بن صَبيح (ت 160 هـ) أو سعيد بن أبي عروبة (ت 156 هـ أو 157 هـ)، أو حماد بن سلمة (ت 167 هـ) بالبصرة، وسفيان الثوري (ت 161 هـ) بالكوفة، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت 157 هـ) بالشام، وهشيم بن بشير الواسطي (ت 183 هـ) بواسط، ومعمر بن راشد (ت 153 هـ) باليمن، وجرير بن عبد الحميد (ت 188 هـ) بالرَّيّ، وعبد الله بن المبارك المَرْوَزي (ت 181 هـ) بمَرْو وخراسان.
أما ابن جريج، فصنّف كتاب السنن، وكتاب الحج أو المناسك، وكتاب التفسير، وكتاب الجامع.
وأما الإمام مالك، فصنّف كتاب الموطّأ.
وأما محمد بن إسحاق، فصنّف كتاب المغازي.
وأما سعيد بن أبي عروبة، فله مصنّفات كثيرة، منها: تفسير القرآن، والسنن، والمناسك، والنكاح، والطلاق.
وأما الأوزاعي، فالّف كتباً عديدة، إلا أنها احترقت ولم يبق منها شيء سوى اقتباسات في بعض الكتب، فمن كتبه: كتاب السنن في الفقه، وكتاب المسائل في الفقه.
وأما هشيم بن بشير، فهو ممن كثرت عنايته بالآثار، وجمعه للأخبار، وحفظ، وصنَّف كتباً عديدة، منها: السنن في الفقه، والتفسير، والقراءات، والصلاة.
وأما معمر بن راشد، فصنّف كتاب المغازي، وكتاب التفسير، وكتاب الجامع.
وأما عبد الله بن المبارك، فصنّف كتباً عديدة، منها: المسند وكتاب الزهد، وكتاب الجهاد، وكتاب السنن في الفقه، وكتاب التفسير، وكتاب التاريخ، وكتاب البر والصلة.
وكان هؤلاء الأئمة في عصر واحد تقريباً، فلا ندري أيهم كان أسبق، وإن قال بعضهم: إن ابن جريج أول من صنف، إلا أن الأَوْلى أن يُقَيَّد كل منهم بمصره، فيقال: أول من صنف بالكوفة سفيان الثوري، وهكذا.
(1)
انظر: تاريخ الخلفاء (ص 416 - 417).
ولم يكن التصنيف في ذلك العصر مقصوراً على هؤلاء، بل هناك عدد كثير ممن صنَّف غيرهم، نذكر منهم:
1 -
إبراهيم بن طَهْمان (ت 163 هـ):كتب الكثير، ودوّن كتبه التي أثنى عليها ابن المبارك بقوله:(إبراهيم بن طهمان صحيح الكتب)
(1)
. ومن كتبه: التفسير، والسنن في الفقه، والعيدين، والمناقب
(2)
.
2 -
الحسين بن واقد المَرْوَزي (ت 159 هـ): له كتاب التفسير، وكتاب الوجوه في القرآن
(3)
.
3 -
زائدة بن قدامة الثقفي (ت 160 هـ): له كتب، منها: السنن، والقراءات، والتفسير، والزهد، والمناقب.
4 -
سفيان بن عيينة (198 هـ):له كتاب التفسير.
5 -
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي ذئب (ت 158 هـ): له كتاب السنن، ويحتوي على الفقه، مثل: الصلاة، والطهارة، والصيام، والزكاة، والمناسك، وغير ذلك.
وله كتاب الموطأ، وقد يكون هو نفس السنن، وقد بقي هذا الموطأ لعدة قرون.
وتقدم أن معظم هذه المصنفات كان يضم أحاديث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وما ورد عن الصحابة والتابعين، إلى أن رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصُنِّفَت المسانيد.
ثم جاء القرن الثالث فحدث طور آخر من أطوار تدوين السنة تجلى في إفراد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصنيف دون غيره من أقوال الصحابة والتابعين، فألفت المسانيد التي جمعت أحاديث كل صحابي على حدة، من غير مراعاة لوحدة الموضوع، كمسند الإمام أحمد، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند عثمان بن أبي شيبة وغيرها من المسانيد، ولم تقتصر هذه المسانيد على جمع الحديث الصحيح بل احتوت على الصحيح وغيره مما جعل الإفادة منها والوقوف على أحاديث مسألة معينة من الصعوبة بمكان إلا على أئمة هذا الشأن، خصوصاً وأنها لم ترتب على أبواب الفقه، والذي صنف منها على الابواب الفقهية مثل المصنف لعبد الرزاق وابن أبي شيبة أشتمل على المرفوع والموقوف والمقطوع وجمع الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، مما حدا بإمام المحدثين في عصره محمد بن إسماعيل البخاري أن ينحو بالتأليف منحىً جديدًا اقتصر فيه على الحديث الصحيح فحسب - دون ما عداه - فألف كتابه الجامع الصحيح المشهور بـ (صحيح البخاري)، وجرى على منواله معاصره وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري فألف صحيحه المشهور بـ (صحيح مسلم)، وقد رتبا صحيحيهما على أبواب الفقه تسهيلاً على العلماء والفقهاء عند الرجوع إليهما لمعرفة حكم معين، فكان لهذين الإمامين الفضل بعد الله عز وجل في تمهيد الطريق أمام طالب الحديث ليصل إلى الحديث الصحيح بأيسر الطرق.
وقد تابعهما في التأليف على (أبواب الفقه)، أئمة كثيرون سواء ممن عاصرهم أو ممن تأخر عنهم، فألفت بعدهما السنن الأربعة المشهورة وهي:(سنن أبي داود) و (النسائي) و (الترمذي) و (ابن ماجة)، إلا أن هؤلاء الأئمة لم يلتزموا الصحة كما التزمها الإمامان البخاري ومسلم، فوُجد في هذه
(1)
انظر: الجرح والتعديل (2/ 108).
(2)
انظر: الفهرست للنديم (ص 284)، ودراسات في الحديث النبوي (ص 224).
وقد طبع جزء حديثي بعنوان: (مشيخة ابن طهمان) بتحقيق الدكتور محمد طاهر مالك الذي رجح في المقدمة (ص 6) أن هذا الكتاب هو كتاب السنن في الفقه لابن طهمان، وأن كلمة (سنن) تصحّفت إلى (مشيخة).
(3)
الفهرست للنديم (ص 284)، ودراسات في الحديث النبوي (ص 242).