الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ يَاقُوتَةٍ. وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ زُمُرُّدٍ وَكِتَابُهَا الذَّهَبُ، كَتَبَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ، فَسَمِعَ أهل السموات صَرِيفَ الْأَقْلَامِ.
أَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ سَعِيدًا مَا كَانَ أَغْنَاهُ عَنْ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَلَا بِالْحَدْسِ، وَالَّذِي يَغْلِبُ بِهِ الظَّنُّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ- رحمهم الله كَانُوا يَسْأَلُونَ الْيَهُودَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ وَاضْطَرَبَتْ، فَهَذَا يَقُولُ مِنْ خَشَبٍ، وَهَذَا يَقُولُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَهَذَا يَقُولُ مِنْ زُمُرُّدٍ، وَهَذَا يَقُولُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَهَذَا يَقُولُ مَنْ بُرْدٍ، وَهَذَا يَقُولُ مَنْ حَجَرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كُلِّ شَيْءٍ أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَكْتُوبِ فِي الْأَلْوَاحِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْمَكْتُوبِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّنَافِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ قَالَ بجدّ وحزم سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قَالَ: دَارَ الْكُفَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قَالَ: أُمِرَ مُوسَى أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَشَدَّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ قَوْمُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ قَالَ: بِطَاعَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ فَخُذْها بِقُوَّةٍ يَعْنِي: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قَالَ: بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُونَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قَالَ: مَصِيرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَنَازِلُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: جَهَنَّمُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مِصْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ قَالَ: عَنْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي آيَاتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ آياتِيَ قَالَ: عَنْ خَلْقِ السّموات وَالْأَرْضِ وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا، سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهَا أَوْ يَعْتَبِرُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَنْزِعُ عَنْهُمْ فهم القرآن.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 151]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قَوْلُهُ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ خُرُوجِهِ إِلَى الطُّورِ مِنْ حُلِيِّهِمْ متعلّق ب:
اتّخذ أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، أَوْ لِلْبَيَانِ، وَالْحُلِيُّ: جَمْعُ حَلْيٍ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وتخفيف الياء، قال النحاس: جمع حلي وحلي وحلي مثل ثدي وثدي وَثِدِيٌّ، وَالْأَصْلُ حَلْوِي أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَانْكَسَرَتِ اللَّامُ لِمُجَاوَرَتِهَا الْيَاءَ وَتُكْسَرُ الْحَاءُ لِكَسْرَةِ اللَّامِ وَضَمُّهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَأُضِيفَتْ الْحُلِيُّ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَجُوزُ لِأَدْنَى ملابسة، وعِجْلًا مَفْعُولُ اتَّخَذَ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ ثَانِيهِمَا مَحْذُوفٌ، أَيِ: اتَّخَذُوا عِجْلًا إلها، وجَسَداً بَدَلٌ مِنْ عِجْلًا، وَقِيلَ:
وَصْفٌ لَهُ، وَالْخُوَارُ: الصياح يقال: خار يخور خوارا إذا صاح، وكذلك جأر يجأر جؤارا. وَنُسِبَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَى الْقَوْمِ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ اتَّخَذَهُ السَّامِرِيُّ وَحْدَهُ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ مُوسَى قَوْمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَشْرِ الْمَزِيدَةِ، قَالَ السَّامِرِيُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ:
إِنَّ مَعَكُمْ حُلِيًّا مِنْ حُلِيٍّ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي اسْتَعَرْتُمُوهُ مِنْهُمْ لِتَتَزَيَّنُوا بِهِ فِي الْعِيدِ وَخَرَجْتُمْ وَهُوَ مَعَكُمْ، وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ أَهْلَهُ مِنَ الْقِبْطِ فَهَاتُوهَا، فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ فَاتَّخَذَ مِنْهَا الْعِجْلَ الْمَذْكُورَ. قَوْلُهُ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: أَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِأَنَّ هَذَا الَّذِي اتَّخَذُوهُ إِلَهًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْلِيمِهِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لَهُمْ، أَوْ دَفْعِ ضرّ عنهم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أَيْ: طَرِيقًا وَاضِحَةً يَسْلُكُونَهَا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ أَيِ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَكانُوا ظالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِ أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: هَذَا الِاتِّخَاذُ. قَوْلُهُ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ: نَدِمُوا وَتَحَيَّرُوا بَعْدَ عَوْدِ مُوسَى مِنَ الْمِيقَاتِ يُقَالُ لِلنَّادِمِ الْمُتَحَيِّرِ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ سُقِطَ فِي يَدِهِ وَأُسْقِطَ، وَمَنْ قَالَ: سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: سَقَطَ النَّدَمُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنِ اشْتَدَّ نَدَمُهُ وَحَسْرَتُهُ أَنْ يَعَضَّ يَدَهُ غَمًّا فَتَصِيرُ يَدُهُ مَسْقُوطًا فِيهَا، لِأَنَّ فَاهُ قَدْ وَقَعَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَى سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ: أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: حَصَلَ فِي يَدِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ فِي الْيَدِ، تَشْبِيهًا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْيَدِ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَشْيَاءِ فِي الْغَالِبِ بِالْيَدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَيْضًا النَّدَمُ وَإِنْ حَلَّ الْقَلْبَ فَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْبَدَنِ، لِأَنَّ النَّادِمَ يَعَضُّ يَدَهُ وَيَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها «1» ومنه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ «2» أَيْ: مِنَ النَّدَمِ، وَأَيْضًا: النَّادِمُ يَضَعُ ذَقَنَهُ فِي يَدِهِ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا مَعْطُوفٌ عَلَى سُقِطَ، أَيْ: تَبَيَّنُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِاتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ وَأَنَّهُمْ قَدِ ابْتُلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُمْ مَا يُفِيدُ الِاسْتِغَاثَةَ بِاللَّهِ وَالتَّضَرُّعَ وَالِابْتِهَالَ فِي السُّؤَالِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ طه إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمْ هُنَا وَقَعَ بَعْدَ رُجُوعِ مُوسَى، وَإِنَّمَا قَدَّمَ هُنَا عَلَى رُجُوعِهِ لِقَصْدِ حِكَايَةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. قَوْلُهُ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً
(1) . الكهف: 42.
(2)
. الفرقان: 27.
هَذَا بَيَانٌ لِمَا وَقَعَ مِنْ مُوسَى بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَانْتِصَابُ غَضْبَانَ وَأَسِفًا: عَلَى الْحَالِ، وَالْأَسِفُ: شَدِيدُ الْغَضَبِ. قِيلَ: هُوَ مَنْزِلَةٌ وَرَاءَ الْغَضَبِ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ أَسِفٌ وَأَسِيفٌ وَأَسْفَانُ وَأَسُوفٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ فُتِنُوا، فَلِذَلِكَ رَجَعَ وَهُوَ غضبان أسفا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي هَذَا ذَمٌّ مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ أَيْ: بِئْسَ الْعَمَلُ مَا عَمِلْتُمُوهُ مِنْ بَعْدِي أَيْ: مِنْ بَعْدِ غَيْبَتِي عَنْكُمْ، يُقَالُ: خَلَفَهُ بِخَيْرٍ وَخَلَفَهُ بِشَرٍّ، اسْتَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ وَذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا يُوجِبُ بَعْضُهُ الِانْزِجَارَ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا شَأْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَلَوُّنِ حَالِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَفْعَالِهِمْ، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَالْعَجَلَةُ: التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، يُقَالُ: عَجِلْتُ الشَّيْءَ: سَبَقْتُهُ، وَأَعْجَلْتُ الرَّجُلَ حَمَلْتُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَعْجِلْتُمْ عَنِ انْتِظَارِ أَمْرِ رَبِّكُمْ: أَيْ مِيعَادِهِ الَّذِي وَعَدَنِيهِ، وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ فَفَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَعَجَّلْتُمْ سُخْطَ رَبِّكُمْ وَقِيلَ معناه: أعجلتم بعبادة العجل أَنْ يَأْتِيَكُمْ أَمْرُ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أَيْ: طَرَحَهَا لِمَا اعْتَرَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْأَسَفِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى قَوْمِهِ وَهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ. قَوْلُهُ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أَيْ: أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ أَوْ بِشَعْرِ رَأْسِهِ حَالَ كَوْنِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى السَّامِرِيِّ وَلَا غَيْرِهِ مَا رَآهُ مِنْ عِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْعِجْلِ فَقَالَ هَارُونُ مُعْتَذِرًا مِنْهُ: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي أَيْ: إِنِّي لَمْ أُطِقْ تَغْيِيرَ مَا فَعَلُوهُ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: اسْتِضْعَافُهُمْ لِي، وَمُقَارَبَتُهُمْ لِقَتْلِي، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنَ أُمَّ مَعَ كَوْنِهِ أَخَاهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، لِأَنَّهَا كَلِمَةُ لِينٍ وَعَطْفٍ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ كَمَا قِيلَ مُؤْمِنَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ كَانَ هَارُونُ أَخَا مُوسَى لِأُمِّهِ لَا لِأَبِيهِ. قُرِئَ ابْنَ أُمَّ بِفَتْحِ الْمِيمِ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَصَارَ كَقَوْلِكَ يَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَقْبِلُوا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَاَبُو عُبَيْدٍ:
إِنَّ الْفَتْحَ على تقدير يا ابن أمّ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأَلِفَ خَفِيفَةٌ لَا تُحْذَفُ، وَلَكِنَّ جَعْلَ الِاسْمَيْنِ اسْمًا وَاحِدًا كَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ ابْنَ أُمِّي، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ وَأُبْقِيَتِ الْكَسْرَةُ لِتَدُلَّ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ: ابْنَ أُمِّ بِالْكَسْرِ، كَمَا تَقُولُ يَا غُلَامِ أَقْبِلْ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ وَالْقِرَاءَةُ بِهَا بَعِيدَةٌ، وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَيْكَ. وَقُرِئَ ابْنَ أُمِّي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ. قَوْلُهُ فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ الشَّمَاتَةُ: السُّرُورُ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِمَا يُصِيبُ مَنْ يُعَادُونَهُ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَجَهْدِ الْبَلَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ
…
كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا
…
سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلْ بِي مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّمَاتَةِ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ «فَلَا تَشْمَتْ بِيَ الْأَعْدَاءُ» بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الْأَعْدَاءِ، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِفِعْلٍ تَفْعَلُهُ بِي. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ (تُشْمِتْ) كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مَعَ نَصْبِ الْأَعْدَاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَالْمَعْنَى فَلَا تَشْمَتْ بِي أَنْتَ يَا رَبِّ! وَجَازَ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمُرَادِ فَأَضْمَرَ فِعْلًا