الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشَدٌ مُحَمَّدًا
…
حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
وَأَخْرَجَ الْقِصَّةَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
الْوَلِيجَةُ: الْبِطَانَةُ مِنْ غَيْرِ دِينِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَلِيجَةٌ: أَيْ خيانة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 22]
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْمُرُوا بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ مِنْ عَمَرَ يَعْمُرُ، وَقَرَأَ ابْنُ السميقع بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَعْمَرَ يُعْمِرُ، أَيْ: يَجْعَلُونَ لَهَا مَنْ يَعْمُرُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَسَهْمٌ وَيَعْقُوبُ مَسْجِدَ اللَّهِ بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَساجِدَ بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ النَّحَّاسُ: لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَالْخَاصُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَمْعِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ خَاصَّةً، وَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا فَرَسًا قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ مَساجِدَ وَالْمُرَادُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا وَإِمَامُهَا، فَعَامِرُهُ كَعَامِرِ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ الْوَاحِدَ مَكَانَ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ وَبِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُجَالِسُ الْمُلُوكَ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُجَالِسْ إِلَّا مَلِكًا وَاحِدًا وَالْمُرَادُ بِالْعِمَارَةِ: إِمَّا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، أَوِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ مُلَازَمَتُهُ، وَالتَّعَبُّدُ فِيهِ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمِنَّةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِكَوْنِ الْكُفَّارِ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ مَعَ نَهْيِهِمْ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَعْنَى مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا صَحَّ لَهُمْ وَمَا اسْتَقَامَ أَنْ يفعلوا ذلك، وشاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حَالٌ، أَيْ:
مَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، بِإِظْهَارٍ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ نَصْبِ الْأَوْثَانِ، وَالْعِبَادَةِ لَهَا، وَجَعْلِهَا آلِهَةً، فَإِنَّ هَذَا شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَكَيْفَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ: عمارة المسجد الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُمْ فِي طَوَافِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكَ هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ وَقِيلَ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ: إِنَّ الْيَهُودِيَّ يَقُولُ هُوَ يهودي،
والنصراني يقول هو نصراني، والصابئ، وَالْمُشْرِكُ يَقُولُ هُوَ مُشْرِكٌ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الَّتِي يَفْتَخِرُونَ بِهَا وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، أَيْ: بَطَلَتْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مَعَ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْخَبَرِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِهَا، ثُمَّ بَيْنَ سُبْحَانِهِ مَنْ هُوَ حَقِيقٌ بعمارة المساجد فَقَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَفَعَلَ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ فَمَنْ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَهُوَ الْحَقِيقُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، لَا مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنْهَا أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْخَشْيَةِ تَنْبِيهًا بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُمُورِ الدِّينِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِمَّا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ جَمْعِ الْمَسَاجِدِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْعِمَارَةِ، وَمَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ حَمَلَ الْعِمَارَةَ هُنَا عَلَيْهِمَا، وَفِي قَوْلِهِ: فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حَسْمٌ لِأَطْمَاعِ الْكُفَّارِ فِي الِانْتِفَاعِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ إِذَا كَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ مَرْجُوًّا فَقَطْ، فَكَيْفَ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّصِفُوا بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَقِيلَ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى خَلِيقٍ، أَيْ: فَخَلِيقٌ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجَاءَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لِلْإِنْكَارِ، وَالسِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ: مَصْدَرَانِ كَالسِّعَايَةِ وَالْحِمَايَةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَجَعَلْتُمْ أَصْحَابَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ أَهْلَهُمَا كَمَنْ آمَنَ حَتَّى يَتَّفِقَ الْمَوْضُوعُ وَالْمَحْمُولَ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْخَبَرِ، أَيْ: جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ، أَوْ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ، وقرأ ابن أبي وجرة السَّعْدِيُّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» ، جَمْعُ سَاقٍ وَعَامِرٍ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَا كَانَ تَعْمَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي صَوَّرَتْهَا صُورَةُ الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَبَيْنَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَجِهَادِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتَخِرُونَ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ وَيُفَضِّلُونَهُمَا عَلَى عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَتَفَاوُتِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمْ فَقَالَ: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ:
لَا تُسَاوِي تِلْكَ الطَّائِفَةُ الْكَافِرَةُ السَّاقِيَةُ لِلْحَجِيجِ الْعَامِرَةُ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُؤْمِنَةُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الْمُجَاهِدَةُ فِي سَبِيلِهِ، وَدَلَّ سُبْحَانَهُ بِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُشْرِكُونَ، أَيْ: إِذَا لَمْ تَبْلُغْ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ إِلَى أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ تَكُونُ فَاضِلَةً عَلَيْهَا كَمَا يَزْعُمُونَ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ وَأَنَّهُمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، لَا يَسْتَحِقُّونَ الْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي هَذَا إشارة إلى الفريق المفضول، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْفَرِيقِ الْفَاضِلِ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَحَقُّ بِمَا لَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ تِلْكَ الطَّائِفَةِ الْمُشْرِكَةِ الْمُفْتَخِرَةِ بِأَعْمَالِهَا الْمُحْبَطَةِ الْبَاطِلَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُمُ الْفائِزُونَ أَيِ: الْمُخْتَصُّونَ بِالْفَوْزِ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَ الْفَوْزَ بِقَوْلِهِ:
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ وَالتَّنْكِيرُ فِي الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّاتِ
لِلتَّعْظِيمِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا فَوْقَ وَصْفِ الْوَاصِفِينَ، وَتَصَوُّرِ الْمُتَصَوِّرِينَ. وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ: الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُ صَاحِبَهُ، وَذِكْرُ الْأَبَدِ بَعْدَ الْخُلُودِ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مَعَ تَضَمُّنِهَا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: أَعْطَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأُجُورَ الْعَظِيمَةَ لِكَوْنِ الْأَجْرِ الَّذِي عِنْدَهُ عَظِيمٌ، يَهَبُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ وَقَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَنَفَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ «1» مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يَقُولُ: مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقامَ الصَّلاةَ يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ يَقُولُ: لَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ يَقُولُ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ سَيَبْعَثُكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَكُلُّ عَسَى فِي الْقُرْآنِ: فَهِيَ وَاجِبَةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالدَّارِمَيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدُ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي اسْتِحْبَابِ مُلَازِمَةِ الْمَسَاجِدِ وَعِمَارَتِهَا وَالتَّرَدُّدِ إِلَيْهَا لِلطَّاعَاتِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ:
مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْتَفْتِيهِ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا:
عِمَارَةُ بَيْتِ اللَّهِ وَقِيَامٌ عَلَى السِّقَايَةِ خَيْرٌ مِمَّنْ آمَنَ وَجَاهَدَ، فَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِالْحَرَمِ، وَيَسْتَكْبِرُونَ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ وَعَمَّارُهُ، فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ، فَقَالَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ- مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ «3» يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَكْبِرُونَ بِالْحَرَمِ، وَقَالَ: بِهِ سَامِرًا: كَانُوا بِهِ يَسْمُرُونَ وَيَهْجُرُونَ بِالْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَيْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْجِهَادِ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ عَلَى عِمْرَانِ الْمُشْرِكِينَ البيت وقيامهم على السعاية وَلَمْ يَكُنْ لِيَنْفَعَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ وَإِنْ كَانُوا يَعْمُرُونَ بَيْتَهُ وَيَخْدِمُونَهُ، قَالَ الله لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَعْنِي:
الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِمَارَةِ فَسَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ بِشِرْكِهِمْ فَلَمْ تُغْنِ عنهم العمارة شيئا، وفي إسناده العوفي
(1) . المقصود: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله.
(2)
. الإسراء: 79.
(3)
. المؤمنون: 66- 67.