الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
أَيْ: وَأَرْسَلَنَا إِلَى مَدْيَنَ- وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ- أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ شُعَيْبًا، وَسُمُّوا مَدْيَنَ: بِاسْمِ أَبِيهِمْ، وَهُوَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: بِاسْمِ مَدِينَتِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَنْصَرِفُ مَدِينُ لِأَنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْأَعْرَافِ بِأَبْسَطِ مِمَّا هُنَا، وَقَدْ تقدّم تفسير: قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ لَمَّا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ؟ وَقَدْ كَانَ شُعَيْبُ عليه السلام يُسَمَّى خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ لِقَوْمِهِ، أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِعِبَادَةِ الِلَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي هُوَ الْإِلَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ كُفْرِهِمْ أَهْلَ تَطْفِيفٍ، كَانُوا إِذَا جَاءَهُمُ الْبَائِعُ بِالطَّعَامِ أَخَذُوا بِكَيْلٍ زَائِدٍ وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمُ الْمَوْزُونُ أَخَذُوا بِوَزْنٍ زَائِدٍ، وَإِذَا بَاعُوا بَاعُوا بِكَيْلٍ نَاقِصٍ وَوَزْنٍ نَاقِصٍ وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ: لَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ لِأَنِّي أَرَاكُمْ بخير، أي: بثروة واسعة فِي الرِّزْقِ فَلَا تُغَيِّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِمَعْصِيَتِهِ وَالْإِضْرَارِ بِعِبَادِهِ، فَفِي هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْعِلَّةِ عِلَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِيهَا الْإِذْكَارُ لَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى فِيهَا الْإِذْكَارُ لَهُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا وَوَصَفَ الْيَوْمَ بِالْإِحَاطَةِ وَالْمُرَادُ: الْعَذَابُ، لِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ فِي الْيَوْمِ وَمَعْنَى إِحَاطَةِ عَذَابِ الْيَوْمِ بِهِمْ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَنْهُ وَلَا يَجِدُونَ مِنْهُ مَلْجَأً وَلَا مَهْرَبًا، وَالْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: هُوَ يوم
الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالصَّيْحَةِ ثُمَّ أَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ نَقْصِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ بِقَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَالْإِيفَاءُ: هُوَ الْإِتْمَامُ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَهُوَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَإِنْ كَانَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ فَضْلٌ وَخَيْرٌ، وَلَكِنَّهَا فَوْقَ مَا يُفِيدُهُ اسْمُ الْعَدْلِ، وَالنَّهْيُ عَنِ النَّقْصِ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيفَاءَ فَفِي تَعَاضُدِ الدَّلَالَتَيْنِ مُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ وَتَأْكِيدٌ حَسَنٌ، ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا فَقَالَ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْبَخْسِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْأَشْيَاءُ أَعَمُّ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ فَيَدْخُلُ الْبَخْسُ بِتَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي هَذَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَقِيلَ: الْبَخْسُ الْمَكْسُ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَدْ مَرَّ أَيْضًا تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْعُثِيُّ فِي الْأَرْضِ: يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي السِّيَاقِ مِنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَقَيَّدَهُ بِالْحَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُفْسِدِينَ لِيُخْرِجَ مَا كَانَ صُورَتُهُ مِنَ الْعُثِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْإِصْلَاحُ كَمَا وَقَعَ مِنَ الْخَضِرِ في السفينة بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ:
مَا يُبْقِيهِ لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بَعْدَ إِيفَاءِ الْحُقُوقِ بِالْقِسْطِ أَكْثَرُ خَيْرًا وَبَرَكَةً مِمَّا تُبْقُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَقِيَّةُ اللَّهِ: طَاعَتُهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ:
وَصِيَّتُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُرَاقَبَتُهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ لَا الْكَافِرُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا: الْمُصَدِّقُونَ لِشُعَيْبٍ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَحْفَظُكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ أَحْفَظُ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَأُحَاسِبُكُمْ بِهَا وَأُجَازِيكُمْ عليها، وجملة:
قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
فَمَاذَا قَالُوا لِشُعَيْبٍ؟ وَقُرِئَ أَصَلاتُكَ من غير جمع، وأن نَتْرُكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
مَوْضِعُهَا خَفْضٌ عَلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ، وَمُرَادُهُمْ بِمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَوْثَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يُقَالُ لِفَاعِلِهِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَلْيِينِ قَلْبِهِ وَتَذْلِيلِ صُعُوبَتِهِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ إِذَا فَعَلَ مَا لَا يُنَاسِبُ الصَّوَابَ: أَصْدَقَتُكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الْقِرَاءَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الدِّينُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَوَاتِ أَتْبَاعُهُ، وَمِنْهُ الْمُصَلِّي الَّذِي يَتْلُو السَّابِقَ وَهَذَا مِنْهُمْ جَوَابٌ لِشُعَيْبٍ عَنْ أَمْرِهِ لَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَوْلِهِمْ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا جَوَابٌ لَهُ عَنْ أَمْرِهِمْ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ نَقْصِهِمَا وَعَنْ بَخْسِ النَّاسِ وَعَنِ الْعُثِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا فِي مَا يَعْبُدُ آباؤُنا. وَالْمَعْنَى: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَتَأْمُرُكَ أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص. وقرئ تفعل ما تشاء بِالْفَوْقِيَّةِ فِيهِمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: فَتَكُونُ أَوْ: عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْعَطْفِ عَلَى: أَنِ، الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ تَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ. وَقُرِئَ نَفْعَلَ بِالنُّونِ وَمَا تَشَاءُ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَفْعَلَ نَحْنُ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاؤُهُ أَنْتَ وَنَدَعُ مَا نَشَاؤُهُ نَحْنُ وَمَا يَجْرِي بِهِ التَّرَاضِي بَيْنَنَا ثُمَّ وَصَفُوهُ بِوَصْفَيْنِ عَظِيمَيْنِ فَقَالُوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهِمَا، أَوْ يُرِيدُونَ إِنَّكَ لَأَنْتَ الحليم الرشيد عند نَفْسِكَ وَفِي اعْتِقَادِكَ، وَمَعْنَاهُمْ: أَنَّ هَذَا الَّذِي نَهَيْتَنَا عَنْهُ وَأَمَرْتَنَا بِهِ يُخَالِفُ مَا
تَعْتَقِدُهُ فِي نَفْسِكَ مِنَ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْهُ لَهُمْ بِمَا يُخَالِفُ الْحِلْمَ وَالرُّشْدَ فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ، وجملة: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ وَرَزَقَنِي مِنْهُ أَيْ: مِنْ فَضْلِهِ وَخَزَائِنِ مُلْكِهِ رِزْقاً حَسَناً أَيْ: كَثِيرًا وَاسِعًا حَلَالًا طَيِّبًا، وَقَدْ كَانَ عليه السلام كَثِيرَ الْمَالِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالرِّزْقِ النُّبُوَّةَ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةَ، وَقِيلَ: الْعِلْمَ، وَقِيلَ: التَّوْفِيقَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: أَتْرُكُ أَمْرَكُمْ وَنَهْيَكُمْ، أَوْ أَتَقُولُونَ فِي شَأْنِي: مَا تَقُولُونَ مِمَّا تُرِيدُونَ بِهِ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ أَيْ: وَمَا أُرِيدُ بِنَهْيِي لَكُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَأَفْعَلُهُ دُونَكُمْ، يُقَالُ: خَالَفَهُ إِلَى كَذَا: إِذَا قَصَدَهُ وَهُوَ مُوَلٍّ عَنْهُ، وَخَالَفْتُهُ عَنْ كَذَا: فِي عَكْسِ ذَلِكَ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ أَيْ: مَا أُرِيدُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا الْإِصْلَاحَ لَكُمْ وَدَفْعِ الْفَسَادِ فِي دِينِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمْ مَا اسْتَطَعْتُ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ اسْتِطَاعَتِي، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ طَاقَتِي وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ:
مَا صِرْتُ مُوَفَّقًا هَادِيًا نَبِيًّا مُرْشِدًا إِلَّا بِتَأْيِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِقْدَارِي عَلَيْهِ وَمَنْحِي إِيَّاهُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي جَمِيعِ أُمُورِي الَّتِي مِنْهَا أَمْرُكُمْ وَنَهْيُكُمْ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أَيْ: أَرْجِعُ فِي كُلِّ مَا نَابَنِي مِنَ الْأُمُورِ وَأُفَوِّضُ جَمِيعَ أُمُورِي إِلَى مَا يَخْتَارُهُ لِي مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْإِنَابَةَ: الدُّعَاءُ، وَمَعْنَاهُ:
وَلَهُ أَدْعُو. قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا يُكْسِبَنَّكُمْ شِقَاقِي إِصَابَةَ الْعَذَابِ إِيَّاكُمْ كَمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ شِقَاقِي، وَالشِّقَاقُ: الْعَدَاوَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولًا
…
فَكَيْفَ وَجَدْتُمُ طَعْمَ الشّقاق
وأَنْ يُصِيبَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَجْرِمَنَّكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ مِنَ الْغَرَقِ أَوْ قَوْمَ هُودٍ مِنَ الرِّيحِ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ مِنَ الصَّيْحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: يَجْرِمَنَّكُمْ، وَتَفْسِيرُ:
الشِّقَاقِ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: لَيْسَ مَكَانُهُمْ بِبَعِيدٍ مِنْ مَكَانِكُمْ، أَوْ لَيْسَ زَمَانُهُمْ بِبَعِيدٍ مِنْ زَمَانِكُمْ، أَوْ لَيْسُوا بِبَعِيدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعُقُوبَتِهِمْ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْكُفْرِ، وَأَفْرَدَ لَفْظَ بَعِيدٍ لِمِثْلِ مَا سَبَقَ فِي وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ثُمَّ بَعْدَ تَرْهِيبِهِمْ بِالْعَذَابِ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الِاسْتِغْفَارِ مَعَ تَرْتِيبِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الرَّحِيمِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُ عَظِيمُ الرَّحْمَةِ لِلتَّائِبِينَ. وَالْوَدُودُ: الْمُحِبُّ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَدِدْتُ الرَّجُلَ أَوَدُّهُ وُدًّا: إِذَا أَحْبَبْتُهُ، وَالْوَدُودُ: الْمُحِبُّ، وَالْوِدُّ وَالْوُدُّ وَالْوَدُّ: الْمَحَبَّةُ وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُ يَفْعَلُ بِعِبَادِهِ مَا يَفْعَلُهُ مَنْ هُوَ بَلِيغُ الْمَوَدَّةِ بِمَنْ يَوَدُّهُ مِنَ اللُّطْفِ بِهِ، وَسَوْقِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ.
وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَا قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة. وجملة: قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَأْتِينَا بِمَا لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ: مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ كَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَلَا نَفْقَهُ ذَلِكَ: أَيْ: نَفْهَمُهُ كَمَا نَفْهَمُ الْأُمُورَ الْحَاضِرَةَ الْمُشَاهَدَةَ. فَيَكُونُ نَفْيُ الْفِقْهِ عَلَى هَذَا حَقِيقَةً لَا مجازا
وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ إِعْرَاضًا عَنْ سَمَاعِهِ وَاحْتِقَارَ الْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ مَفْهُومًا لَدَيْهِمْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، فَلَا يَكُونُ نَفْيُ الْفِقْهِ حَقِيقَةً، بَلْ مَجَازًا. يُقَالُ فَقِهَ يَفْقَهُ: إِذَا فَهِمَ، فِقْهًا وَفَقَهًا، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ فُقْهَانًا، وَيُقَالُ فَقُهَ فِقْهًا: إِذَا صَارَ فَقِيهًا وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أَيْ: لَا قُوَّةَ لَكَ تَقْدِرُ بِهَا عَلَى أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَكَ مِنَّا، وَتَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ مُخَالَفَتِنَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي بَدَنِهِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُصَابًا بِبَصَرِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ حِمْيَرَ تَقُولُ لِلْأَعْمَى: ضَعِيفٌ، أَيْ: قَدْ ضَعُفَ بِذَهَابِ بَصَرِهِ، كَمَا يُقَالُ لَهُ:
ضَرِيرٌ، أَيْ: قَدْ ضُرَّ بِذَهَابِ بَصَرِهِ وَقِيلَ: الضَّعِيفُ: الْمَهِينُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ رَهْطُ الرَّجُلِ: عَشِيرَتُهُ الَّذِينَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِمْ وَيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَمِنْهُ: الرَّاهِطُ: لِجُحْرِ الْيَرْبُوعِ، لِأَنَّهُ يَتَوَثَّقُ بِهِ وَيُخَبَّأُ فِيهِ وَلَدُهُ، وَالرَّهْطُ يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا رَهْطَهُ مَانِعًا مِنْ إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِمْ فِي قِلَّةٍ، وَالْكُفَّارُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِهِمْ، فَتَرَكُوهُ احْتِرَامًا لَهُمْ لَا خَوْفًا مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكَّدُوا مَا وَصَفُوهُ بِهِ مِنَ الضعف بقولهم: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ حَتَّى نَكُفَّ عَنْكَ لِأَجْلِ عِزَّتِكَ عِنْدَنَا، بَلْ تَرَكْنَا رَجْمَكَ لِعِزَّةِ رَهْطِكَ عَلَيْنَا، وَمَعْنَى لَرَجَمْنَاكَ: لَقَتَلْنَاكَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا إِذَا قَتَلُوا إِنْسَانًا رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى لَرَجَمْنَاكَ: لَشَتَمْنَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْجَعْدِيِّ:
تَرَاجَمْنَا بِمُرِّ الْقَوْلِ حَتَّى
…
نَصِيرَ كَأَنَّنَا فَرَسَا رِهَانِ
وَيُطْلَقُ الرَّجْمُ عَلَى اللَّعْنِ، وَمِنْهُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَجُمْلَةُ: قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنِّي، لِأَنَّ نفي العزّة وَإِثْبَاتَهَا لِقَوْمِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيلَاءُ الضَّمِيرِ حَرْفَ النَّفْيِ، اسْتِهَانَةٌ بِهِ، وَالِاسْتِهَانَةُ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ اسْتِهَانَةٌ بِاللَّهِ عز وجل، فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ أَنَّ رَهْطَهُ أَعَزُّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَتَعَجَّبَ مِنْهُ، وَأَلْزَمَهُمْ مَا لَا مَخْلَصَ لَهُمْ عَنْهُ، وَلَا مَخْرَجَ لَهُمْ مِنْهُ بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي هَذَا مِنْ قُوَّةِ الْمُحَاجَّةِ وَوُضُوحِ الْمُجَادَلَةِ وَإِلْقَامِ الْخَصْمِ الْحَجَرَ مَا لَا يَخْفَى، وَلِأَمْرٍ مَا سُمِّيَ شُعَيْبٌ: خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذْتُمُوهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْمَعْنَى: وَاتَّخَذْتُمُ اللَّهَ عز وجل بِسَبَبِ عَدَمِ اعْتِدَادِكُمْ بِنَبِيِّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أَيْ: مَنْبُوذًا وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا تُبَالُونَ بِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَاتَّخَذْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْكُمْ، وَهُوَ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، يُقَالُ: جَعَلْتُ أَمْرَهُ بِظَهْرٍ: إِذَا قَصَّرْتُ فيه، وظهريا، مَنْسُوبٌ إِلَى الظَّهْرِ، وَالْكَسْرُ لِتَغْيِيرِ النَّسَبِ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ لَمَّا رَأَى إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَصْمِيمَهُمْ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِ الْمَوْعِظَةِ فِيهِمْ تَوَعَّدَهُمْ بِأَنْ يَعْمَلُوا عَلَى غَايَةِ تَمَكُّنِهِمْ وَنِهَايَةِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، يُقَالُ: مَكُنَ مَكَانَةً: إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ تَمَكُّنٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ وَيُقَدِّرُ اللَّهُ لَهُ ثُمَّ بَالَغَ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ: عَاقِبَةَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْإِضْرَارِ بِعِبَادِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ من: في محل نصب بتعلمون، أَيْ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ الْعَذَابُ الْمُخْزِي الَّذِي يَتَأَثَّرُ عَنْهُ الذُّلُّ وَالْفَضِيحَةُ وَالْعَارُ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى: مَنْ يَأْتِيهِ وَالْمَعْنَى: سَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ الْمُعَذَّبُ وَمَنْ
هُوَ الْكَاذِبُ؟ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وَقِيلَ:
إِنَّ: مَنْ، مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهَا صِلَتُهَا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ هُوَ كَاذِبٌ فَسَيَعْلَمُ كَذِبَهُ وَيَذُوقُ وَبَالَ أَمْرِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا جَاءَ بِ: هُوَ فِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ مَنْ قَائِمٌ: إِنَّمَا يَقُولُونَ مَنْ قَامَ، وَمَنْ يَقُومُ، وَمَنِ الْقَائِمُ، فَزَادُوا هُوَ لِيَكُونَ جُمْلَةً تَقُومُ مَقَامَ فَعَلَ وَيَفْعَلُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
من رسولي إلى الثريّا بأنّي
…
ضِقْتُ ذَرْعًا بِهَجْرِهَا وَالْكِتَابِ
وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أَيِ: انْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مُنْتَظِرٌ لِمَا يَقْضِي بِهِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أَيْ: لَمَّا جَاءَ عَذَابُنَا، أَوْ أَمَرُنَا بِعَذَابِهِمْ نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَأَتْبَاعَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بِرَحْمَةٍ مِنَّا لَهُمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، أَوْ بِرَحْمَةٍ مِنَّا لَهُمْ، وَهِيَ: هِدَايَتُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِمَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ وَجْهٍ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ الصَّيْحَةُ الَّتِي صَاحَ بِهِمْ جِبْرَائِيلُ حَتَّى خَرَجَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، وَفِي الأعراف: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَكَذَا فِي الْعَنْكَبُوتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّجْفَةَ: الزَّلْزَلَةُ، وَأَنَّهَا تَكُونُ تَابِعَةً لِلصَّيْحَةِ لِتَمَوُّجِ الْهَوَاءِ الْمُفْضِي إِلَيْهَا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أَيْ: مَيِّتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَتَفْسِيرُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها قَرِيبًا، وَكَذَا تَفْسِيرُ: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ قَرَأَ: كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ بِضَمِّ الْعَيْنِ. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: مَنْ ضَمَّ الْعَيْنَ مِنْ بَعُدَتْ فَهِيَ لُغَةٌ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبَعِدَتْ بِالْكَسْرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً، وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى اللَّعْنَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ قَالَ: رُخْصُ السِّعْرِ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ قَالَ: غَلَاءُ السِّعْرِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير عنه بَقِيَّتُ اللَّهِ قَالَ:
رِزْقُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عن قتادة: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ يَقُولُ: حَظُّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْأَعْمَشِ فِي قَوْلِهِ:
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ قَالَ: أَقِرَاءَتُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْأَحْنَفِ: أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَاةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا قَالَ:
نَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُنَا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نَشَاءُ، إِنْ شِئْنَا قَطَعْنَاهَا، وَإِنْ شِئْنَا أَحْرَقْنَاهَا، وَإِنْ شِئْنَا طَرَحْنَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وأخرجنا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ أيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّكَ لَسْتَ بِحَلِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اسْتِهْزَاءٌ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً قَالَ: الحلال.