الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ نَحْوَ قِصَّةِ الرَّجُلِ الْيَهُودِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ:«أُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ، فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِعِيسَى وَلَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَى قَوْلِهِ: فاسِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ قَالَ: مُسِخَتْ مِنْ يَهُودَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ أَنْ يُمْسَخُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَكَانُوا مِمَّا خُلِقَ مِنَ الْأُمَمِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ هُمَا مِمَّا مَسَخَ اللَّهُ، فَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ قَالَ: لَمْ يَمْسَخْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَةً، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا الْآيَةَ، قَالَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ:
كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ رَاضُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ، وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِضَلَالَتِهِمْ وَبِالْكُفْرِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَهُودًا، يَقُولُ: دَخَلُوا كُفَّارًا وَخَرَجُوا كُفَّارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ قَالَ: يَصْنَعُونَ وَيَعْمَلُونَ وَاحِدٌ، قَالَ: لِهَؤُلَاءِ حِينَ لَمْ يَنْتَهُوا كَمَا قَالَ لِهَؤُلَاءِ حِينَ عَمِلُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قَالَ: فَهَلَّا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ؟ وَهُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الآية لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ نَحْوَهُ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا حَاجَةَ لنا في بسطها هنا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قَوْلُهُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الْيَدُ عِنْدَ الْعَرَبِ تُطْلَقُ عَلَى الْجَارِحَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً «1» وَعَلَى النِّعْمَةِ، يَقُولُونَ كَمْ يَدٌ لِي عِنْدَ فُلَانٍ وَعَلَى الْقُدْرَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَوْ عَلَى التَّأْيِيدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«يَدُ اللَّهِ مَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي» وَتُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَالْعَرَبُ تُطْلَقُ غُلُّ الْيَدِ عَلَى الْبُخْلِ وَبَسْطُهَا عَلَى الْجُودِ مَجَازًا، وَلَا يُرِيدُونَ الْجَارِحَةَ كَمَا يَصِفُونَ الْبَخِيلَ بِأَنَّهُ جَعْدُ الْأَنَامِلِ، وَمَقْبُوضُ الْكَفِّ، ومنه قوله الشَّاعِرِ:
كَانَتْ خُرَاسَانُ أَرْضًا إِذْ يَزِيدُ بِهَا
…
وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُ
فَاسْتُبْدِلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أَنَامِلُهُ
…
كَأَنَّمَا وَجْهُهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوحُ
فَمُرَادُ الْيَهُودُ هُنَا، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، أَنَّ اللَّهَ بَخِيلٌ، فَأَجَابَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَيْهِمْ مُطَابِقًا لِمَا أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ غُلُّ أَيْدِيهِمْ حَقِيقَةً بِالْأَسْرِ فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُقَوِّي الْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنَّ الْبُخْلَ قَدْ لَزِمَ الْيَهُودَ لُزُومَ الظِّلِّ لِلشَّمْسِ فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، إِلَّا وَهُوَ مِنْ أَبْخَلِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَيْضًا الْمَجَازُ أَوْفَقُ بِالْمَقَامِ لِمُطَابَقَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: وَلُعِنُوا بِما قالُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ: أَيْ أُبْعِدُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، ثُمَّ رَدَّ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أَيْ بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْجُودِ، وَذَكَرَ الْيَدَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا إِلَّا الْيَدَ الْوَاحِدَةَ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ السَّخَاءِ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْجُودِ إِلَى الْيَدَيْنِ أَبْلَغُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْيَدِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْإِضْرَابِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ: أَيْ كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ نِعْمَةُ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةُ وَنِعْمَتُهَا الْبَاطِنَةُ وَقِيلَ: نِعْمَةُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَقِيلَ: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ بَلْ يَدَاهُ بَسِيطَتَانِ: أَيْ مُنْطَلِقَتَانِ كَيْفَ يَشَاءُ. قَوْلُهُ:
يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِكَمَالِ جُودِهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ إِنْفَاقُهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ، وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ، فَهُوَ الْبَاسِطُ الْقَابِضُ فَإِنْ قَبَضَ كَانَ ذَلِكَ لِمَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ الْبَاهِرَةُ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَإِنَّ خَزَائِنَ مُلْكِهِ لَا تَفْنَى وَمَوَادَّ جُودِهِ لَا تَتَنَاهَى. قَوْلُهُ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ إِلَخْ، اللَّامُ هِيَ لَامُ الْقَسَمِ:
أَيْ لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْحَسَنَةِ طُغْياناً وَكُفْراً أَيْ طُغْيَانًا إِلَى طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أَيْ بَيْنَ الْيَهُودِ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أَوْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَوْلُهُ: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا لِلْحَرْبِ جَمْعًا، وَأَعْدُّوا لَهُ عُدَّةً، شَتَّتَ اللَّهُ جَمْعَهُمْ، وَذَهَبَ بِرِيحِهِمْ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِطَائِلٍ وَلَا عَادُوا بِفَائِدَةٍ، بَلْ لَا يَحْصُلُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْغَلَبِ لَهُمْ، وَهَكَذَا لَا يَزَالُونَ يُهَيِّجُونَ الْحُرُوبَ وَيَجْمَعُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُبْطِلُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى اسْتِعَارَةٍ بَلِيغَةٍ، وَأُسْلُوبٍ بَدِيعٍ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَيْ يَجْتَهِدُونَ فِي فِعْلِ مَا فِيهِ فَسَادٌ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ إِبْطَالِ الْإِسْلَامِ وَكَيْدِ أَهْلِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّارِ هُنَا الْغَضَبُ:
(1) . ص: 44.
أَيْ كُلَّمَا أَثَارُوا فِي أَنْفُسِهِمْ غَضَبًا أَطْفَأَهُ اللَّهُ بِمَا جَعَلَهُ مِنَ الرُّعْبِ فِي صُدُورِهِمْ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ الْمَضْرُوبَتَيْنِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْجِنْسِ فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ فَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِبَيَانِ شِدَّةِ فَسَادِهِمْ وَكَوْنِهِمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ. قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا أَيْ لَوْ أَنَّ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْجِنْسِ آمَنُوا الْإِيمَانَ الَّذِي طَلَبَهُ الله منهم، ومن أهمّه الإيمان بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ وَاتَّقَوْا الْمَعَاصِيَ الَّتِي مِنْ أَعْظَمِهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَالْجُحُودِ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً مُتَنَوِّعَةً وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أَيْ أَقَامُوا مَا فِيهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مُتَعَبِّدِينَ بِمَا فِيهَا لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ذَكَرَ فَوْقَ وَتَحْتَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَيَسُّرِ أسباب الرزق لهم وكثرتهم وَتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا. قَوْلُهُ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ جَمِيعُهُمْ مُتَّصِفُونَ بالأوصاف السابقة، أو البعض منهم دُونَ الْبَعْضِ، وَالْمُقْتَصِدُونَ مِنْهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَطَائِفَةٍ مِنَ النَّصَارَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَمَرِّدُونَ عَنْ إِجَابَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ النَّبَّاشُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أَيْ بَخِيلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً قَالَ: حَمَلَهُمْ حَسَدُ مُحَمَّدٍ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنْ تَرَكُوا الْقُرْآنَ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَدِينِهِ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ قَالَ: حَرْبُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ: كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَرَّقَهُ اللَّهُ، وَأَطْفَأَ حَدَّهُمْ وَنَارَهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا قَالَ: آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَاتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قَالَ: الْعَمَلَ بِهِمَا، وَأَمَّا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ فَأَرْسَلْتُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا، وَأَمَّا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَقُولُ: أُنْبِتُ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ رِزْقِي مَا يُغْنِيهِمْ. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَهُمْ مَسْلَمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يَعْنِي لَأُرْسِلُ