الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بعده أبدا» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
الْأَمْرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْجِهَادِ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجِهَادُ الْكُفَّارِ يَكُونُ بِمُقَاتَلَتِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ يَكُونُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهُ وَيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَهُ قَتَادَةُ. قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا أَكْثَرَ مَنْ يَفْعَلُ مُوجِبَاتِ الْحُدُودِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْعَاصِي بِمُنَافِقٍ، إِنَّمَا الْمُنَافِقُ بِمَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنَ النِّفَاقِ دَائِمًا لَا بِمَا تَتَلَبَّسُ بِهِ الْجَوَارِحُ ظَاهِرًا، وَأَخْبَارُ الْمَحْدُودِينَ تَشْهَدُ بِسِيَاقَتِهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ. قَوْلُهُ: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الْغِلَظُ: نَقِيضُ الرَّأْفَةِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْقَلْبِ وَخُشُونَةُ الْجَانِبِ قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ وَالصَّفْحِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ، فَقَالَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، وَوَدِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ نُزُولُ الْقُرْآنِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وذمّهم، قالا: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا عَلَى إِخْوَانِنَا الَّذِينَ هُمْ سَادَاتُنَا وَخِيَارُنَا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ مُصَدَّقٌ، وَإِنَّكَ لَشَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ وَأَخْبَرَ عَامِرٌ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَجَاءَ الْجُلَاسُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ إِنَّ عَامِرًا لَكَاذِبٌ، وَحَلَفَ عَامِرٌ: لَقَدْ قَالَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيِّكَ شَيْئًا فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي سَمِعَ ذَلِكَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقِيلَ: حُذَيْفَةُ، وَقِيلَ: بَلْ سَمِعَهُ وَلَدُ امْرَأَتِهِ، أَيِ: امرأة الجلاس، واسمه: عمير ابن سَعْدٍ، فَهَمَّ الْجُلَاسُ بِقَتْلِهِ لِئَلَّا يُخْبِرَ بِخَبَرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا قَالَ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ القائل «سمن كلبك يأكلك» ، ولَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «1» فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَحَلَفَ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْقَائِلَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ فَنِسْبَةُ الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِهِمْ هِيَ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَحْلِفْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِمَنْ قَدْ قَالَ وَحَلَفَ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَكَذَّبَهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ حَلَفُوا كَذِبًا، فَقَالَ: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أَيْ: كَفَرُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بَعْدَ إِظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوجِبُ كُفْرَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ إِسْلَامِهِمْ. قَوْلُهُ: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قيل:
(1) . المنافقون: 8.
هُوَ هَمُّهُمْ بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقِيلَ: هَمُّوا بِعَقْدِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَقِيلَ: هُوَ هَمُّ الْجُلَاسِ بِقَتْلِ مَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: وَمَا عَابُوا وَأَنْكَرُوا إِلَّا مَا هُوَ حَقِيقٌ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَهُوَ إِغْنَاءُ اللَّهِ لَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَمِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا
…
أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا
فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ، فلما قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ اتَّسَعَتْ مَعِيشَتُهُمْ وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ أَيْ: فَإِنْ تَحْصُلْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ يَكُنْ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلُوهُ مِنَ التَّوْبَةِ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَدْ تَابَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِهَا مِنَ الزِّنْدِيقِ، فَمَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا مَالِكٌ وَأَتْبَاعُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ، إِذْ هُوَ فِي كُلِّ حِينٍ يُظْهِرُ التَّوْبَةَ وَالْإِسْلَامَ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أَيْ: يُعْرِضُوا عَنِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ وَفي الْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ يُوَالِيهِمْ وَلا نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ قَالَ الْجُلَاسُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَسَمِعَهَا عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا جُلَاسُ إِنَّكَ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدِي أثرا، وأعزّهم أن يدخل عليه شيء يكرهه، وقد قُلْتَ مَقَالَةً لَئِنْ ذَكَرْتُهَا لَتَفْضَحَنَّكَ، وَلَئِنْ سَكَتُّ عَنْهَا لَتُهْلِكَنِّي، وَلَإِحْدَاهُمَا أَشَدُّ عَلَيَّ مِنَ الْأُخْرَى، فَمَشَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ الْجُلَاسُ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ: وَلَكِنْ كَذَبَ عَلَيَّ عُمَيْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ: إِنْ كَانَ هَذَا صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ قَالَ زَيْدٌ: هُوَ وَاللَّهِ صَادِقٌ وَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَجَحَدَ الْقَائِلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَكُمْ فَلَا تُكَلِّمُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى تَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ