الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ: حَقَّ عَلَيْهِمْ سَخَطُ اللَّهِ بِمَا عَصَوْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ:
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ يَقُولُ: فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْأُمَمِ قَبْلَ قَوْمِ يُونُسَ لَمْ يَنْفَعْ قَرْيَةً كَفَرَتْ ثُمَّ آمَنَتْ حِينَ عَايَنَتِ الْعَذَابَ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، فَاسْتَثْنَى اللَّهُ قَوْمَ يُونُسَ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا بِنِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَأَخْرَجُوا الْمَوَاشِيَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، فَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ الصِّدْقَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَالتَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُمْ كشف عنهم العذاب بعد ما تَدَلَّى عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ إِلَّا مِيلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ يُونُسَ دَعَا قَوْمَهُ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يُجِيبُوهُ وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ، فَقَالَ:
إِنَّهُ يَأْتِيكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا وَعَدَتْ قَوْمَهَا الْعَذَابَ خَرَجَتْ، فَلَمَّا أَظَلَّهُمُ الْعَذَابُ خَرَجُوا فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَوَلَدِهَا، وَبَيْنَ السَّخْلَةِ وَوَلَدِهَا «1» ، وَخَرَجُوا يَعُجُّونَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَتَابَ عَلَيْهِمْ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَقَعَدَ يُونُسُ فِي الطَّرِيقِ يَسْأَلُ عَنِ الْخَبَرِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا فَعَلَ قَوْمُ يُونُسَ؟ فَحَدَّثَهُ بِمَا صَنَعُوا، فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ إِلَى قَوْمٍ قَدْ كُذِّبْتُهُمْ، وَانْطَلَقَ مُغَاضِبًا:
يَعْنِي مُرَاغِمًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: غَشِيَ قَوْمَ يُونُسَ الْعَذَابُ كَمَا يُغْشَى الْقَبْرُ بِالثَّوْبِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ صَاحِبُهُ. وَمَطَرَتِ السَّمَاءُ دَمًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعَذَابَ كَانَ هَبَطَ عَلَى قَوْمِ يُونُسَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِلَّا قَدْرُ ثُلُثَيْ مِيلٍ، فَلَمَّا دَعَوْا كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْجَلْدِ قَالَ: لَمَّا غَشِيَ قَوْمَ يُونُسَ الْعَذَابُ مَشَوْا إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَقِيَّةِ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: مَا تَرَى؟ قَالَ:
قُولُوا يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ، وَيَا حَيُّ مُحْيِيَ الْمَوْتَى، وَيَا حَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالُوا فَكُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ قَالَ: السُّخْطَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الرِّجْسُ: الشَّيْطَانُ، وَالرِّجْسُ: الْعَذَابُ.
[سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 109]
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
(1) . هكذا وردت العبارة. والأولى أن يقول: بين السخلة ووالدتها. [.....]
قَوْلُهُ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّظَرِ: التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ تَفَكَّرُوا وَاعْتَبِرُوا بِمَا في السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ، وَوَحْدَتِهِ، وكمال قدرته.
وماذا مبتدأ، وخبره في السّموات وَالْأَرْضِ. أَوِ: الْمُبْتَدَأُ مَا، وَذَا: بِمَعْنَى الَّذِي، وفي السموات وَالْأَرْضِ:
صِلَتُهُ، وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ: خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: أيّ شيء الذي في السموات وَالْأَرْضِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّفَكُّرَ وَالتَّدَبُّرَ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ لَا يَنْفَعُ فِي حَقِّ مَنِ اسْتَحْكَمَتْ شَقَاوَتُهُ فَقَالَ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ أَيْ: مَا تَنْفَعُ، عَلَى أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَنْفَعُ؟ وَالْآيَاتُ هِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالنُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ، وَهُمُ الرُّسُلُ أَوْ جَمْعُ إِنْذَارٍ وَهُوَ الْمَصْدَرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالْمَعْنَى:
أَنَّ مَنْ كَانَ هَكَذَا لَا يُجْدِي فِيهِ شَيْءٌ، وَلَا يَدْفَعُهُ عَنِ الْكُفْرِ دَافِعٌ، قَوْلُهُ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُعَاصِرُونَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِثْلَ وَقَائِعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ؟ فَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ يَتَوَعَّدُونَ كُفَّارَ زَمَانِهِمْ بِأَيَّامٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ وَيُصَمِّمُونَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَذَابَهُ وَيُحِلَّ بِهِمُ انْتِقَامَهُ، ثُمَّ قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ فَانْتَظِرُوا أَيْ: تَرَبَّصُوا لِوَعْدِ رَبِّكُمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِوَعْدِ رَبِّي، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ بَالِغٌ بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِهَؤُلَاءِ مَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْلَكْنَا الْأُمَمَ ثُمَّ نَجَّيْنَا رُسُلَنَا الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ ثُمَّ نُنَجِّي مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي: حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، أَنْجَى، يُنْجِي، إِنْجَاءً، وَنَجَّى، يُنَجِّي، تَنْجِيَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعْطُوفٌ عَلَى رُسُلِنَا، أَيْ: نَجَّيْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهَا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا، أَوْ إِنْجَاءً مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ حَقًّا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَذَابِنَا لِلْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: الْجِنْسُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ، أَوْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، لِأَنَّ الرُّسُلَ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ بِالْأَوْلَى. قَوْلُهُ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُظْهِرَ التَّبَايُنَ بَيْنَ طَرِيقَتِهِ وَطَرِيقَةِ الْمُشْرِكِينَ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ النَّاسِ، أَوْ لِلْكُفَّارِ مِنْهُمْ، أَوْ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينَيِ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ تَعْلَمُوا بِحَقِيقَتِهِ وَلَا عَرَفْتُمْ صِحَّتَهُ، وَأَنَّهُ الدِّينُ
الْحَقُّ الَّذِي لَا دِينَ غَيْرُهُ، فَاعْلَمُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ أَدْيَانِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي: خصّه بِالْعِبَادَةِ لَا أَعْبُدُ غَيْرَهُ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَخَصَّ صِفَةَ الْمُتَوَفِّي مِنْ بَيْنِ الصِّفَاتِ: لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّهْدِيدِ لَهُمْ أَيْ: أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فَيَفْعَلُ بِكُمْ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَلِكَوْنِهِ يَدُلُّ عَلَى الْخَلْقِ: أَوَّلًا، وَعَلَى الْإِعَادَةِ: ثَانِيًا، وَلِكَوْنِهِ أَشَدَّ الْأَحْوَالِ مَهَابَةً فِي الْقُلُوبِ، وَلِكَوْنِهِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِهْلَاكِ وَالْوَقَائِعِ النَّازِلَةِ بِالْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي وَعَدَنِي بِإِهْلَاكِكُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ:
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِأَنْ أَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَأَخْلَصَ لَهُ الدِّينَ، وَجُمْلَةُ: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمَعْطُوفِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كُنْ مُؤْمِنًا ثُمَّ أَقِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الدِّينِ وَالثَّبَاتِ فِيهِ، وَعَدَمِ التَّزَلْزُلِ عَنْهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَخَصَّ الْوَجْهَ: لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، أَوْ أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ التَّحَوُّلِ عَنْهَا. وَحَنِيفًا: حَالٌ مِنَ الدِّينِ، أَوْ مِنَ الْوَجْهِ، أَيْ: مَائِلًا عَنْ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ أُكِّدَ الْأَمْرُ الْمُتَقَدِّمُ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ فَقَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَقِمْ، وَهُوَ مِنْ باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْأَمْرِ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى: وَلا تَكُونَنَّ أَيْ:
لَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ بِشَيْءٍ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ إِنْ دَعَوْتَهُ، وَدُعَاءُ مَنْ كَانَ هَكَذَا لَا يَجْلِبُ نَفْعًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ، ضَائِعٍ لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ غَيْرُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا؟ فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ دُعَاءِ الْقَادِرِ إِلَى دُعَاءِ غَيْرِ الْقَادِرِ أَقْبَحُ وَأَقْبَحُ فَإِنْ فَعَلْتَ أَيْ: فَإِنْ دَعَوْتَ، وَلَكِنَّهُ كَنَّى عَنِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ هَذَا جَزَاءُ الشَّرْطِ أَيْ: فَإِنْ دَعَوْتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنَّكَ فِي عِدَادِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ التَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَجُمْلَةُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ إِلَى آخِرِهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، فَإِنْ أَنْزَلَ بِعَبْدِهِ ضَرًّا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَكْشِفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، بَلْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِكَشْفِهِ كَمَا اخْتَصَّ بِإِنْزَالِهِ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ أَيِّ خَيْرٍ كَانَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَهُ عنك، ويحول بينك وبنيه كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَعَبَّرَ بِالْفَضْلِ مَكَانَ الْخَيْرِ لِلْإِرْشَادِ إِلَى أَنَّهُ يَتَفَضَّلُ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا لا يستحقون بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ هُوَ مِنَ الْقَلْبِ، وَأَصْلُهُ وَإِنْ يُرِدْ بِكَ الْخَيْرَ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: وَفِي تَخْصِيصِ الْإِرَادَةِ بِجَانِبِ الْخَيْرِ، وَالْمَسِّ بِجَانِبِ الشَّرِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ يَصْدُرُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ بِالذَّاتِ، وَالشَّرَّ بِالْعَرَضِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ الْمَسَّ هُوَ أَمْرٌ وَرَاءَ الْإِرَادَةِ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا، وَالضَّمِيرُ فِي يُصِيبُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى فَضْلِهِ، أَيْ: يُصِيبُ بِفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلِيَّةٌ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ
بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَقَالَ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أَيِ: الْقُرْآنُ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أَيْ: مَنْفَعَةُ اهْتِدَائِهِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَضَرَرُ كُفْرِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا غَرَضٌ يَعُودُ إِلَيْهِ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أَيْ:
بِحَفِيظٍ يَحْفَظُ أُمُورَكُمْ وَتُوكَلُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَّبِعَ ما أوحاه إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي يُشَرِّعُهَا اللَّهُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ، وَمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مَشَاقِّ التَّبْلِيغِ، وَمَا يُعَانِيهِ مِنْ تَلَوُّنِ أَخْلَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَتَعَجْرُفِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الصَّبْرَ مُمْتَدًّا إِلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أَيْ: يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِهِمْ بِالنَّارِ وَهُمْ يشاهدونه صلى الله عليه وسلم، هو وأمته، والمتبعون له، المؤمنون به، والعاملون بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، الْمُنْتَهُونَ عَمَّا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، يَتَقَلَّبُونَ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَنْفَدُ، وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى أَدْنَى مَزَايَاهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ يَقُولُ: عِنْدَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ نَسَخَتْ قوله: حكمة بالغة فما تغني النّذر «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قَالَ: وَقَائِعُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَوَّفَهُمْ عَذَابَهُ وَنِقْمَتَهُ وَعُقُوبَتَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ نَجَّى اللَّهُ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَقَالَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يَقُولُ: بِعَافِيَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ اكْتَفَيْتُ بِهِنَّ عَنْ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ: أَوَّلُهُنَّ:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ «2» ، وَالثَّالِثَةُ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «3» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ قَالَ: هُوَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ قَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ، أمره بجهادهم والغلظة عليهم.
(1) . القمر: 5.
(2)
. فاطر: 2.
(3)
. هود: 6.