الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى البدع، ويتظهرون بِذَلِكَ غَيْرَ خَائِفِينَ وَلَا وَجِلِينَ، وَالزَّنَادِقَةُ قَدْ أَلْجَمْتُهُمْ سُيُوفُ الْإِسْلَامِ وَتَحَامَاهُمْ أَهْلُهُ، وَقَدْ يُنْفَقُ كَيْدُهُمْ وَيَتِمُّ بَاطِلُهُمْ وَكُفْرُهُمْ نَادِرًا عَلَى ضَعِيفٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَكَتُّمٍ وَتَحَرُّزٍ وَخِيفَةٍ وَوَجِلٍ، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَقَطْعِ التَّطَرُّقِ إِلَى الشُّبَهِ. وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ عُدُوُّا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ وَقَتَادَةَ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمْ بفتح العين وضم الدال وتشديد الْوَاوِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ: أَيْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ الْكُفَّارِ عَمَلَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَنْتَهُوا عَنْهَا، وَلَا قَبِلُوا مِنَ الْمُرْسَلِينَ مَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ أَيْ بَيِّنَةٌ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَيْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ أَيْ مَنْ ضَلَّ فَعَلَيْها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ دَارَسْتَ وَقَالَ: قَرَأْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ دَرَسْتَ قَالَ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: دَارَسْتَ خَاصَمْتَ، جَادَلْتَ، تَلَوْتَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: كُفَّ عَنْهُمْ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ، نَسَخَهُ الْقِتَالُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابن عباس في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا يقول الله تبارك وتعالى:
لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: قَالُوا يَا مُحَمَّدُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّكِ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أمه فيسبّ أمه» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 الى 113]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
(1) . النحل: 93.
(2)
. التوبة: 5.
قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَيِ الْكُفَّارُ مُطْلَقًا، أَوْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَجَهْدُ الْأَيْمَانِ: أَشَدُّهَا، أَيْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَشَدَّ أَيْمَانِهِمُ الَّتِي بَلَغَتْهَا قُدْرَتُهُمْ، وَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ، فَلِهَذَا أَقْسَمُوا بِهِ، وَانْتِصَابُ جَهْدٍ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَشَقَّةُ، وَبِضَمِّهَا الطَّاقَةُ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم آيَةً مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَرِحُونَهَا، وَأَقْسَمُوا لَئِنْ جَاءَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَيُؤْمِنُنَّ بِها وَلَيْسَ غَرَضُهُمُ الْإِيمَانَ، بَلْ مُعْظَمُ قَصْدِهِمُ التَّحَكُّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّلَاعُبُ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا وَغَيْرُهَا وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهَا أَنْزَلَهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَنْزِلَهَا لَمْ يَنْزِلْهَا. قَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنَّهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: الْمُخَاطَبُ بِهَذَا:
الْمُشْرِكُونَ: أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ، ثُمَّ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ:
الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ نَزَلَتِ الْآيَةُ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَنَّها إِذا جاءَتْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، قَالَ الْخَلِيلُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى لَعَلَّهَا، وَفِي التَّنْزِيلِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «1» أَيْ أَنَّهُ يَزَّكَّى. وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ: ائْتِ السُّوقَ أَنَّكَ تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا: أَيْ لَعَلَّكَ، ومنه قول عدي ابن زَيْدٍ:
أَعَاذِلُ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي
…
إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
أَيْ لَعَلَّ مَنِيَّتِي، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي
…
أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا
أَيْ لَعَلَّنِي، وَقَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
قُلْتُ لَشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لقائه
…
أنّ تغدّي اليوم من شوائه
أَيْ لَعَلِّي، وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
هَلْ أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَأَنْ
…
نَرَى الْعَرَصَاتِ أَوْ أَثَرَ الْخِيَامِ
أي لعلنا اه. وَقَدْ وَرَدَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا بِمَعْنَى لعل. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا: أَيِ الْآيَاتِ، إِذَا جَاءَتْ يُؤْمِنُونَ فَزِيدَتْ كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ «2» وفي
(1) . عبس: 3.
(2)
. الأنبياء: 95.
قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» وَضَعَّفَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ وَغَيْرُهُمَا زِيَادَةَ لَا وَقَالُوا: هُوَ غَلَطٌ وَخَطَأٌ.
وَذَكَرَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَوْ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ حَذَفَ هَذَا الْمُقَدَّرَ لِعِلْمِ السَّامِعِ. قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ قيل: والمعنى: نقلّب أَفْئِدَتِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى لَهَبِ النَّارِ وَحَرِّ الْجَمْرِ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا وَنَذَرُهُمْ فِي الدُّنْيَا:
أَيْ نُمْهِلُهُمْ وَلَا نُعَاقِبُهُمْ فَعَلَى هَذَا بَعْضُ الْآيَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَبَعْضُهَا فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لَوْ جَاءَتْهُمْ تِلْكَ الْآيَةُ كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، والتقدير: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ: أَيْ يَتَحَيَّرُونَ، وَالْكَافُ فِي كَما لَمْ يُؤْمِنُوا نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، ويَعْمَهُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ كَمَا اقْتَرَحُوهُ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ «2» ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ بَعْدَ إِحْيَائِنَا لَهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ صَادِقٌ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَآمِنُوا بِهِ، لَمْ يُؤْمِنُوا وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا سَأَلُوهُ مِنَ الْآيَاتِ قُبُلًا أَيْ كُفُلًا وَضِمْنًا بِمَا جِئْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ قُبُلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ قِبَلًا بِكَسْرِهَا: أَيْ مُقَابَلَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: قِبَلًا بِمَعْنَى نَاحِيَةٍ، كَمَا تَقُولُ: لِي قِبَلَ فُلَانٍ مَالٌ، فَقُبُلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَيْ: يَضْمَنُونَ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بِمَعْنَى قَبِيلٍ قَبِيلٍ أَيْ جَمَاعَةٍ جَمَاعَةٍ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: لَقِيتُ فُلَانًا قُبُلًا وَمُقَابَلَةً وَقِبَلًا كُلُّهُ وَاحِدٌ بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الضَّمُّ كَالْكَسْرِ وَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ. وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفْرَغٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ جَهْلًا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَرْكِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَى الصَّوَابِ. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ هَذَا الْكَلَامُ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَفْعِ مَا حَصَلَ مَعَهُ مِنَ الْحُزْنِ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، أَيْ مِثْلِ هَذَا الْجَعْلِ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا وَالْمَعْنَى: كَمَا ابْتَلَيْنَاكَ بِهَؤُلَاءِ فَقَدِ ابْتَلَيْنَا الْأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلِكَ بِقَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ.
فَجَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدُوًّا مِنَ كفار زمنهم، وشَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَدَلٌ مِنْ عَدُوًّا وَقِيلَ:
هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلْنَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ بِتَقْدِيمِ الْجِنِّ، وَالْمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ: الْمَرَدَةُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْأَصْلُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ: الشَّيَاطِينُ، وَجُمْلَةُ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِ الْعَدُوِّ، وَسُمِّيَ وَحْيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ خُفْيَةً بَيْنَهُمْ، وجعل تمويهم زخرف القول لتزيينهم إياه، والمزخرف: المزين، وزخارف الماء طرائقه، وغُرُوراً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَغُرُّونَهُمْ بِذَلِكَ غُرُورًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْغُرُورُ:
الْبَاطِلُ. قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا ذُكِرَ سَابِقًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ مِنَ
(1) . الأعراف: 12. [.....]
(2)
. الأنعام: 8.
الْكُفَّارِ فِي زَمَنِهِ وَزَمَنِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، أَيْ: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ عَدَمَ وُقُوعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا فَعَلُوهُ وَأَوْقَعُوهُ وَقِيلَ:
مَا فَعَلُوا الْإِيحَاءَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَذَرْهُمْ أَيِ اتْرُكْهُمْ، وهذا الأمر لتهديد للكفار كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» ، وَما يَفْتَرُونَ إِنْ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً فَالتَّقْدِيرُ: اتْرُكْهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً فَالتَّقْدِيرُ: اتْرُكْهُمْ وَالَّذِي يَفْتَرُونَهُ. قَوْلُهُ: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ اللَّامُ فِي لِتَصْغَى لَامُ كَيْ، فَتَكُونُ عِلَّةً كَقَوْلِهِ يُوحِي وَالتَّقْدِيرُ. يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لِيَغُرُّوهُمْ وَلِتَصْغَى وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُتَأَخِّرًا، أَيْ: لِتَصْغَى جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ لِلْأَمْرِ وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَامُ الْأَمْرِ جزمت الْفِعْلُ، وَالْإِصْغَاءُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ: صَغَوْتُ أَصْغُو صَغْوًا، وَصَغَيْتُ أُصْغِي وَيُقَالُ: صَغَيْتُ بِالْكَسْرِ وَيُقَالُ أَصْغَيْتُ الْإِنَاءَ: إِذَا أَمَلْتُهُ لِيَجْتَمِعَ مَا فِيهِ، وَأَصْلُهُ: الْمَيْلُ إِلَى الشَّيْءِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَيُقَالُ صَغَتِ النُّجُومُ: إِذَا مَالَتْ لِلْغُرُوبِ، وَأَصْغَتِ النَّاقَةُ: إِذَا أَمَالَتْ رَأْسَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُوَرِ جَانِحَةٌ
…
حَتَّى إِذَا ما استوى في غرزها تثب
وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ لِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، أَوْ لِمَا ذُكِرَ سَابِقًا مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ وَغَيْرِهِ: أَيْ أَوْحَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيَغُرُّوهُمْ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَلِيَرْضَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ مِنَ الْآثَامِ، وَالِاقْتِرَافُ:
الِاكْتِسَابُ يُقَالُ: خَرَجَ لِيَقْتَرِفَ لِأَهْلِهِ: أَيْ لِيَكْتَسِبَ لَهُمْ، وَقَارَفَ فُلَانٌ هَذَا الْأَمْرَ: إِذَا وَاقَعَهُ، وَقَرَفَهُ:
إِذَا رَمَاهُ بِالرِّيبَةِ، وَاقْتَرَفَ: كَذَبَ، وَأَصْلُهُ اقْتِطَاعُ قِطْعَةٍ مِنَ الشَّيْءِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي قُرَيْشٍ وَما يُشْعِرُكُمْ يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! تُخْبِرُنَا أَنَّ موسى كان معه عصا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّ ثَمُودَ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ» ؟ قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، قَالَ:«فَإِنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي» ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ ذَهَبًا فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَنُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ، فَقَالَ:«بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: يَجْهَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ قَالَ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَرُدَّتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا قَالَ:
مُعَايَنَةً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا أَيْ أَهْلُ الشَّقَاءِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَيْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا
(1) . المدثر: 11.