الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَتْرُكُ الطَّلَبَ لِرَبِّ الْأَرْبَابِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شيء، الخالق، الرزاق، الْمُعْطِي، الْمَانِعِ؟ وَحَسْبُكَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةً، فَإِنَّ هَذَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَخَاتَمُ الرُّسُلِ، يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لِعِبَادِهِ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ لغيره، وكيف يملكه غيره- من رُتْبَتُهُ دُونَ رُتْبَتِهِ وَمَنْزِلَتُهُ لَا تَبْلُغُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ- لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَهُ لِغَيْرِهِ، فَيَا عَجَبًا لِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَوَائِجِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عز وجل؟ كَيْفَ لَا يَتَيَقَّظُونَ لِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا يَتَنَبَّهُونَ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَعْنَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَدْلُولِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا اطِّلَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، بَلْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ، الرَّازِقُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَمُقَرِّبِينَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ، وَيُنَادُونَهُمْ تَارَةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَتَارَةً مَعَ ذِي الْجَلَالِ. وَكَفَاكَ مِنْ شَرِّ سَمَاعِهِ، وَاللَّهُ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُطَهِّرٌ شَرِيعَتَهُ مِنْ أَوَضَارِ الشرك وأدناس الكفر، ولقد توسّل الشَّيْطَانُ، أَخْزَاهُ اللَّهُ، بِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ إِلَى مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ وَيَنْثَلِجُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ كُفْرِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «1» إنا لله وإنا إليه راجعون- ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ حَدًّا مَحْدُودًا لَا يَتَجَاوَزُونَهُ فَلَا وَجْهَ لِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ فَقَالَ:
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَجَازَى كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِمَّنْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِمْ، أَوْ بَيْنَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، أَجَلًا مُعَيَّنًا وَوَقْتًا خَاصًّا يَحِلُّ بِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ عِنْدَ حُلُولِهِ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عَنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ ساعَةً أَيْ: شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَقْدِمُونَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا يَسْتَأْخِرُونَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ «2» وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ فَلَا نُعِيدُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَالَ: يَعْرِفُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ إِلَى جَنْبِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ الْآيَةَ، قَالَ: سُوءَ الْعَذَابِ فِي حَيَاتِكَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلُ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَفِي قَوْلِهِ:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قال: يوم القيامة.
[سورة يونس (10) : الآيات 50 الى 58]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
(1) . الكهف: 104.
(2)
. الحجر: 5. [.....]
قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ هَذَا مِنْهُ سُبْحَانَهُ تَزْيِيفٌ لِرَأْيِ الْكُفَّارِ فِي اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ بَعْدَ التَّزْيِيفِ الْأَوَّلِ، أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَياتاً أَيْ: وَقْتَ بَيَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْوَقْتُ الَّذِي يَبِيتُونَ فِيهِ، وَيَنَامُونَ وَيَغْفُلُونَ عَنِ التَّحَرُّزِ، وَالْبَيَاتُ: بِمَعْنَى التَّبْيِيتِ اسْمُ مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وهو منصب عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ: نَهَارًا، أَيْ: وَقْتَ الِاشْتِغَالِ بِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَالْكَسْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّهْيِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ «1» وَوَجْهُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِعْجَالِهِمْ: أَنَّ الْعَذَابَ مَكْرُوهٌ تَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَأْبَاهُ الطَّبَائِعُ، فَمَا الْمُقْتَضَى لِاسْتِعْجَالِهِمْ لَهُ؟ وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ جَوَابُ الشَّرْطِ، بِحَذْفِ الْفَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: تَنْدَمُوا عَلَى الِاسْتِعْجَالِ، أَوْ تَعْرِفُوا الْخَطَأَ مِنْكُمْ فِيهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعْتِرَاضًا، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ آمَنْتُمْ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِنَّمَا قَالَ: يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، وَلَمْ يَقُلْ يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ تَرْكَ الِاسْتِعْجَالِ، وَهُوَ الْإِجْرَامُ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُجْرِمِ أَنْ يَخَافَ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ إِجْرَامِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُهُ؟ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يستوهم أَمْرًا إِذَا طَلَبَهُ: مَاذَا تَجْنِي عَلَى نَفْسِكَ؟ وَحَكَى النَّحَّاسُ عَنِ الزَّجَّاجُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ إِنْ عَادَ إِلَى الْعَذَابِ كَانَ لَكَ فِي مَاذَا تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرُ مَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ.
وَالتَّقْدِيرُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَاذَا اسْمًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: مَا بَعْدَهُ، وَإِنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مَاذَا شَيْئًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيستعجل، وَالْمَعْنَى:
أَيُّ شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَدُخُولُ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فِي أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ عَلَى ثُمَّ كَدُخُولِهَا عَلَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَهِيَ لِإِنْكَارِ إِيمَانِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ، وَتَفْظِيعِ مَا فَعَلُوهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ فِي وَقْتِهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ وَالدَّفْعُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَجِيءَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي: دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِبْعَادِ، وَجِيءَ بِإِذَا مَعَ زِيَادَةِ مَا لِلتَّأْكِيدِ: دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ اسْتِجْهَالٍ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَبَعْدَ مَا وَقَعَ عَذَابُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَحَلَّ بِكُمْ سَخَطُهُ وَانْتِقَامُهُ، آمَنْتُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْإِيمَانُ شَيْئًا؟ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ ضَرًّا وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَّ هَاهُنَا هِيَ بِفَتْحِ الثَّاءِ فَتَكُونُ ظَرْفِيَّةً بِمَعْنَى هُنَاكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ قِيلَ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ: قِيلَ لَهُمْ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَذَابِ: آلْآنَ آمَنْتُمْ بِهِ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟ أَيْ: بِالْعَذَابِ، تَكْذِيبًا مِنْكُمْ وَاسْتِهْزَاءً، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ كَانَ عَلَى جهة التّكذيب
(1) . النحل: 1.
وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ: التَّوْبِيخُ لَهُمْ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ وَالْإِزْرَاءُ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقُرِئَ آلَانَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ اللَّامِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، قِيلَ: آلْآنَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُمْ أَيْ: قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ:
إِنَّ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ، عَارٍ عَنِ النَّفْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْعَاقِلُ لَا يَطْلُبُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ، أَيِ: الْعَذَابَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالَّتِي قَبْلَهَا قِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى الْخُصُوصِ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْعُمُومِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَالِاسْتِفْهَامُ:
لِلتَّقْرِيرِ، وَكَأَنَّهُ يُقَالُ لهم هذا القول عند اسْتِغَاثَتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَحُلُولِ النِّقْمَةِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْبَالِغَةِ، وَالْجَوَابَاتِ عَنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ. أَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا تَارَةً أُخْرَى عَنْ تَحَقُّقِ الْعَذَابِ، فَقَالَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي: يستخبرونك على جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ وَالْإِنْكَارِ: أَحَقٌّ مَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْهُمْ جَهْلٌ مَحْضٌ. وَظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ مَعَ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، فَصَنِيعُهُمْ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ صَنِيعُ مَنْ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَلَا مَا يُقَالُ لَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِخْبَارِ مِنْهُمْ: هُوَ عَنْ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ، وَارْتِفَاعُ حَقٌّ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ: هُوَ الضَّمِيرُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالضَّمِيرُ مُرْتَفِعٌ بِهِ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ فِي موضع نصب بيستنبؤنك، وَقُرِئَ الْحَقِّ هُوَ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ؟ قَوْلُهُ: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ جَوَابًا عَنِ اسْتِفْهَامِهِمُ الْخَارِجِ مُخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى مَا هُوَ مَقْصُودُهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أَيْ نَعَمْ وَرَبِّي إِنَّ مَا أَعِدُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَحَقٌّ ثَابِتٌ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَأْكِيدٌ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: الْقَسَمُ مَعَ دُخُولِ الْحِرَفِ الْخَاصِّ بِالْقَسَمِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ نَعَمْ الثَّانِي: دُخُولُ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ الثَّالِثُ: اللَّامُ فِي لَحَقٌّ الرَّابِعُ: اسْمِيَّةُ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّمَرُّدِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِأَشَدِّ تَوَعُّدٍ، وَرَهَّبَهُمْ بِأَعْظَمِ تَرْهِيبٍ، فَقَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ: فَائِتِينَ الْعَذَابَ بِالْهَرَبِ وَالتَّحَيُّلِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَالْمُكَابَرَةِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ، أَوْ: مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ خُلُوصِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ثُمَّ زَادَ فِي التَّأْكِيدِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ أَيْ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ الْمُتَّصِفَةِ بِأَنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ وَالذَّخَائِرِ الْفَائِقَةِ لَافْتَدَتْ بِهِ، أَيْ: جَعَلَتْهُ فِدْيَةً لَهَا مِنَ الْعَذَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم، وقيل: راجع إلى الأنفس المدلول
(1) . آل عمران: 91.
عَلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسٍ. وَمَعْنَى أَسَرُّوا: أَخْفَوْا، أَيْ: لَمْ يُظْهِرُوا النَّدَامَةَ بَلْ أَخْفَوْهَا لِمَا قَدْ شَاهَدُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ مِمَّا سَلَبَ عُقُولَهُمْ، وَذَهَبَ بِتَجَلُّدِهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِمْ- وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ- عِرْقٌ يَنْزِعُهُمْ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَقِيلَ أَسَرَّهَا الرُّؤَسَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ أَتْبَاعِهِمْ: خَوْفًا مِنْ تَوْبِيخِهِمْ لَهُمْ، لِكَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَوُقُوعُ هَذَا مِنْهُمْ كَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ فَهُمُ الذين قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا «1» وَقِيلَ:
مَعْنَى أَسَرُّوا: أَظْهَرُوا، وَقِيلَ: وَجَدُوا أَلَمَ الْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ النَّدَامَةَ لَا يُمْكِنُ إِظْهَارُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ كُثَيْرٍ:
فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى
…
بِرَدِّ جِمَالِ غَاضِرَةَ الْمُنَادِي
وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بَدَتْ فِي وُجُوهِهِمْ أَسِرَّةُ النَّدَامَةِ، وَهِيَ الِانْكِسَارُ، وَاحِدُهَا سِرَارٌ، وَجَمْعُهَا أَسَارِيرُ، وَالثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ وَقِيلَ: مَعْنَى: أَسَرُّوا النَّدامَةَ أخلصوها، لأن إخفاءها إخلاصها، ولَمَّا فِي قَوْلِهِ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ظَرْفٌ بِمَعْنَى: حين، منصوب بأسرّوا أَوْ حَرْفُ شَرْطٍ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ: قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، أَوْ بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، أَوْ بَيْنَ الظَّالِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمَظْلُومِينَ وَقِيلَ: مَعْنَى: الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ: إِنْزَالُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يظلمهم الله فيما فعله بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا، وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ كَمَالِ قدرته، لأنّ من ملك ما في السموات وَالْأَرْضِ تَصَرَّفَ بِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَغَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ أَكْثَرَ الْمَخْلُوقَاتِ، قِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ افْتِدَاءَ الْكُفَّارِ بِمَا فِي الْأَرْضِ لَوْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِافْتِدَاءِ بِهِ وَقِيلَ: لَمَّا أَقْسَمَ عَلَى حَقِّيَةِ مَا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَصْحَبَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْبُرْهَانِ الْبَيِّنِ: بِأَنَّ مَا فِي الْعَالَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مَلِكُهُ، يَتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي تَصْدِيرِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ: تَنْبِيهٌ لِلْغَافِلِينَ، وَإِيقَاظٌ لِلذَّاهِلِينَ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَا اسْتَعْجَلُوهُ مِنَ الْعَذَابِ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا، وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِحِرَفِ التَّنْبِيهِ: كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ الدلالة على تحقق مضمون الجملتين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَيِ: الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ فَيَعْمَلُونَ بِهِ، وَمَا فِيهِ فَسَادُهُمْ فَيَجْتَنِبُونَهُ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ يَهَبُ الْحَيَاةَ وَيَسْلُبُهَا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي: الْقُرْآنَ فِيهِ مَا يَتَّعِظُ بِهِ مَنْ قَرَأَهُ وَعَرَفَ مَعْنَاهُ، وَالْوَعْظُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالتَّرْغِيبِ أَوِ التَّرْهِيبِ، وَالْوَاعِظُ هُوَ كَالطَّبِيبِ يَنْهَى الْمَرِيضَ عَمَّا يضرّه، ومن فِي مِنْ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ جَاءَتْكُمْ، فَتَكُونُ ابْتِدَائِيَّةً، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، فَتَكُونُ تَبْعِيضِيَّةً وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ مِنَ الشُّكُوكِ الَّتِي تَعْتَرِي بَعْضَ الْمُرْتَابِينَ لِوُجُودِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى تَزْيِيفِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ لِمَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ، وَتَفَكَّرَ فِيهِ، وَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالرَّحْمَةُ: هِيَ مَا يُوجَدُ فِي الكتاب العزيز من الأمور
(1) . المؤمنون: 106.
الَّتِي يَرْحَمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَيَطْلُبُهَا مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ حَتَّى يَنَالَهَا، فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ الْخِطَابَ مَعَهُ بَعْدَ خِطَابِهِ لِلنَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ، فَقَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: هُوَ تَفَضُّلُهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْآجِلِ وَالْعَاجِلِ بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْحَصْرُ، وَالرَّحْمَةُ: رَحْمَتُهُ لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ: الْإِسْلَامُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتَهُ: الْقُرْآنُ. وَالْأَوْلَى: حَمْلُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا، ثُمَّ حُذِفَ هَذَا الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا عَلَيْهِ، قِيلَ: وَالْفَاءُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَلْيَخُصُّوا فَضْلَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ بِالْفَرَحِ.
وَتَكْرِيرُ الْبَاءِ فِي: بِرَحْمَتِهِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْفَرَحِ، وَالْفَرَحُ:
هُوَ اللَّذَّةُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ إِدْرَاكِ الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَرَحَ فِي مُوَاطِنَ، كَقَوْلِهِ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» وَجَوَّزَهُ فِي قَوْلِهِ: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «2» وَكَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ فِي بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ: بِقَوْلِهِ: جاءَتْكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ، أَيْ: فَبِمَجِيئِهَا فَلْيَفْرَحُوا، وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَيَعْقُوبُ: فَلْتَفْرَحُوا بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالضَّمِيرُ فِي هُوَ خَيْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، أَوْ: إِلَى الْمَجِيءِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ فَبِذلِكَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَقَدْ قُرِئَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ فِي يَجْمَعُونَ مُطَابَقَةً لِلْقِرَاءَةِ بِهَا فِي فَلْتَفْرَحُوا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ لَامَ الْأَمْرِ تُحْذَفُ مَعَ الْخِطَابِ إِلَّا فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فِي يَجْمَعُونَ، كَمَا قَرَءُوا فِي: فَلْيَفْرَحُوا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: بالفوقية في: يجمعون، والتحتية:
في: فلتفرحوا.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَوَصَفَ لَهُ الْخَمْرَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي رِجْسٍ شِفَاءً، إِنَّمَا الشِّفَاءُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَهُمَا شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَشِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شِفَاءً لِأَمْرَاضِكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَكِي صَدْرِي، فَقَالَ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ، يَقُولُ اللَّهُ: شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعَ حَلْقِهِ قَالَ: «عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّاءِ، يَعْنِي: الْفَوْقِيَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قَالَ: بِفَضْلِ الله: القرآن، وبرحمته: أن
(1) . القصص: 76.
(2)
. آل عمران: 170.