الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ خَبَرٌ ثَانٍ لِ أُولئِكَ أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدر، وَمَغْفِرَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى دَرَجَاتٍ، أَيْ: مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يُكْرِمُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ وَاسِعِ فَضْلِهِ وَفَائِضِ جُودِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قَالَ: فَرَقَتْ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: الْمُنَافِقُونَ لَا يَدْخُلُ قُلُوبَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَصِلُونَ إِذَا غَابُوا، وَلَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: إِنَّمَا الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ يَا شَهْرُ بْنَ حَوْشَبٍ، أَمَا تَجِدُ قَشْعْرِيرَةً؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَادْعُ عِنْدَهَا فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: قَالَ فُلَانٌ:
إِنِّي لَأَعْلَمُ مَتَى يُسْتَجَابُ لِي؟ قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ؟ قَالَ: إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدِي، وَوَجِلَ قَلْبِي، وَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَذَلِكَ حِينَ يُسْتَجَابُ لِي. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا الْوَجَلُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ إِلَّا كَضَرْمَةِ السَّعَفَةِ، فَإِذَا وَجِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَدْعُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ، أَوْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ فَيُقَالُ لَهُ اتَّقِ الله فيجل قَلْبُهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: زادَتْهُمْ إِيماناً قَالَ: تَصْدِيقًا.
وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: زادَتْهُمْ إِيماناً قَالَ: خَشْيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يَقُولُ: لَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قَالَ: بَرِئُوا مِنَ الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ حَقًّا قَالَ: خَالِصًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ يَعْنِي: فَضَائِلَ وَرَحْمَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ قَالَ: أَعْمَالٌ رفيعة. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ قَالَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ فَوْقُ فَضْلَهُ عَلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ. وَلَا يَرَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ أَنَّهُ فُضِّلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَغْفِرَةٌ قَالَ: بِتَرْكِ الذُّنُوبِ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قَالَ:
الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ يَقُولُ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فهي الجنة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيِ: الْأَنْفَالُ ثَابِتَةٌ لَكَ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أَيْ: مِثْلَ إِخْرَاجِ رَبِّكَ، وَالْمَعْنَى: امْضِ لِأَمْرِكَ فِي الْغَنَائِمِ وَنَفِّلْ مَنْ شِئْتَ وَإِنْ كَرِهُوا، لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جُعِلَ لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِأَسِيرٍ شَيْئًا قَالَ:
بَقِيَ أَكْثَرُ النَّاسِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَمَوْضِعُ الْكَافِ نَصْبٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ قَسَمٌ، أَيْ: وَالَّذِي أَخْرَجَكَ، فَالْكَافُ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَمَا: بِمَعْنَى الَّذِي. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: الْمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وَقِيلَ: كَمَا أَخْرَجَكَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ أَيْ: هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ فِي الْآخِرَةِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ الْوَاجِبُ لَهُ، فَأَنْجَزَ وَعْدَكَ وَظَفَّرَكَ بَعَدُوِّكِ وَأَوْفَى لَكَ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَاخْتَارَهُ، وَقِيلَ: الْكَافُ فِي «كَمَا» كَافُ التَّشْبِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَاةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: كَمَا وَجَّهْتُكَ إِلَى أَعْدَائِي فَاسْتَضْعَفُوكَ، وَسَأَلْتَ مَدَدًا فَأَمْدَدْتُكَ، وَقَوَّيْتُكَ، وَأَزَحْتُ عِلَّتَكَ، فَخُذْهُمُ الْآنَ، فَعَاقِبْهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الْحَالُ كَحَالِ إِخْرَاجِكَ، يَعْنِي: أَنَّ حَالَهُمْ فِي كَرَاهَةِ مَا رَأَيْتَ مِنْ تَنْفِيلِ الْغُزَاةِ، مِثْلُ حَالِهِمْ فِي كَرَاهَةِ خُرُوجِكَ لِلْحَرْبِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وبالحق مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِخْرَاجًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَجُمْلَةُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَمَا أَخْرَجَكَ فِي حَالِ كَرَاهَتِهِمْ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَعَدَهُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا الْعِيرُ أَوِ النَّفِيرُ، رَغِبُوا فِي الْعِيرِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْقِتَالِ، كَمَا سيأتي بيانه، وجملة يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ وما: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، أَوْ مُسْتَأْنِفَةٌ، جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَمُجَادَلَتِهِمْ لِمَا نَدَبَهُمْ إِلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَفَاتَ الْعِيرَ، وَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ النَّفِيرِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ كَثِيرُ أُهْبَةٍ، لِذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: لَوْ أَخْبَرْتَنَا بِالْقِتَالِ لَأَخَذْنَا الْعُدَّةَ وَأَكْمَلْنَا الْأُهْبَةَ، وَمَعْنَى: فِي الْحَقِّ أي: في القتال بعد ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّكَ لَا تَأْمُرُ بِالشَّيْءِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَوْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِالظَّفَرِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَنَّ العير إذا فاتت ظفروا بالنفير، وبَعْدَ ظرف ليجادلونك، وما مصدرية، أي:
يجادلونك بعد ما تَبَيَّنَ الْحَقُّ لَهُمْ. قَوْلُهُ: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَكارِهُونَ أَيْ: حَالُ كَوْنِهِمْ فِي شِدَّةِ فَزَعِهِمْ مِنَ الْقِتَالِ يُشْبِهُونَ حَالَ مَنْ يُسَاقُ لِيُقْتَلُ، وَهُوَ مُشَاهِدٌ لِأَسْبَابِ قَتْلِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهَا، لَا يَشُكُّ فِيهَا. قوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الظَّرْفُ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَاذْكُرُوا وَقْتَ وَعَدَ اللَّهُ إِيَّاكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بذكر الْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، وَالطَّائِفَتَانِ: هُمَا الْعِيرُ والنّفير، وإحدى:
هو ثاني مفعولي يعد، وأَنَّها لَكُمْ بَدَلٌ مِنْهُ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لَكُمْ، وَأَنَّكُمْ تَغْلِبُونَهَا، وَتَغْنَمُونَ مِنْهَا، وَتَصْنَعُونَ بِهَا مَا شِئْتُمْ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَغَنِيمَةٍ، لَا يُطِيقُونَ لَكُمْ دَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: وَتَوَدُّونَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَعِدُكُمُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي أُمِرُوا بِذِكْرِ وَقْتِهَا أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ،
وَهِيَ طَائِفَةُ الْعِيرِ تَكُونُ لَكُمْ دُونَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، وَهِيَ طَائِفَةُ النَّفِيرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ غَيْرُ ذَاتِ الْحَدِّ. وَالشَّوْكَةُ: السِّلَاحُ، وَالشَّوْكَةُ: النَّبْتُ الَّذِي لَهُ حَدٌّ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ شَائِكُ السِّلَاحِ، أَيْ: حَدِيدُ السِّلَاحِ ثُمَّ يُقْلَبُ فَيُقَالُ شَاكِي السِّلَاحِ فَالشَّوْكَةُ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ وَاحِدَةِ الشَّوْكِ، وَالْمَعْنَى: وَتَوَدُّونَ أَنْ تَظْفَرُوا بِالطَّائِفَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا سِلَاحٌ، وَهِيَ طَائِفَةُ الْعِيرِ لِأَنَّهَا غَنِيمَةٌ صَافِيَةٌ عَنْ كَدَرِ الْقِتَالِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَنْ يَقُومُ بِالدَّفْعِ عَنْهَا. قَوْلُهُ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى تَوَدُّونَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرُوا بِذِكْرِ وَقْتِهِ، أَيْ: وَيُرِيدُ اللَّهُ غَيْرَ مَا تُرِيدُونَ، وَهُوَ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِإِظْهَارِهِ لِمَا قَضَاهُ من ظفركم بذات الشوكة.
وقتلكم لِصَنَادِيدِهِمْ، وَأَسْرِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَاغْتِنَامِ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي أَجَلَبُوا بِهَا عَلَيْكُمْ وَرَامُوا دَفْعَكُمْ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ: الْآيَاتُ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي مُحَارَبَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، وَوَعْدُكُمْ مِنْهُ بِالظَّفَرِ بِهَا وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ الدَّابِرُ: الْآخِرُ، وَقَطْعُهُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِئْصَالِ. وَالْمَعْنَى: وَيَسْتَأْصِلُهُمْ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، أَيْ: أَرَادَ ذَلِكَ، أَوْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِيُظْهِرَ الْحَقَّ وَيَرْفَعَهُ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَيَضَعَهُ، أَوِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلَ ذلك ليحق الحق، وقيل: متعلق بيقطع، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَكْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّ الْأُولَى لِبَيَانِ التَّفَاوُتِ فِيمَا بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ، وَهَذِهِ لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَالْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ، وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، وَإِحْقَاقُ الْحَقِّ: إِظْهَارُهُ، وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ: إِعْدَامُهُ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «1» وَمَفْعُولُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَلَوْ كَرِهُوا أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ، وَالْمُجْرِمُونَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَوْ جَمِيعُ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:«قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ عِيرَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ أَقْبَلَتْ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِيهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمُنَاهَا وَيُسَلِّمُنَا، فَخَرَجْنَا فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَعَادَّ، فَفَعَلْنَا فَإِذَا نَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَأَخْبَرْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِعِدَّتِنَا، فَسُّرَّ بِذَلِكَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْقَوْمِ، إِنَّمَا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ؟ فَقُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: لَا تَقُولُوا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «2» فَأَنْزَلَ اللَّهُ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ فَلَمَّا وَعَدَنَا اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْقَوْمُ وَإِمَّا الْعِيرُ، طَابَتْ أَنْفُسُنَا، ثُمَّ إِنَّا اجْتَمَعْنَا مَعَ الْقَوْمِ فَصَفَفْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ وَعْدَكَ، فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشِيرَ عَلَيْكَ- وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ- إِنِ اللَّهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تنشده وعده. فقال: يا بن رَوَاحَةَ! لَأَنْشُدَنَّ اللَّهَ وَعْدَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَانْهَزَمُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «3» فَقَتَلْنَا وَأَسَرْنَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَرَى أَنْ يَكُونَ لَكَ أَسْرَى فَإِنَّمَا نَحْنُ دَاعُونَ مُؤَلِّفُونَ، فَقُلْنَا: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّمَا يَحْمِلُ عُمَرُ عَلَى مَا قَالَ حَسَدٌ لنا، فنام
(1) . الأنبياء: 18.
(2)
. المائدة: 24.
(3)
. الأنفال: 17.