الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: بِدِرْعِكَ، وَكَانَ دِرْعُهُ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ يُلَاقِي فيها الحروب.
[سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 100]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعْنَى بَوَّأْنَا: أَسْكَنَّا، يُقَالُ بَوَّأْتُ زَيْدًا مَنْزِلًا: أَسْكَنْتُهُ فِيهِ، وَالْمُبَوَّأُ: اسْمُ مَكَانٍ أَوْ مَصْدَرٌ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الصِّدْقِ عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ قَاعِدَةُ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا مَدَحُوا شَيْئًا أَضَافُوهُ إِلَى الصِّدْقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْمَنْزِلُ الْمَحْمُودُ الْمُخْتَارُ، قِيلَ: هُوَ أَرْضُ مِصْرَ، وَقِيلَ: الْأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ، وَقِيلَ: الشَّامُ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيِ: الْمُسْتَلَذَّاتِ مِنَ الرِّزْقِ فَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَتَشَعَّبُوا فِيهِ شُعَبًا بعد ما كَانُوا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُخْتَلِفَةٍ حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ: لَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ الِاخْتِلَافُ في الدين إلا بعد ما جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بِقِرَاءَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَعِلْمِهِمْ بِأَحْكَامِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَهُوَ: الْقُرْآنُ النَّازِلُ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَلَفُوا فِي نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، وَآمَنَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَكَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُخْتَلِفِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هُمُ الْيَهُودُ بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَعَلِمُوا بِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: هُمُ الْيَهُودُ الْمُعَاصِرِينَ لمحمد صلى الله عليه وسلم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَالْمُحِقَّ بِعَمَلِهِ بِالْحَقِّ، وَالْمُبْطِلَ بِعَمَلِهِ بِالْبَاطِلِ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الشَّكُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: ضَمُّ الشَّيْءِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ شَكُّ الْجَوْهَرِ فِي الْعُقْدِ، وَالشَّاكُّ كَأَنَّهُ يَضُمُّ إِلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ شَيْئًا آخَرَ خِلَافَهُ فَيَتَرَدَّدُ وَيَتَحَيَّرُ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدُ: سَمِعْتُ الْإِمَامَيْنِ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ يَقُولَانِ: مَعْنَى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِ: فَإِنْ كُنْتَ في شك: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يَعْنِي: مُسْلِمِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ، وَقَدْ كَانَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ يَعْتَرِفُونَ لِلْيَهُودِ بِالْعِلْمِ وَيُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُرْشِدَ الشَّاكِّينَ فِيمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِنَّهُمْ سَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّ هَذَا رَسُولُهُ،
وَأَنَّ التَّوْرَاةَ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ نَاطِقَةٌ بِهِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ مَعَ حُسْنِهِ مُخَالَفَةٌ لِلظَّاهِرِ. وَقَالَ القتبيّ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرَ قَاطِعٍ بِتَكْذِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا بِتَصْدِيقِهِ، بَلْ كَانَ فِي شَكٍّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا غَيْرُهُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَلْحَقُهُ الشَّكُّ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ فَسَأَلْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ لَأَزَالُوا عَنْكَ الشَّكَّ. وَقِيلَ: الشَّكُّ هُوَ ضِيقُ الصَّدْرِ، أَيْ: إِنْ ضَاقَ صَدْرُكَ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ فَاصْبِرْ وَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ يُخْبِرُوكَ بِصَبْرِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: فَإِنْ وَقَعَ لَكَ شَكٌّ مَثَلًا، وَخَيَّلَ لَكَ الشَّيْطَانُ خَيَالًا مِنْهُ تَقْدِيرًا، فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ، فَإِنَّهُمْ سَيُخْبِرُونَكَ عَنْ نُبُوَّتِكَ وَمَا نَزَلَ عَلَيْكَ، وَيَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، وَقَدْ زَالَ فِيمَنْ أسلم منهم ما كان مقتضيا للكتم عِنْدَهُمْ. قَوْلُهُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ فِي هَذَا بَيَانُ مَا يَقْلَعُ الشَّكَّ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَذْهَبُ بِهِ بِجُمْلَتِهِ، وَهُوَ شَهَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّفَاسِيرِ فِي الشَّاكِّ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ بَاطِلٌ، وَلَا تَشُوبُهُ شُبْهَةٌ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ للنبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الِامْتِرَاءِ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْيَقِينِ وَانْتِفَاءِ الشَّكِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ لَهُ تَعْرِيضًا لِغَيْرِهِ كَمَا فِي مَوَاطِنَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ التَّعْرِيضُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ وَفِي هَذَا التَّعْرِيضِ مِنَ الزَّجْرِ لِلْمُمْتَرِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ مَا هُوَ أَبْلَغُ وَأَوْقَعُ مِنَ النَّهْيِ لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُنْهَى عَنْهُ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُمْكِنُ مِنْهُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ: بِأَنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَيَمُوتُونَ عَلَيْهِ، لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ وَقَعَ
مِنْهُمْ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِيمَانِ، كَمَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَقَّ مِنْهُ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَقَعُ مِنْهُمْ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ بِإِيمَانٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ. قَوْلُهُ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها لَوْلَا هَذِهِ: هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى هَلَّا، كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذلك ما فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَهَلَّا قَرْيَةٌ وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا قَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا آمَنَتْ إِيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ قَبْلَ مُعَايَنَةِ عَذَابِهِ، ولم يؤخره كَمَا أَخَّرَهُ فِرْعَوْنُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقُرَى لِأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا: وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا إِيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ أَوْ عِنْدَ أَوَّلِ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ وَقَدْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَقِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى الْهَالِكَةِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَوْجِيهِ الرَّفْعِ: يَكُونُ الْمَعْنَى غَيْرَ قَوْمِ يُونُسَ. وَلَكِنْ حُمِلَتْ «إِلَّا» عَلَيْهَا وَتَعَذَّرَ جَعْلُ الْإِعْرَابِ عَلَيْهَا، فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير،
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: خُصَّ قَوْمُ يُونُسَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ بِأَنْ تِيبَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْعَذَابُ، وَإِنَّمَا رَأَوُا الْعَلَامَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعَذَابِ، وَلَوْ رَأَوْا عَيْنَ الْعَذَابِ لَمَا نَفَعَهُمُ الْإِيمَانُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ. وَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْخِزْيِ: الَّذِي كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ يُونُسُ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَوْهُ، أَوِ الَّذِي قَدْ رَأَوْا عَلَامَاتِهِ دُونَ عَيْنِهِ وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أَيْ: بَعْدَ كَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى حِينٍ مَعْلُومٍ قَدَّرَهُ لَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ الْإِيمَانَ وَضِدَّهُ كِلَاهُمَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَقَالَ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ أَحَدٌ جَمِيعاً مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ لَا يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ وَيَخْتَلِفُونَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَانْتِصَابُ «جَمِيعاً» عَلَى الْحَالِ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: جَاءَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعًا، بَعْدَ كُلُّهُمْ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ «1» ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ جَمِيعِ النَّاسِ أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ الْجَارِيَةَ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِكَ يا محمد! ولا داخل تَحْتَ قُدْرَتِكَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَدَفْعٌ لِمَا يَضِيقُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ طَلَبِ صَلَاحِ الْكُلِّ، الَّذِي لَوْ كَانَ، لَمْ يَكُنْ صَلَاحًا مُحَقَّقًا بَلْ يَكُونُ إِلَى الْفَسَادِ أَقْرَبَ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: مَا صَحَّ وَمَا اسْتَقَامَ لِنَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَيْ: بِتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ لِذَلِكَ، فَلَا يَقَعُ غَيْرُ مَا يَشَاؤُهُ كَائِنًا مَا كَانَ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ أَيِ: الْعَذَابَ، أَوِ الْكُفْرَ، أَوِ الْخِذْلَانَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ. وَفِي الرِّجْسِ لُغَتَانِ: ضَمُّ الرَّاءِ، وَكَسْرُهَا، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ لَا يَعْقِلُونَ:
هم الكفار الذي لَا يَتَعَقَّلُونَ حُجَجَ اللَّهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي آيَاتِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فِيمَا نَصَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ قَالَ: بَوَّأَهُمُ اللَّهُ الشَّامَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن الضَّحَّاكِ قَالَ: مَنَازِلَ صِدْقٍ: مِصْرَ وَالشَّامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ قَالَ: الْعِلْمُ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَأَمْرُهُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّصَارَى اخْتَلَفُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَطُولُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الْآيَةَ، قَالَ: لَمْ يَشُكَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَسْأَلْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ. وَهُوَ مرسل. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قَالَ: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَآمَنُوا بِهِ، يَقُولُ: سَلْهُمْ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بِأَنَّكَ مكتوب عندهم. وأخرج عبد
(1) . النحل: 51.