الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِذَا مَرُّوا بِزُمْرَةٍ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ قَالُوا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِزُمْرَةٍ يُذْهَبُ بِهَا إِلَى النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا قَالَ: فِي النَّارِ. يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ قَالَ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّكَبُّرِ: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 54]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
قَوْلُهُ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ الْإِفَاضَةُ: التَّوْسِعَةُ يُقَالُ: أَفَاضَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، طَلَبُوا مِنْهُمْ أَنْ يُوَاسُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ أَوِ الْأَطْعِمَةِ، فَأَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما أَيِ: الْمَاءَ وَمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْكافِرِينَ فَلَا نُوَاسِيكُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَقِيلَ:
إِنَّ هَذَا النِّدَاءَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ الْجَنَّةَ، وَجُمْلَةُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةُ الْكَافِرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير اللهو واللعب والغرور. قَوْلُهُ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أَيْ نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا الْكَافُ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: نِسْيَانًا كَنِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا. قَوْلُهُ: وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا نَسُوا، أَيْ: كَمَا نَسُوا، وَكَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، أَيْ: يُنْكِرُونَهَا، وَاللَّامُ فِي وَلَقَدْ جِئْناهُمْ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ:
الْجِنْسُ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمُعَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ، وعَلى عِلْمٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَالِمِينَ حَالَ كَوْنِهِ هُدىً لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةً لَهُمْ. قال الكسائي والفراء: ويجوز هُدىً وَرَحْمَةً لَهُمْ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ هُدىً وَرَحْمَةً بِالْخَفْضِ عَلَى النَّعْتِ لِكِتَابٍ. قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ بِالْهَمْزِ مِنْ آلَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُخْفُونَ الْهَمْزَةَ. وَالنَّظَرُ: الِانْتِظَارُ، أَيْ: هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي يَؤُولُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ: جَزَاؤُهُ وَقِيلَ عَاقِبَتُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَيَوْمَ: ظَرْفٌ لِيَقُولَ، أَيْ: يَوْمَ
يَأْتِي تَأْوِيلُهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: تَرَكُوهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ تَأْوِيلُهُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْنَا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ اسْتِفْهَامٌ مِنْهُمْ، وَمَعْنَاهُ التَّمَنِّي فَيَشْفَعُوا لَنا مَنْصُوبٌ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ. قَوْلُهُ أَوْ نُرَدُّ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَوْ هَلْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نُرَدُّ: عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: هَلْ يَشْفَعُ لَنَا أَحَدٌ أَوْ نُرَدُّ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ بِنَصْبِهِمَا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ لَهُ: لَا تَبْكِ عَيْنُكَ، إِنَّمَا
…
نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا
وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِرَفْعِهِمَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: هَلْ لَنَا شُفَعَاءُ يُخَلِّصُونَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ هَلْ نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا فَنَعْمَلَ صَالِحًا غَيْرَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنَ الْمَعَاصِي قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: لن يَنْتَفِعُوا بِهَا فَكَانَتْ أَنْفُسُهُمْ بَلَاءً عَلَيْهِمْ وَمِحْنَةً، فَكَأَنَّهُمْ خَسِرُوهَا كَمَا يَخْسَرُ التَّاجِرُ رَأْسَ مَالِهِ وَقِيلَ: خَسِرُوا النَّعِيمَ وَحَظَّ الْأَنْفُسِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيِ: افْتِرَاؤُهُمْ أَوِ الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ بَطَلَ كَذِبُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ غَابَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لِلَّهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ وَلَا حَضَرَ مَعَهُمْ. قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ هَذَا نَوْعٌ مِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَجَلِيلِ قَدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِيجَادِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى الْعِبَادِ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ. وَأَصْلُ سِتَّةَ سِدْسَةُ أُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنْ أَحَدِ السِّينَيْنِ وَأُدْغِمَ فِيهَا الدَّالُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّصْغِيرِ: سُدَيْسَةُ، وفي الجمع: أسداس، وتقول: جاء فلان سَادِسًا. وَالْيَوْمُ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، قِيلَ: هَذِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتُّ أَوَّلُهَا: الْأَحَدُ، وَآخِرُهَا: الْجُمُعَةُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهَا فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، يَقُولُ لَهَا كَوْنِي فَتَكُونُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ عِبَادَهُ الرِّفْقَ وَالتَّأَنِّيَ فِي الْأُمُورِ، أَوْ خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أيام لكون شَيْءٍ عِنْدَهُ أَجَلًا، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ «1» . قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَأَحَقُّهَا وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ:
مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: هُوَ الْعُلُوُّ وَالِاسْتِقْرَارُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيِ: اسْتَقَرَّ، وَاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ: صَعِدَ، وَاسْتَوَى، أَيِ: اسْتَوْلَى وَظَهَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَاسْتَوَى الرجل، أي: انتهى شبابه، واستوى، أي: اتّسق وَاعْتَدَلَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ مَعْنَى (استوى) هنا: علا، ومثله قول الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة
…
وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
أَيْ عَلَا وَارْتَفَعَ. وَالْعَرْشُ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ سَرِيرُ الْمَلِكِ. وَيُطْلَقُ الْعَرْشُ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ مِنْهَا عَرْشُ
(1) . ق: 38.
الْبَيْتِ: سَقْفُهُ، وَعَرْشُ الْبِئْرِ: طَيُّهَا بِالْخَشَبِ، وَعَرْشُ السِّمَاكِ: أَرْبَعَةُ كَوَاكِبَ صِغَارٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ وَالْعِزِّ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وقد ثلّ عرشها
…
وذبيان إذ زلّت بأقدامها النَّعْلُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتُ عُرُوشُهُمْ
…
بعتيبة بن الحرث بْنِ شِهَابِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
رَأَوْا عَرْشِي تَثَلَّمَ جَانِبَاهُ
…
فَلَمَّا أَنْ تَثَلَّمَ أَفْرَدُونِي
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ صِفَةُ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَإِحَاطَتِهِ بالسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قَوْلُهُ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أَيْ: يَجْعَلُ اللَّيْلَ كَالْغِشَاءِ لِلنَّهَارِ فَيُغَطِّي بِظُلْمَتِهِ ضِيَاءَهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُغَشِّي بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: أَغْشَى يُغْشِي، وَغَشَّى يُغَشِّي، وَالتَّغْشِيَةُ فِي الْأَصْلِ: إِلْبَاسُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُغْشِي اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ اكْتِفَاءً بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» . وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّيْلِ، وَمَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مُغْشِيًا اللَّيْلَ النَّهَارَ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ اللَّيْلِ طَالِبًا لِلنَّهَارِ طَلَبًا حَثِيثًا لَا يَفْتُرُ عَنْهُ بِحَالٍ، وَحَثِيثًا صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَطْلُبُهُ طَلَبًا حَثِيثًا أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَطْلُبُ. وَالْحَثُّ:
الِاسْتِعْجَالُ وَالسُّرْعَةُ، يُقَالُ: وَلَّى حَثِيثًا، أَيْ: مُسْرِعًا. قَوْلُهُ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قال الأخفش: معطوف على السموات، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِهَا كُلِّهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَاتٍ، وَعَلَى الثَّانِي: الْإِخْبَارُ عَنْ هَذِهِ بِالتَّسْخِيرِ.
قَوْلُهُ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُمَا لَهُ، وَالْخَلْقُ: الْمَخْلُوقُ، وَالْأَمْرُ: كَلَامُهُ، وَهُوَ كُنْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» . أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، أَوِ التَّصَرُّفُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ سبحانه في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير، ثم ذكره اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَتَسْخِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَأَنَّ لَهُ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ. قَالَ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ: كَثُرَتْ بَرَكَتُهُ وَاتَّسَعَتْ، وَمِنْهُ بُورِكَ الشَّيْءُ وَبُورِكَ فِيهِ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي تَبارَكَ مَعْنَاهُ: تَعَالَى وَتَعَاظَمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي الْفَاتِحَةِ مُسْتَكْمَلًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الآية قَالَ: يُنَادِي الرَّجُلُ أَخَاهُ فَيَقُولُ: يَا أَخِي أَغِثْنِي فَإِنِّي قَدِ احْتَرَقْتُ، فَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ: أَجِبْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قوله أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال:
(1) . النحل: 81.
(2)
. النحل: 40. [.....]
مِنَ الطَّعَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْتَسْقُونَهُمْ وَيَسْتَطْعِمُونَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ قَالَ: طَعَامُ الْجَنَّةِ وَشَرَابُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا يَقُولُ: نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ كَمَا تَرَكُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ قَالَ: نُؤَخِّرُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ قَالَ: عَاقِبَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ جَزَاؤُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ قَالَ: مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قَالَ: كُلُّ يَوْمٍ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ فِي قَوْلِهِ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ، والجحود به كُفْرٌ. وَأَخْرَجَ اللَّالْكَائِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟ فَقَالَ:
الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْعِشْرِينَ آيَةً فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَنْ يَعْصِمَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ، وَمِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، وَمِنْ كل سبع ضار، ومن كل لص عاد: آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَثَلَاثَ آيَاتٍ مِنَ الْأَعْرَافِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «1» وعشرا من أوّل الصافات، وثلاث آيات من الرحمن. أولها يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «2» وخاتمة الحشر. وأخرج أبو الشيخ بن عُبَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْزُوقٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ عِنْدَ نَوْمِهِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَةَ، بَسَطَ عَلَيْهِ مَلَكٌ جَنَاحَهُ حتى يصبح وقد عوفي مِنَ السَّرَقِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ ابن قَيْسٍ صَاحِبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: مَرِضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ زُمْرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعُودُونَهُ، فَقَرَأَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَقَدْ أَصْمَتَ الرَّجُلُ فَتَحَرَّكَ ثُمَّ اسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ سَجَدَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي سَجَدَ فِيهَا، قَالَ لَهُ أَهْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَاكَ. قَالَ: بُعِثَ إِلَى نَفْسِي مَلَكٌ يَتَوَفَّاهَا، فَلَمَّا قَرَأَ صَاحِبُكُمُ الْآيَةَ الَّتِي قَرَأَ سَجَدَ الْمَلَكُ وَسَجَدْتُ بِسُجُودِهِ، فَهَذَا حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ مَالَ فَقَضَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قَالَ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ فَيَذْهَبُ بِضَوْئِهِ وَيَطْلُبُهُ سَرِيعًا حَتَّى يُدْرِكَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَلْبَسُ اللَّيْلُ النَّهَارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَثِيثاً قَالَ: سَرِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قَالَ: الْخَلْقُ:
مَا دُونَ الْعَرْشِ، وَالْأَمْرُ: مَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: الخلق هو المخلوق، والأمر هو الكلام.
(1) . الآيات: 54- 56.
(2)
. الآيات: 33- 35.