الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِيهِ الْآنَ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَهْلِنَا وَقِيلَ: إِنَّ الْأَذَى مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَبْضُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَجُمْلَةُ قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَعَدَهُمْ بِإِهْلَاكِ اللَّهِ لِعَدُوِّهِمْ، وَهُوَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ. قَوْلُهُ: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا رَمَزَ إِلَيْهِ سَابِقًا مِنْ أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ.
وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ، وَمَلَكُوا مِصْرَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَفَتَحُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بِالْغَرَقِ وَأَنْجَاهُمْ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيُجَازِيكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قوله: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ إِذِ الْتَقَيْتُمَا لِتَظَاهَرَا، فَتُخْرِجَا مِنْهَا أَهْلَهَا لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ: فَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَهُمْ كَمَا قَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ فِرْعَوْنُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ قَالَ: يَدًا مِنْ هَاهُنَا وَرِجْلًا مِنْ هَاهُنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا
قَالَ: مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّاكَ وَمِنْ بَعْدِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى كَانَ فِرْعَوْنُ يُكَلِّفُنَا اللَّبِنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنَا، فَلَمَّا جِئْتَ كَلَّفَنَا اللَّبِنَ مَعَ التِّبْنِ أَيْضًا، فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ! أَهْلِكْ فِرْعَوْنَ، حَتَّى مَتَى تُبْقِيهِ؟
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا الذَّنْبَ الَّذِي أُهْلَكَهُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ:
حَزَا «1» لِعَدُوِّ اللَّهِ حَازٍ أَنَّهُ يُولَدُ فِي الْعَامِ غُلَامٌ يَسْلِبُ مُلْكَكَ، قَالَ: فَتَتَبَّعَ أَوْلَادَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بِذَبْحِ الذَّكَرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ ذبحهم أيضا بعد ما جَاءَهُمْ مُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: إن بناء- أَهْلَ الْبَيْتِ- يُفْتَحُ وَيُخْتَمُ، وَلَا بُدَّ أَنْ تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكونوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وَيَنْبَغِيَ أَنْ يُنْظَرَ فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا فِي بَنِي هَاشِمٍ وَاقِعَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْحَاكِيَةِ لِمَا جَرَى بَيْنَ موسى وفرعون.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 136]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134)
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
(1) . قال في القاموس: حزا: تكهن.
الْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ هُنَا: قَوْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِالسِّنِينَ: الْجَدْبُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، يَقُولُونَ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ: أَيْ جَدَبُ سَنَةٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ يُعْرِبُونَ السِّنِينَ إِعْرَابَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُعْرِبُهُ إِعْرَابَ الْمُفْرَدِ وَيُجْرِي الْحَرَكَاتِ عَلَى النُّونِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي
…
كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ
بِكَسْرِ النُّونِ مِنَ السِّنِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْبَيْتَ بِفَتْحِ النُّونِ.
أَقُولُ: قَدْ وَرَدَ مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَاذَا تَزْدَرِي الْأَقْوَامُ مِنِّي
…
وَقَدْ جاوزت حدّ الأربعين
وبعده:
أخو خمسين مجتمع أشدّي
…
ونجّدني مداورة الشّؤون
فَإِنَّ الْأَبْيَاتَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مَكْسُورَةٌ. وَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطُلَّاعِ الثَّنَايَا
…
مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي
وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَقَمْتُ عِنْدَهُ سِنِينًا، مَصْرُوفًا، قَالَ: وَبَنُو تَمِيمٍ لَا يَصْرِفُونَهُ، وَيُقَالُ أَسْنَتَ الْقَوْمُ: أَيْ أَجْدَبُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى:
.....
وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ «1»
وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بِسَبَبِ عَدَمِ نُزُولِ الْمَطَرِ وَكَثْرَةِ الْعَاهَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَيَتَّعِظُونَ وَيَرْجِعُونَ عَنْ غِوَايَتِهِمْ. قَوْلُهُ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ أَيِ: الْخَصْلَةُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْخِصْبِ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ وَصَلَاحِ الثَّمَرَاتِ وَرَخَاءِ الْأَسْعَارِ قالُوا لَنا هذِهِ أَيْ: أَعْطَيْنَاهَا بِاسْتِحْقَاقٍ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِنَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ: خَصْلَةٌ سَيِّئَةٌ مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ وَكَثْرَةِ الْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْبَلَاءِ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَيْ: يَتَشَاءَمُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالْأَصْلُ يَتَطَيَّرُوا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطاء. وقرأ طلحة تطيروا عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَطَيَّرُ بِأَشْيَاءَ مِنَ الطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْ تَشَاءَمَ بِشَيْءٍ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «2» قيل:
(1) . وصدره: عمرو العلا هشم الثّريد لقومه.
(2)
. النساء: 78.
وَوَجْهُ تَعْرِيفِ الْحَسَنَةِ أَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، وَوَجْهُ تَنْكِيرِ السَّيِّئَةِ نُدْرَةُ وُقُوعِهَا. قَوْلُهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: سَبَبُ خَيْرِهِمْ وَشَرِّهِمْ بجميع ما ينالهم من خصب وقحط مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِسَبَبِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى نَمَطِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ وَبِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِالطَّائِرِ عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الَّذِي يَجْرِي بِقَدَرِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهَذَا بَلْ يَنْسِبُونَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ طَيْرُهُمْ قَوْلُهُ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ مَهْمَا «مَا» الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ عَلَيْهِ «مَا» الَّتِي لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا تُزَادُ فِي سَائِرِ الْحُرُوفِ مِثْلَ:
حَيْثُمَا وَأَيْنَمَا وَكَيْفَمَا وَمَتَى مَا، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ الْمِثْلَيْنِ فَأَبْدَلُوا أَلِفَ الْأُولَى هَاءً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصْلُهُ مَهْ أَيِ: اكْفُفْ مَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ آيَةٍ، وَزِيدَتْ عَلَيْهَا «مَا» الشَّرْطِيَّةُ وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ يُجَازِي بِهَا، وَمَحَلُّ مَهْمَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ما بعدها، ومن آيَةٍ: لِبَيَانِ مَهْمَا، وَسَمَّوْهَا آيَةَ اسْتِهْزَاءٍ بِمُوسَى كَمَا يُفِيدُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ لِتَسْحَرَنا بِها أَيْ: لِتَصْرِفَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ بِسِحْرِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَهْمَا، وَالضَّمِيرُ فِي بِهَا عَائِدٌ إِلَى آيَةٍ وَقِيلَ: إِنَّهُمَا جَمِيعًا عَائِدَانِ إِلَى مَهْمَا، وَتَذْكِيرُ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَتَأْنِيثُ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ: فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُصَدِّقِينَ، أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ من الآيات التي هي زَعْمِهِمْ مِنَ السِّحْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ مِنَ اللَّهِ عز وجل الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: وَاحِدُهُ طُوفَانَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، كَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا وَاحِدَ لَهُ، وَقِيلَ: الطُّوفَانُ:
الْمَوْتُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الطُّوفَانُ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ مُهْلِكًا مِنْ مَوْتٍ أَوْ سَيْلٍ، أَيْ: مَا يُطِيفُ بِهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ وَالْجَرادَ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ لِأَكْلِ زُرُوعِهِمْ فَأَكَلَهَا وَالْقُمَّلَ قِيلَ: هِيَ الدَّبَّاءُ وَالدَّبَّاءُ: الْجَرَادُ قَبْلَ أَنْ تَطِيرَ، وَقِيلَ: هِيَ السُّوسُ، وَقِيلَ: الْبَرَاغِيثُ، وَقِيلَ: دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ، وَقِيلَ:
ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ، وَقِيلَ: الْجُعْلَانِ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْقَمْلَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً. وَقَدْ فَسَّرَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ «الْقُمَّلَ» بِالْقَمْلِ، وَالضَّفادِعَ جَمْعُ ضُفْدَعٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَاءِ وَالدَّمَ رُوِيَ أَنَّهُ سَالَ النِّيلُ عَلَيْهِمْ دَمًا، وَقِيلَ: هُوَ الرُّعَافُ. قَوْلُهُ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أَيْ: مُبَيَّنَاتٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَ كَوْنِهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ظَاهِرَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا أَيْ: تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى حَقٍّ وَلَا يَنْزِعُونَ عَنْ بَاطِلٍ، قَوْلُهُ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أَيِ: الْعَذَابُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقُرِئَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الرِّجْزُ طَاعُونًا مَاتَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سبعون ألفا قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أَيْ: بِمَا اسْتَوْدَعَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ بِمَا اخْتَصَّكَ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ أَوْ بِمَا عَهِدَ إِلَيْكَ أَنْ تَدْعُوَ بِهِ فَيُجِيبُكَ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِادْعُ، عَلَى مَعْنَى: أَسْعِفْنَا إِلَى مَا نَطْلُبُ مِنَ الدُّعَاءِ، بِحَقِّ مَا عِنْدَكَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ، أَوِ ادْعُ لَنَا مُتَوَسِّلًا إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ عِنْدَكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ لَنُؤْمِنَنَّ أَيْ: أَقْسَمْنَا بِعَهْدِ
اللَّهِ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ على أن جواب الشرط سدّ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَعَلَى أَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ لِلْقَسَمِ تَكُونُ اللَّامُ فِي لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ جواب قسم محذوف، ولَنُؤْمِنَنَّ جَوَابُ الشَّرْطِ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَنُؤْمِنَنَّ، وَقَدْ كَانُوا حَابِسِينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ يَمْتَهِنُونَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ فَوَعَدُوهُ بِإِرْسَالِهِمْ مَعَهُ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أَيْ: رَفَعْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ عِنْدَ أَنْ رَجَعُوا إِلَى مُوسَى وسألوه ما سَأَلُوهُ، لَكِنْ لَا رَفْعًا مُطْلَقًا، بَلْ رَفْعًا مُقَيَّدًا بِغَايَةٍ هِيَ الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لِإِهْلَاكِهِمْ بِالْغَرَقِ، وَجَوَابُ لَمَّا إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أَيْ: يَنْقُضُونَ مَا عَقَدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا: هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، أي: فاجؤوا النَّكْثَ وَبَادَرُوهُ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أَيْ: أَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ لَمَّا نَكَثُوا بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أَيْ: فِي الْبَحْرِ، قِيلَ:
هُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ لُجَّتُهُ وَأَوْسَطُهُ، وَجُمْلَةُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا تَعْلِيلٌ لِلْإِغْرَاقِ وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَذَّبُوا، أَيْ: كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ النِّقْمَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِانْتَقَمْنَا، أَوْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا بَلْ كَذَّبُوا بِهَا وَكَانُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْغَافِلِينَ عَنْهَا، وَالثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ تَعْلِيلٌ لِلْإِغْرَاقِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ قَالَ: السِّنِينُ الْجُوعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السِّنِينُ: الْجَوَائِحُ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ دُونَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَخَذَ اللَّهُ آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ يَبِسَ كُلُّ شَيْءٍ لَهُمْ، وَذَهَبَتْ مَوَاشِيهِمْ حَتَّى يَبِسَ نِيلُ مِصْرَ، وَاجْتَمَعُوا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ كَمَا تَزْعُمُ فَائْتِنَا فِي نِيلِ مِصْرَ بِمَاءٍ، قَالَ: غُدْوَةً يُصَبِّحُكُمُ الْمَاءُ فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ صَنَعْتُ إِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى أَنْ أُجْرِيَ فِي نِيلِ مِصْرَ مَاءً غُدْوَةً كَذَّبُونِي؟ فَلَمَّا كَانَ جَوْفُ اللَّيْلِ قَامَ فَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ مَدْرَعَةَ صُوفٍ ثُمَّ خَرَجَ حَافِيًا حَتَّى أَتَى نِيلَ مِصْرَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَمْلَأَ نِيلَ مِصْرَ مَاءً فَامْلَأْهُ مَاءً، فَمَا عَلِمَ إِلَّا بِجَزْرِ الْمَاءِ يُقْبِلُ، فَخَرَجَ وَأَقْبَلَ النِّيلُ يَزُخُّ بِالْمَاءِ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْهَلَكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالَ: الْعَافِيَةُ وَالرَّخَاءُ قالُوا لَنا هذِهِ نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قَالَ: بَلَاءٌ وَعُقُوبَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى قَالَ: يَتَشَاءَمُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ: الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الطُّوفَانُ الْمَوْتُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ حَدِيثٌ غريب. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطُّوفَانُ الْغَرَقُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الطُّوفَانُ الْمَوْتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطُّوفَانُ: مُطِرُوا دَائِمًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَالْقُمَّلُ: الْجَرَادُ الَّذِي لَهُ أَجْنِحَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الطُّوفَانُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ رَبِّكَ، ثُمَّ قَرَأَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابن جرير وابن المنذر وابن
(1) . القلم: 19.