الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ يَقُولُ:
سَبَقَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: صَدَقَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى قَالَ:
الْأَوْثَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي الْآيَةَ، قَالَ: أَمَرَهُ بِهَذَا، ثُمَّ نَسَخَهُ، فَأَمَرَهُ بجهادهم.
[سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 49]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَاّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَخْ، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا أَنَّ فِي أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَنْ بَلَغَتْ حَالُهُ فِي النُّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَهِيَ: أَنَّهُمْ يستمعون إلى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَ الشَّرَائِعَ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَدَمِ حُصُولِ أَثَرِ السَّمَاعِ، وَهُوَ: حُصُولُ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَسْمَعُونَهُ وَلِهَذَا قَالَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ يَعْنِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ وَإِنِ اسْتَمَعُوا فِي الظَّاهِرِ فَهُمْ صُمٌّ، وَالصَّمَمُ مَانِعٌ مِنْ سَمَاعِهِمْ، فَكَيْفَ تَطْمَعُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ حُصُولِ الْمَانِعِ؟ وَهُوَ الصَّمَمُ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ؟ فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَصَمَّ غَيْرَ عَاقِلٍ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا وَلَا يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ. وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَمِعُونَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَأَفْرَدَهُ فِي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِهِ. قِيلَ: وَالنُّكْتَةُ: كَثْرَةُ الْمُسْتَمِعِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاظِرِينَ، لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مِنَ المقابلة، وَانْتِفَاءِ الْحَائِلِ، وَانْفِصَالِ الشُّعَاعِ، وَالنُّورِ الْمُوَافِقِ لِنُورِ الْبَصَرِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ: وَمِنْهُمْ نَاسٌ يَسْتَمِعُونَ، وَمِنْهُمْ بَعْضٌ يَنْظُرُ، وَالْهَمْزَتَانِ فِي أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ أَفَأَنْتَ تَهْدِي: لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ فَأَنْتَ تُسْمِعُهُمْ؟ أَيَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَأَنْتَ تَهْدِيهِمْ؟ وَالْكَلَامُ فِي:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ كَالْكَلَامِ فِي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَخْ. لِأَنَّ الْعَمَى مَانِعٌ فَكَيْفَ يُطْمَعُ مِنْ صَاحِبِهِ فِي النَّظَرِ؟ وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى فَقْدِ الْبَصَرِ فَقَدُ الْبَصِيرَةِ، لِأَنَّ الْأَعْمَى الَّذِي لَهُ فِي قَلْبِهِ بَصِيرَةٌ قَدْ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْحَدْسِ الصَّحِيحِ مَا يَفْهَمُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَهْمًا يَقُومُ مَقَامَ النَّظَرِ، وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ الْعَاقِلُ قَدْ يَتَحَدَّسُ تَحَدُّسًا يُفِيدُهُ بَعْضَ فَائِدَةٍ، بِخِلَافِ مَنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ عَمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِدْرَاكُ. وَكَذَا مَنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الصَّمَمِ وَذَهَابِ الْعَقْلِ فَقَدِ انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْهُدَى، وَجَوَابُ لَوْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِمَا مَا قَبْلَهُمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: تَسْلِيَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
فَإِنَّ الطَّبِيبَ إِذَا رَأَى مَرِيضًا لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ أَصْلًا أَعْرَضَ عَنْهُ وَاسْتَرَاحَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ذِكْرُ هَذَا عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ نَقْصٍ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَالْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ، بَلْ لِأَجْلِ مَا صَارَ فِي طَبَائِعِهِمْ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالْمُكَابَرَةِ لِلْحَقِّ، وَالْمُجَادَلَةِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ خَلَقَهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَشَاعِرِ مَا يُدْرِكُونَ بِهِ أَكْمَلَ إِدْرَاكٍ، وَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْحَوَاسِّ مَا يَصِلُونَ بِهِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، وَوَفَّرَ مَصَالِحَهُمُ الدُّنْيَوِيَّةَ عَلَيْهِمْ، وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ، فَعَلَى نَفْسِهَا بِرَاقِشُ تَجْنِي. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَلكِنَّ النَّاسَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرَفْعِ النَّاسِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِتَشْدِيدِهَا وَنَصْبِ النَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: زَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ: أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَالَتْ: وَلكِنَّ بِالْوَاوِ شَدَّدُوا النُّونَ، وَإِذَا حَذَفُوا الْوَاوَ خَفَّفُوهَا. قِيلَ: وَالنُّكْتَةُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ: زِيَادَةُ التَّعْيِينِ وَالتَّقْرِيرِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ: لِإِفَادَةِ القصر، أو بمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة. قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أَيْ: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُشْبِهِينَ مَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أَيْ: شَيْئًا قَلِيلًا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِاللُّبْثِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ، اسْتَقَلُّوا الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إِمَّا: لِأَنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَجَعَلُوا وَجُودَهَا كَالْعَدَمِ، أَوِ اسْتَقْصَرُوهَا لِلدَّهَشِ وَالْحَيْرَةِ، أَوْ: لِطُولِ وُقُوفِهِمْ فِي الْمَحْشَرِ، أَوْ: لِشِدَّةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ نَسُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُمْ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «1» وَجُمْلَةُ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَعْنَى: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَارَقُوا إِلَّا قَلِيلًا، وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ التَّعَارِيفُ بَيْنَهُمْ لِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُدْهِشَةِ لِلْعُقُولِ الْمُذْهِلَةِ لِلْأَفْهَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعَارُفَ هُوَ تَعَارُفُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْتَ أَضْلَلْتَنِي وَأَغْوَيْتَنِي، لَا تَعَارُفَ شَفَقَةٍ وَرَأْفَةٍ كَمَا قال تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «2» وَقَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «3» فَيُجْمَعُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَارُفِ: هُوَ تَعَارُفُ التَّوْبِيخِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ «4» ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَغَيْرِهِ: بِأَنَّ الْمَوَاقِفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْتَلِفَةٌ فَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ مَا لَا يَكُونُ فِي الْآخَرِ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ هَذَا تَسْجِيلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِالْخُسْرَانِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ: عِنْدَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِ الْمُهْتَدِينَ لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ طَلَبِهِمْ لِمَا يُنْجِيهِمْ وَيَنْفَعُهُمْ. قَوْلُهُ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَصْلُهُ: إِنْ نُرِكَ، وَمَا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَزِيدَتْ نُونُ التَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ حَصَلَتْ مِنَّا الْإِرَاءَةُ لَكَ بَعْضَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ: مِنْ إِظْهَارِ دِينِكَ فِي حَيَاتِكَ بِقَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَتَرَاهُ، أَوْ فَذَاكَ، وَجُمْلَةُ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَوْ لَا نُرِيَنَّكَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ، بَلْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ
(1) . الكهف: 19.
(2)
. المعارج: 10.
(3)
. المؤمنون: 101.
(4)
. سبأ: 31.
فَعِنْدَ ذَلِكَ نُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَنُرِيكَ عَذَابَهُمْ فِيهَا، وَجَوَابُ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ: مَحْذُوفٌ أَيْضًا، وَالتَّقْدِيرُ:
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ الْإِرَاءَةِ فَنَحْنُ نُرِيكَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ إِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْذِيبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْعُدُولُ إِلَى صِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، وَالْأَصْلُ: أَرَيْنَاكَ أَوْ تَوَفَّيْنَاكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إِرَاءَتَهُ صلى الله عليه وسلم لِبَعْضِ مَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ تَكُنْ قَدْ وَقَعَتْ كَالْوَفَاةِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: إِنْ لَمْ نَنْتَقِمْ مِنْهُمْ عَاجِلًا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ آجِلًا. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَتْلَهُمْ، وَأَسْرَهُمْ، وَذُلَّهُمْ، وَذَهَابَ عِزِّهِمْ، وَانْكِسَارَ سَوْرَةِ كِبْرِهِمْ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُوَاطِنِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ جَاءَ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيدِ مَعَ كَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شَهِيدًا عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الدَّارَيْنِ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ، أَوْ مَا يَحْصُلُ مِنْ إِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ رَسُولٌ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ، فَكَذَّبُوهُ جَمِيعًا قُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ: بَيْنِ الْأُمَّةِ وَرَسُولِهَا بِالْقِسْطِ أَيِ: الْعَدْلِ، فَنَجَا الرَّسُولُ، وَهَلَكَ الْمُكَذِّبُونَ لَهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّمِيرِ فِي: بَيْنَهُمْ، الْأُمَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَذَّبَهُ بَعْضُهُمْ وَصَدَّقَهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، فَيَهْلَكُ الْمُكَذِّبُونَ، وَيَنْجُو الْمُصَدِّقُونَ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الْقَضَاءِ، فَلَا يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «1» وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «2» وَالْمُرَادُ: الْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شُبْهَةً أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ كُلَّمَا هَدَّدَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ كَانُوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَالِاسْتِفْهَامُ مِنْهُمْ لِلْإِنْكَارِ، وَالِاسْتِبْعَادِ، وَلِلْقَدْحِ فِي النُّبُوَّةِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطابا منهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا لِرُسُلِهِمُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْسِمُ مَادَّةَ الشُّبْهَةِ، وَيَقْطَعُ اللَّجَاجَ، فَقَالَ:
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ: لَا أَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لَهَا وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا، فَكَيْفَ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَمْلِكَ ذَلِكَ لِغَيْرِي، وَقَدَّمَ الضُّرَّ، لِأَنَّ السِّيَاقَ: لِإِظْهَارِ الْعَجْزِ عَنْ حُضُورِ الْوَعْدِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ وَاسْتَبْعَدُوهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مُنْقَطِعٌ، كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ، أَيْ: وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ، فَكَيْفَ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَمْلِكَ لِنَفْسِي ضَرًّا أَوْ نَفْعًا. وَفِي هَذِهِ أَعْظَمُ وَاعِظٍ، وَأَبْلَغُ زَاجِرٍ لِمَنْ صَارَ دَيْدَنُهُ وَهِجِّيرَاهُ الْمُنَادَاةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَارَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. فَإِنَّ هَذَا مَقَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَ الْأَنْبِيَاءَ، وَالصَّالِحِينَ، وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ، وَرَزَقَهُمْ، وَأَحْيَاهُمْ، وَيُمِيتُهُمْ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ صَالِحٍ مِنَ الصَّالِحِينَ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ، غَيْرُ قادر عليه،
(1) . الزمر: 69.
(2)
. النساء: 41.