الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان آخرهم (اللنك)، ومعناه الأعرج واسمه تمر، فطرق الديار الشامية وعاش فيها، وحرق دمشق حتى صارت خاوية على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن أخذه اللَّه وتفرق بنوه في البلاد، وظهر بجميع ما أوردته مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:(إن بنى قنطورًا أول من سلب أمتي ملكهم) والمراد ببنى قنطورًا الترك) (1).
سبعة عشر: تضييع الأمانة ورفعها من القلوب وصيرورة الأمور إلى غير أهلها
إن الأمانة تبعة جسيمة عظيمة، وعقبة كئداء، وحمل ثقيل، أشفقت السماوات والأرض والجبال والوجود كله عن تحمل مسئوليتها، وحملها الإنسان الظلوم الجهول، وتحمل أعبائها فأنيطت إليه، ولا يستطيع أي أحد تحملها إلا الرجال الأكفاء الذين يقدرون ضخامتها ومسئوليتها وما يترتب عليها. لذلك لا ينبغى لمن تحملها أن يستهين بها، أو يفرط فيها مما يؤدى إلى ضياعها، وما يترتب على ذلك من الوزر الشديد.
أنها عقد وميثاق بين اللَّه تعالى وعباده، أن يصلوا ما أمر اللَّه به أن يوصل، وأن يقطعوا ما أمر اللَّه به أن يقطع، فيخشون ويخافون حسابه، ويمضون في الطريق المملوء بالأشواك إلى نهاية المطاف، زادهم تقوى اللَّه والصبر على ذلك.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
إن لمفهوم الأمانة معان شتى، ومفاهيم كثيرة، ومن الخطأ حصرها في
(1) فتح الباري: 6/ 609.
حفظ الودائع حسب، بل هي ترمز إلى العهد الذي ترتب بين العبد وربه تعالى في الشعور بتبعة كل ما أنيط إليه، وذلك بتطبيق أوامر اللَّه والانتهاء عما نهى عنه، فيكون مفهومها الدين كله، يكللها التقوى والصبر على تطبيق الأوامر.
1 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)(1).
2 -
روى الشيخان عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا انتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال (2)، ونزل القرآن، فقرؤوا من القرآن، وعملوا من السنة، ثم حدثنا عن رفعها قال: ترفع الأمانة، فينام الرجل، ثم يستيقظ، وقد رفعت الأمانة من قلبه، ويبقى أثرها مثل الوكت (3)، ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل المجل (4) دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا (5) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدى الأمانة.
حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)
يقول حذيفة: (ولقد أتى على زمان، وما أبالى أيكم بايعت، لئن كان
(1) حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند: 3/ 135 والبيهقي في السنن الكبرى: 6/ 288.
(2)
في جذر قلوب الرجال: في أصلها وأعماقها.
(3)
الوكت: الأثر اليسير.
(4)
المجل الأثر الذي يصير في باطن الكفين من أثر العمل والجهد فتحمل قيحًا.
(5)
منتبرًا: مرتفعًا منتفخًا.
مسلمًا ليردنه على دينه، ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه على ساعيه (1) وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا) (2).
قال الحافظ في الفتح: (حاصل الخبر أنه أنذر برفع الأمانة، وأن الموصوف بالأمانة يسلبها حتى يصير خائنًا بعد أن كان أمينًا، وهذا إنما يقع على ما هو شاهد لمن خالط أهل الخيانة، فإنه يصير خائنًا؛ لأن القرين يقتدى بقرينه)(3).
ثم قال الحافظ ابن حجر: قال ابن التين: الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا اللَّه من المكلف.
وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها. وقيل: هي الطاعة. وقيل: التكاليف. وقيل العهد الذي أخذه اللَّه على العباد.
وهذا الاختلاف وقع في تفسير الأمانة المذكورة في الآية {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} وقال صاحب التحرير:
الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية، وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت في القلب، قام بأداء ما أمر به، واجتنب ما نهى عنه.
وقال ابن العربي: المراد بالأمانة في حديث حذيفة: الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا تناهى الضعف، لم يبق أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان، والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب.
أما قول حذيفة: (ولقد أتى على زمان): قال ابن العربي:
قال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة
(1) ساعيه: المسئول عنه والحاكم عليه.
(2)
رواه البخاري: 7/ 188 ومسلم برقم: (143).
(3)
فتح الباري: 13/ 39 - 40.
والخليفتين، فأشار إلى ذلك بالمبايعة، وكنى عن الإيمان بالأمانة، وعما يخالف أحكامه بالخيانة، واللَّه أعلم (1).
2 -
روى أحمد وأبو داود ابن ماجه والحاكم عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم بزمان يوشك أن يأتي يغربل الناس فيه غربلة ويبقى حثالة من الناس قد فرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا وكانوا هكذا (وشبك بين أصابعه) تأخذون بما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم (2).
قال الحافظ في الفتح: (يجتمع الحديثان في قلة الأمانة وعدم الوفاء بالعهد وشدة الاختلاف، وفي كل منهما زيادة ليست في الآخر)(3).
في حديث حذيفة وحديث عبد اللَّه بن عمرو من الفتن وتقلب القلوب واختلال النظرات واضطراب الموازين ما يشيب منه الرضيع، فإن الناس تمتزج عهودهم وأماناتهم، والأمانة ترفع من قلوب الرجال، حتى يصبح الناس يتبايعون فلا يجدون رجلًا أمينًا بل هو أندر من الكبريت الأحمر!!.
وقد حدث حذيفة عن عصرين: الأول هو عصر النبوة ثم الخليفتين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حيث أن الأمانة نزلت في عمق قلوب الرجال، فأخذوا من القرآن ونهلوا من السنة وكانت العهود يومذاك صحيحة معافاة، فعملوا بالوحيين الكتاب والسنة وصانوا الأمانة.
ثم حدث عن العهد الآخر وهو عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه وما جرى به من
(1) فتح الباري: 13/ 39 - 40.
(2)
صحيح الجامع: رقم (4470).
(3)
فتح الباري: 13/ 39 وما بعدها.
الفتن وما لحقه من الدواهى والاقتتال، حيث أن الأمانة تنتزع من قلوب الرجال والعياذ باللَّه فكيف بعهدنا الراهن، وما يحتويه من الفتن وانقلاب الموازين وقلة الدين والزهد بالآخرة!! فلا تجد أحد يؤدى الأمانة ويفى بالعهود.
وانظر إلى حذيفة وهو يروى الحديث في زمن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه وكأنه الآن يعيش بيننا، انظر إلى انقلاب الموازين، واختلاف المقاييس فما أضحى الناس يقيسون الرجل بتقواه وخلقه وأصالته وإنما ينظرون إلى الرجل ويقيمونه ويقيسونه بالمنظار المادى حسب فهم يتحدثون عن الرجل بقيمته المادية وما ملك من أرصدة في البنوك وضياع وعمارات!! فيقولون عن الرجل:(ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله!!) إنها النظرة المادية كما نعيشها في مجتمعاتنا المعاصرة.
إن الرجل الغنى هو: جلد! وظريف! وعاقل! إذ أنهم لا يحسبون للإيمان حسابه ولا للتقوى معيارها ولكنه كما يشير الحديث النبوى: (وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان).
فحذار أخي المسلم من هذه النظرة السقيمة والتي هي ثمرة من ثمرات حب الدنيا وكراهية الآخرة، فإن الرجال يجب أن يوزنوا بميزان القرآن الكريم وهو ميزان التقوى والعمل الصالح كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
ثم يقول حذيفة رضي الله عنه ما معناه: كنت في العهد الأول وهو عهد النبوة والعهدين الراشدين، لا أجد غضاضة في أن أتعامل وأتبايع مع أي شخص في المجتمع، لماذا؟
لأن الناس تتعامل وفق المقياس الشرعى والأمانة التي كانت سائدة، فإذا كان التعامل مع مسلم، فإن المسلم لا يخون ولا يغش، وإن له رادعًا من دينه وعقيدته، وإن التعامل مع النصرانى أو اليهودى لا يجلب الحذر أو الخوف لأن ساعيه والقائم عليه يرد الحقوق إلى أهلها إذا خان صاحبه.
ثم يقول في نهاية الحديث ما معناه:
أما الآن -أي العصر الذي كان يعيش فيه حذيفة!! - فلا أتعامل إلا مع أشخاص معينين أعرف دينهم وأمانتهم فأتعامل معهم؛ لأنهم أوفياء أمناء لا يخونون، أما الذي لا أعرفه ولم أتمكن من سيرته وتقواه ودينه، فأدعه ولا أتعامل معه؛ لأنه -حذيفة- يخاف من الخيانة ونقض الأمانة!!
أرأيت أخي المسلم عن هذا الحديث النبوى؟ أرأيت لو جاء حذيفة الآن إلى واقعنا المعاصر، فماذا يقول؟؟!! واللَّه المستعان.
ثم يسدى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم النصيحة لأمته ويضع النقاط على الحروف في الحديث الآخر، حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه، فيقول صلى الله عليه وسلم ما معناه: إذا رأيتم هذه المنكرات، واختلاف الأحوال، واضطراب الوازين، حيث نقض العهود وخيانة الأمانات، وغربلة الناس فلا يبقى إلا حثالات المجتمع، ولا يسود إلا التناحر والتنافس على الدنيا فعليكم بما يلي:
1 -
تأخذون بما تعرفون.
2 -
تدعون ما تنكرون.
3 -
تقبلون على أمر خاصتكم.
4 -
تذرون أمر عامتكم.
إنه صلى الله عليه وسلم يضع الترياق للجروح ويصف الدواء لأمته بأن يعملوا بما يعلمون
من كتاب اللَّه وسنة نبيه، وأن يكونوا أمة دون الناس الآخرين، ينضوون مع المؤمنين في بوتقة واحدة، فلا يذوبون في المجتمع الجاهلى ولا يوالون العصاة والطغاة، بل عليهم بأمر خاصتهم، أي الذين يخصونهم في اعتقادهم وسلوكهم، ويدعون العموم الغالب الذين ليسوا على طريقتهم والتزامهم.
وأن يدعوا ما ينكرون، بأن يتركوا كل المنكرات ولا يوالون من يتعاطونها ويشجعون عليها، ويعتزلونها وإذا استطاعوا النصح وإنكار المنكر فيها ونعمت.
ويكون للمؤمنين صحبة خاصة، يوالى المسلم؟ أخاه المسلم، فلا يسكن إلا إليه ولا يطمئن إلا في رحابه، ويذرون أمر العامة الذين لا التزام لهم ولا عهود لهم مع اللَّه تعالى.
3 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، إذ جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟؟
فمضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟؟ قال: ها أنذا يا رسول اللَّه.
قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.
قال: وكيف إضاعتها؟
قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة) (1).
هذا الحديث النبوى يعتبر متممًا للحديثين السالفين، فعندما ترفع الأمانة من القلوب، وتمتزج عهود الناس ومواثيقهم تضيع الأمانة، وهذا المؤشر
(1) رواه البخاري: 14/ 116 كتاب الرقاق باب رفع الأمانة. . .
الخطير هو نذير من نذر الساعة، فإذا أصبح الناس هذا عن ذلك، توسد الأمور إلى غير أهلها. وعندما توسد الأمور إلى غير أهلها، ولا يوضع كل شيء في محله اللائق به، حيث لا يسند منصب لصاحبه الجدير به، ولا تملأ وظيفة برجل كفء يليق بها، ولا يكون أهل الحجى والتربية الصحيحة هم السائدون، فعند ذلك تختل الموازين وتضطرب الأمور كما يقول الأفوه الأودى:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تبنى الأمور بأهل الرأى ما صلحت
…
فإن تولت فبالأشرار تنقاد
البيت لا يبتنى إلا له عمد
…
ولا عماد إذا لم تبن أوتاد
إن هذه المؤشرات الخطيرة تنذر بهذا الويل والدمار وتفصح عن فوضى عارمة لا يعلم تبعتها إلا اللَّه تعالى، فها نحن نرى الطاقات الجسام تحل بأمة الإِسلام، فقد تولى الأمور في أغلب البلدان رجال مستبدون لا هم لهم إلا ما يخطون به من أراء لغرائزهم وشهواتهم ومنافعهم، فانتشرت البدع وعمت الضلالات وساد أهل الفجور والسوء وانزوى أهل الحق والصالحات، يقول القرطبي في (التذكرة):(ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره قد شاع بين الناس معظمه، ودسه الأمر إلى غير أهله، وصار رؤوس الناس أسافلهم، وفشت في الناس الخيانة وسوء الأخلاق)(1).
وهذا الذي أخبر عنه القرطبي رحمه الله في زمانه، فكيف بزماننا هذا. . .؟؟!!
(1) التذكرة للقرطبى: ج 2.