الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الحافظ ابن حجر: (ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله: (وليس به اليد إنما هو النبلاء) فإنه سيق مساق الذم والإنكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسبب الدين لكان محمودًا، ويؤيده ثبوت تمنى الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف.
قال النووي. لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف منهم عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ثم قال: قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين ويقل الاعتناء بأمره ولا يبقى لأحد إعتناء إلا بدنياه ومعاشه ونفسه وما يتعلق به، ومن ثم عظم قدر العبادة، ويؤخذ من قوله:(حتى يمر الرجل بقبر الرجل) أن التمنى المذكور وإنما يحصل عند رؤيته القبر، وليس ذلك مرادًا، بل فيه إشارة إلى قوة هذا التمنى؛ لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمنى أو يخف عند مشاهدة القبر فيتذكر هول المقام فيضعف تمنيه.
فإذا تمادى على ذلك دل على تأكد أمر تلك الشدة عنده حيث لم يصرف ما شاهده منة وحشة القبر وتذكر ما فيه عن استمرار على تمنى الموت) (1).
وقد وقع هذا التمنى فعلًا في وقتنا الحاضر بسبب ضنك العيش واستشراء الفساد وغلبة أهل الباطل وصولان أهل البدع والضلالات واللَّه المستعان.
تسعة عشر: تداعى الأم على الأمة الإِسلامية
1 -
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم
(1) فتح الباري: 13/ 75 وما بعدها كتاب الفتن.
كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟؟
قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن اللَّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول اللَّه؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) (1).
ومن علامات الساعة التي أخبر عنها نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم هي هذه العلامة، بل الظاهرة الخطرة التي توحى بأن بلاد العرب والمسلمين تكون كالبقرة الحلوب لأعدائها، فقد استطاع الغرب إيجاد عملاء له في الداخل، وهم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلوبهم قلوب الشياطين، تطفح بالحقد على الإِسلام وأهله، واستطاع أعداء المسلمين تمكين هؤلاء وذلك عن طريق مدهم ماديًا ومعنويًا ومنهم من وصل إلى سدة الحكم، فقاموا بالتبشير بقوميتهم المزعومة وعلمانيتهم المستورة، وساموا العباد سوء العذاب، وفرضوا أفكارهم الصليبية بالحديد والنار، والأدهى من هذا كله، إننا نجد صورة هذا التداعى على أمتنا وديارنا وإسلامنا في هذه الأيام أوضح ما تكون، حيث استطاعوا تمرير مؤامراتهم عن طريق عملائهم، وأوجدوا جوًا مناسبًا وتبريرات مصطنعة لكى يدوم هذا التداعى، وتستمر المنطقة تحت نير استعمار جديد ولكن بأثواب مزركشة تختلف عن الأثواب القديمة، وتحت أسماء وغايات ومبررات لا تنطلى على اللبيب.
إن أمم الغرب قاطبة تتابعت على ديار المسلمين، وأصبح الدم المسلم أرخص شيء في هذه الدنيا، مما يدل على أن ثمة مخططًا رهيبًا وقديمًا قد حيك على هذه الأمة من أجل نجاح هذه الهجمة الشرسة، وإمرار هذه
(1) السلسلة الصحيحة: برقم 958 للألبانى.
المؤامرة، ولكنهم لم يجدوا تلميذًا بارًا من تلاميذهم يستطيع أن يمرر هذه الخطة بإحكام، حتى استطاعوا أخيرًا تمثيل هذه المسرحية وإيجاد أبطالها الذين هم (من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) لكي يمعن الغرب الصليبى في امتصاص خيراتنا ونهب ثرواتنا وإذلال شعوبنا والأهم من ذلك، إفساد هذه الشعوب وطعنها في صميم عقيدتها وأخلاقها، ووأد الصحوة الإِسلامية المباركة التي تقض مضاجعهم، وتوحى لهم بالويل والثبور.
إن الذي ينظر في أحداث التأريخ يلاحظ وقوع هذه الهجمة مرات عديدة، فكان ذلك مرة بهجوم الأمم التركية وأجناسهم المختلفة ومنهم التتار الذين دمروا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية، ومن هذه الهجمات، الهجمة الصليبية الماكرة والذي وقف قائدها (اللنبى) على قبر صلاح الدين الأيوبي وركل قبره بحذائه وهو يناديه: (ها قد عدنا يا صلاح الدين!! ومنها تآمر الأمم قاطبة على إسقاط الخلافة الإِسلامية وتقاسم ديار المسلمين، وبشكل استعمار جديد.
ولا يزال الغرب يرقب ديار المسلمين وينظر إليها نظرة حذر وتخوف وتوجس، ما دامت عقيدة الإِسلام تنبض فينا وما دام القرآن مدويًا بيننا، وما دامت الصحوة الإِسلامية المباركة مضطردة مستمرة، قال تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. ورب سائل يسأل عن سر هذا التداعى وأسبابه، هل لأن العرب والمسلمين قليلوا العدد أو ضعفاء اقتصاديًا أو معنويًا؟
والجواب على هذا يجيب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، والسر في ذلك، هو أننا لسنا قلة ولسنا ضعفاء اقتصاديًا ولا معنويًا ولكن المشكلة هي
الركون إلى الدنيا وكراهية الموت والذي سببه حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، فالمسلمون كثرة ولكنهم غثاء كغثاء السيل.
إن ضعف الروح وسقوط الهمة وقلة النخوة والانهزام الداخلى والتنازل عن الكرامة التي وهبها اللَّه تعالى للمسلمين، وانصراف المسلمين عن دينهم وإيجاد الطواغيت الذين أذلوا الشعوب وساموهم وسلطوا عليهم السياط وأوجدوا حمامات الدم في كل مكان، جعلت الشعوب ترضى بالخنوع وتستكين للخذلان والذل، وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي نجح الطواغيت في تمرير مؤامراتهم وفرض أفكارهم المستوردة والحاقدة.
إننا نشاهد الآن أن أهل الباطل يضحون من أجل باطلهم ويبذلون الغالى والنفيس في سبيله، فهم يخلصون لباطلهم ويصرفون جل أوقاتهم وإمكانياتهم في سبيله، في حين نرى العموم الغالب من المسلمين قد ركنوا إلى الدنيا وملذاتها وانهمكوا فيها حتى أصبحت أكبر همهم فصرفتهم عن آخرتهم، وعن القضايا العقدية والمصيرية التي هي من مقومات دينهم.
وثمة حالة أخرى توحى بالثبور وتشجع على هذا التداعى ألا وهو حالة التفرق والتمزق والتشرذم التي تعيشها أمة العرب والمسلمين اليوم، وعيون الأعداء ترض ذلك وترقبه عن كثب ولكن ببشر وفرح أنها ترى ألد أعدائها وهم المسلمون متفرقون متخاصمون وأصبح بأسهم بينهم شديدًا، فعاقبها اللَّه تعالى على خذلانها للدين الحق وعدم اعتصامها بكتابه المبين وسيرة نبيه الأمين، فأصبحت بذلك لقمة سائغة لأعدائها، ولن يرفع اللَّه تعالى هذا الذل عن هذه الأمة حتى تعود إلى سالف عزها وسر نهضتها وهو الإِسلام العظيم دينًا ومنهجًا وسلوكًا، وواللَّه:(لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها)