الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمانية عشرة: نزول المصائب وتمنى الموت
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتنى مكانه)(1).
2 -
وعنه أيضًا قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسى بيده لا تذهب الدنيا، حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتنى كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء)(2).
قال ابن حجر في الفتح: قوله: (حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتنى مكانه): أي كنت ميتًا. قال ابن بطال: تغبط أهل القبور، وتمنى الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين بغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصى والمنكر. وليس هذا عامًا في حق كل أحد وإنما هو خاص بأهل الخير، وأما غيرهم فقد يكون لما يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه وأهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه.
ثم قال الحافظ: (والسبب في ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده، وبهذا جزم القرطبي، ثم قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين ويقل الاعتناء بأمره ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه ونفسه وما يتعلق به، ومن ثم عظم أمر العبادة أيام الفتنة)(3).
(1) رواه البخاري: 8/ 100 كتاب الفتن ومسلم برقم: 157 في الفتن وأشراط الساعة.
(2)
رواه مسلم برقم: 157 في الفتن وأشراط الساعة.
(3)
فتح الباري: 13/ 75 وما بعدها. باب الفتن.
3 -
أخرج الحاكم عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: عدت أبا هريرة رضي الله عنه فقلت: اللهم أشف أبا هريرة، فقال: اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمت، والذي نفسى بيده ليأتين على العلماء زمان الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر. وليأتين أحدهم قبر أخيه فيقول: ليتنى مكانه) (1).
4 -
وفي كتاب الفتن من رواية عبد اللَّه بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال: يوشك أن تمر الجنازة في السوق على الجماعة فيراها الرجل فيهز رأسه فيقول: يا ليتنى مكان هذا.
قلت: يا أبا ذر إن ذلك لمن أمر عظيم، قال: أجل.
إن شدة المحن والإبتلاء وما يصيب الناس من ضيم وفتن تجعل الرجل يتمنى الموت الذي هو من أعظم المصائب في الدنيا، وسماه القرآن الكريم (الفزع الأكبر) و (مصيبة الموت)(2) وهذا التمنى ليس من باب التدين والتقرب إلى اللَّه تعالى وحبًا في لقائه، وإنما بسبب المعاناة التي تنتاب الناس وقسوة العيش وضراوة الفتن واختلافها وتعددها، بل إن الحديث النبوى ليصور حجم هذه المأساة التي تصيب الناس حتى تجعل الرجل يتمرغ بقبر أخيه وصاحبه لا حبًا واشتياقًا له!! وإنما حبًا بالتخلص من العيش وفرارًا من ضراوة المعاناة وضنك العيش.
قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: (سيأتى عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه).
(1) نقلًا عن فتح الباري 13/ 75 وما بعدها باب الفتن عند شرح حديث (حتى يمر الرجل بقبر الرجل. . .).
(2)
إشارة إلى قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} ، وقوله:{فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}
وقال الشاعر:
وهذا العيش ما لا خير فيه
…
ألا موت يباع فاشتريه
وقال آخر:
أيا دهر أعملت فينا أراكًا
…
ووليتنا بعد هجر قفاكا
قبلت الأشرار علينا رؤوسأ
…
ووليت سفلتنا مستواكا
فيا دهر إن كنت عاديتنا
…
فها قد عملت بنا ما كفاكا
• هل يجوز تمنى الموت؟
في الأحاديث السالفة إشارة إلى جواز تمنى الموت خوفًا على الدين ولا ينافى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضرٍّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)(1).
لأن هذا النهي إنما وارد إذا كان التمنى بسبب في أمر دنيوى أو مصيبة في النفس أو الأهل أو المال، أما إذا كان تمنى الموت خوفًا على ذهاب الدين لفساد الزمان وتمادى الفتن، فلا مانع من ذلك، وهذا موافق لما ورد في الدعاء:(وإذا أردت فتنة في قوم فتوفنى غير مفتون)(2).
قال الحافظ في الفتح نقلا عن ابن عبد البر: (ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهى عن تمنى الموت، وليس كذلك وإنما في هذا أن هذا القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه، لا لضرر ينزل في الجسم)(3).
(1) رواه البخاري: 7/ 155 ومسلم: 2680.
(2)
جزء من حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد برقم: 3484 والترمذي: 3231.
(3)
فتح الباري: 13/ 75 كتاب الفتن.