الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني الفتن
خلق اللَّه تعالى آدم عليه السلام في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه وأسكنه جنته، وبعد أن وسوس الشيطان له ولزوجه حواء في الجنة، وفشلا في الامتحان بعد أن نهاهما ربهما تعالى عن الأكل من الشجرة، أنزلهما إلى دار الابتلاء والكدح ليختبرهما من جديد وذريتهما في رحلة الحياة المضنية، بعد إنزاله تعالى لمنهجه في الأرض وإرساله الرسل والأنبياء كمرشدين ومنذرين، وعلى هذا الأساس فإن وجودنا على هذه الأرض محض ابتلاء وامتحان، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] إذًا فكل ما حدث ويحدث للإنسان في مضمار حياته، هو فتنة وابتلاء واختبار حتى الخير والشر والسراء والضراء، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
الفتنة لغة واصطلاحًا
الفتنة لغة: الفتن جمع فتنة، وأصل الفتنة في كلام العرب: الامتحان والاختبار (1)
وفى الاصطلاح: هي المحنة والعذاب والشدة وكل مكروه وآيل إليه كالكفر والإثم والفضيحة والفجور والمصيبة، فإن كانت من اللَّه تعالى فهى
(1) فتح الباري: 13/ 3.
على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر اللَّه فهى مذمومة (1).
قال ابن الجوزي في المدهش: وردت كلمة الفتنة في القرآن الكريم بمعنى الشرك في قوله تعالى {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] ويراد بها القتل {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ويراد بها المعذرة، ثم لم تكن فتنتهم ويراد بها الضلال، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41]، ويراد بها القضاء، {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] ويراد بها الإثم، {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] ويراد بها المرض، {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} [التوبة: 126] ويراد بها العبرة، {تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} [يونس: 85] ويراد بها العقوبة، {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] ويراد بها الاختبار، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] ويراد بها الإحراق، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] ويراد بها الجنون، {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] (2).
والفتن التي يتعرض لها الإنسان هي بإرادة اللَّه سبحانه، لا لتعذيبه وإيذائه لأن اللَّه غنى عن عباده، ولكنها تعرض للناس كما يعرض الصائغ الذهب على النار ليطهره من الشوائب الدخيلة عليه ليصفيه ويجعله خالصًا أصيلًا يستهوى المقتنين له، كذلك المؤمن يعرضه ربه للشدائد ليصفو ويزكو وتتطهر نفسه وتخلص للَّه تعالى ليكون أهلًا لوراثة الخلافة في الأرض على منهج اللَّه في الدنيا وكذلك ليكون مستحقًا للنعيم الدائم يوم القيامة قال تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3] أما الأدعياء الكاذبون فإنهم يسقطون لا محالة، وأما المخلصون الذين تنورت قلوبهم بنور
(1) القسطلانى في شرحه على البخاري: إرشاد الساري.
(2)
نقلًا عن المسيح الدجال: قراءة في أصول الديانات الثلاث - سعيد أيوب.
الإيمان وذاقوا برد اليقين وصدقوا في عهدهم مع اللَّه فإنهم يثبتون على العهد ولا تؤثر فيهم فتنة ما دامت السموات والأرض، واللَّه تعالى هو المطلع على القلوب يقلبها كيف يشاء وهو سبحانه المصرف للأحوال ويعطى كلًا حسب نيته وصدقه والعكس بالعكس.
(إن الإيمان ليصر كلمة تقال، إنما هي حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى إحتمال، فلا يكفى أن يقول الناس أمنًا وهم يتركون هذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرها خالصة قلوبهم. إذ الإيمان أمانة اللَّه في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفى قلوبهم تجرد لها وإخلاص، ولا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة وعلى الأمن والسلامة وعلى المتاع والأغراء، وأنها لأمانة الخلافة في الأرض، وتحقيق كلمته في عالم الحياة.
وما باللَّه -حاشا للَّه- أن يعذب المؤمنين بالإبتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة. . .
والنفس تصهرها الشدائد فتنفى عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل) (1) لكل هذا وذاك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن الفتن التي ستحدث بعده، وقبيل الساعة، وكيف النجاة منها وتجنبها وكان يدعو قائلًا (اللَّهم أنى أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيخ الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)(2) وكذلك
(1) في ظلال القرآن سيد قطب ج 6
(2)
رواه مسلم