المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الحادي والثمانون - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ٥

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌باب غسل الرجلين إلى الكعبين

- ‌الحديث الحادي والخمسون

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب استعمال فضل وضوء الناس

- ‌الحديث الثاني والخمسون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والخمسون

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب

- ‌الحديث الرابع والخمسون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من مَضْمض واستنشق من غَرْفة واحدة

- ‌الحديث الخامس والخمسون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب مسح الرأس مرة

- ‌الحديث السادس والخمسون

- ‌رجاله ستة:

- ‌الحديث السابع والخمسون

- ‌باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة

- ‌الحديث الثامن والخمسون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه على المغمى عليه

- ‌الحديث التاسع والخمسون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الغسل والوضوء في المِخْضَب والقدح والخشب والحجارة

- ‌الحديث الستون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي والستون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثاني والستون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والستون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الوضوء من التور

- ‌الحديث الرابع والستون

- ‌رجاله ستة:

- ‌الحديث الخامس والستون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الوضوء بالمُدِّ

- ‌الحديث السادس والستون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌الحديث السابع والستون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثامن والستون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع والستون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السبعون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان

- ‌الحديث الحادي والسبعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق

- ‌الحديث الثاني والسبعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والسبعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من مضمضر من السويق ولم يتوضأ

- ‌الحديث الرابع والسبعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الخامس والسبعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب هل يُمَضْمِض من اللبن

- ‌الحديث السادس والسبعون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الوضوء من النوم

- ‌الحديث السابع والسبعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثامن والسبعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الوضوء من غير حدث

- ‌الحديث التاسع والسبعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثمانون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله

- ‌الحديث الحادي والثمانون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ما جاء في غسل البول

- ‌الحديث الثاني والثمانون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب

- ‌الحديث الثالث والثمانون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والثمانون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌تنبيه

- ‌باب صب الماء على البول في المسجد

- ‌الحديث الخامس والثمانون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السادس والثمانون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب يهَريق الماء على البول

- ‌الحديث السابع والثمانون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب بول الصِّبْيان

- ‌الحديث الثامن والثمانون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع والثمانون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب البول قائمًا وقاعدًا

- ‌الحديث التسعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط

- ‌الحديث الحادي والتسعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب البول عند سُباطة قوم

- ‌الحديث الثاني والتسعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب غَسل الدم

- ‌الحديث الثالث والتسعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والتسعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة

- ‌الحديث الخامس والتسعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السادس والتسعون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره

- ‌الحديث السابع والتسعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثامن والتسعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها

- ‌الحديث التاسع والتسعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث المائة

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء

- ‌الحديث الحادي والمئة

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثاني والمئة

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والمئة

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب البول في الماء الدائم

- ‌الحديث الرابع والمئة

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب إذا أُلقِي على ظهرِ الْمُصَلِّي قذر أوْ جِيفَةٌ لمْ تَفْسُد عليهِ صَلاتُهُ

- ‌الحديث الخامس والمئة

- ‌رجاله عشرة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب البصاق والمخاط ونحوه في الثوب

- ‌الحديث السادس والمئة

- ‌رجاله سبعة:

- ‌باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر

- ‌الحديث السابع والمئة

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه

- ‌الحديث الثامن والمئة

- ‌رجاله أربعة

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب السِواك

- ‌الحديث التاسع والمئة

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث العاشر والمئة

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب دفع السواك إلى الأكبر

- ‌الحديث الحادي عشر والمائة

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌لطائف الإسنادين:

- ‌باب فضل من بات على الوضوء

- ‌الحديث الثاني عشر والمئة

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌تنبيه

- ‌خاتمة

- ‌كتاب الغُسْلِ

- ‌باب الوضوء قبل الغسل

- ‌الحديث الأول

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثاني

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب غُسْلَ الرجل مع امرأته

- ‌الحديث الثالث

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الغُسل بالصاع ونحوه

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الخامس

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السادس

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من أفاض على رأسه ثلاثًا

- ‌الحديث السابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثامن

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الغسل مرة واحدة

- ‌الحديث العاشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من بدأ بالحِلاب أو الطيب عند الغُسل

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب مسح اليد بالتراب لتكون أنقى

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب تفريق النُسل والوضوء

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌رجاله سبعة:

- ‌باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغُسل

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌رجاله سبعة:

- ‌باب إذا جَامَعَ ثم عاد ومن دار على نسائه في غُسْلٍ واحد

- ‌الحديث العشرون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب غَسْلِ المذي والوضوء منه

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌رجاله خمسة

- ‌الحديث الرابع والعشرين

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب تخليلِ الشَّعَرِ حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده ولم يُعِدْ كسل مواضع الوضوء منه مرة أخرى

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج ولا يتيمم

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌ورجالها أربعة:

- ‌باب نفض اليدين من الغسل عند الجنابة

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من بدأ بشقِّ رأسه الأيمن في الغسل

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌بابُ مَنِ اغْتَسلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ في الخَلْوَةِ ومَنْ تَسَتَّر فالتستُّر أَفْضَلُ

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب التستر في الغسل عند الناس

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌باب إذا احتلمت المرأة

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب عرق الجُنُب وأن المسلم لا يَنْجُس

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ

الفصل: ‌الحديث الحادي والثمانون

‌الحديث الحادي والثمانون

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ"، ثُمَّ قَالَ:"بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ". ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً. فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: "لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا".

قوله: "مرَّ صلى الله عليه وسلم بحائط" أي: بستان، وللمصنف في الأدب:"خرج عليه الصلاة والسلام من بعض حيطان المدينة"، فيُحمل على أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرَّ به. وفي "الأفراد" للدارقطني من حديث جابر أن الحائط كان لأم مُبَشِّر الأنصارية، وهو يقوي رواية "الأدب"، لجزمها بالمدينة من غير شك. والشك في قوله:"أو مكة" من جرير.

وقوله: "فسمع صوت إنسانَيْن يُعذبان في قبورهما"، قال ابن مالك في قوله:"صوت إنسانيْن" شاهد على جواز إفراد المضاف المثنى إذا كان جزء ما اضيف إليه، نحو: أكلت رأس شاتين، وجمعه أجود نحو:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وقد اجتمع التثنية والجمع في قوله:

ظهراهُما مثلُ ظهورِ الترسَيْنِ

وإن لم يكن المضاف جزء ما أُضيف إليه، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية، نحو: سل الزيدان سيفيهما. فإن أُمن اللَّبْس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع،

ص: 133

كما في قوله هنا: "في قبورهما"، وفي رواية الأعمش الآتية قريبًا:"مر بقبرين"، زاد ابن ماجه:"جديدين".

وقوله: "يعذَّبان" أي: الإِنسانين اللذين سمع صوتهما، وأما رواية الأعمش التي فيها:"مرَّ بقبرين" فيُحتمل أن يقال: أعاد الضمير فيها على غير مذكور، لأن سياق الكلام يدُل عليه. وأن يقال: أعاده على القبرين مجازًا، والمراد مَنْ فيهما.

وقوله: "وما يعذَّبانِ في كبير، ثم قال: بلى" أي: وإنه لكبير، وصرح بذلك في "الأدب المفرد"، وهذا من زيادات رواية منصور هذه على رواية الأعمش، ولم يخرِّجها مسلم.

وفي قوله: "في كبير" شاهد على ورود في للتعليل، وهو مثل قوله عليه الصلاة والسلام:"عُذِّبت امرأة في هِرة"، وخفي ذلك على كثير من النحويين، مع وروده في القرآن، كقوله تعالى:{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68]، وفي الحديث كما مرَّ، وفي الشعر.

واختُلف في معنى قوله: "وإنه لكبير"، فقال أبو عبد الملك البوني: يُحتمل أنّه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك غير كبير، فأُوحي إليه في الحال بأنه كبير، فاستَدْرَكَ. وتُعُقِّب بأنه يكون نسخًا، والنسخ لا يدخل الخبر. وأجيب بأن الحكم بالخبر يجوز نسخه، فقوله:"وما يعذَّبانِ في كبير" إخبار بالحكم، فإذا أُوحي إليه أنه كبير، فأخبر به، كان نسخًا لذلك الحكم.

وقيل: الضمير في قوله: "وإنه" يعود على العذاب، لما ورد في "صحيح" ابن حِبّان عن أبي هريرة:"يعذَّبان عذابًا شديدًا في ذنبٍ هيِّن".

وقيل: الضمير يعود على أحد الذَّنبين وهو النميمة، لأنها من الكبائر، بخلاف كشف العورة. وهذا غير مستقيم، لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط كما يأتي قريبًا.

وقال الداووديّ وابن العربي: "كبير" المنفي بمعنى أكبر، والمثبت واحد

ص: 134

الكبائر، أي: ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل والزِّنى، وإن كان كبيرًا في الجملة.

وقيل: المعنى ليس بكبير في الصورة؛ لأن تعاطي ذلك يدُلُّ على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب.

وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير، كقوله تعالى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز، أي: كان لا يَشُقُّ عليهما الاحتراز من ذلك، وهذا جزم به البغوي، ورجحه ابن دقيق العيد وغيره.

وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق، فإنه وصفهما بما يدلُّ على تجدد ذلك منهما، واستمرارهما عليه للإتيان بصيغة المضارَعَة بعد لفظ كان.

وقوله: "لا يستَتِرُ" كذا في أكثر الروايات بمثنّاتين من فوق، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة. وفي رواية ابن عساكر:"يستبْرِئ". بموحدة ساكنة من الاستبراء. ولمسلم وأبي داود عن الأعمش: "يستَنِزِه" بنون ساكنة بعدها زاي ثم هاء من التَّنَزُّه وهو الإبعاد. فعلى رواية الأكثر، معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة، يعني لا يتحفظ منه، فتوافق رواية:"لا يستنزه" إنها من التنزُّه وهو الإبعاد كما مرَّ. وعند أبي نُعيم في "المستخرج" عن الأعمش: "كان لا يتوقّى" وهي مفسِّرة للمراد.

وحمله بعضهم على ظاهره، فقال: معناه لا يستر عورته، وهذا مردود، لأنه -كما قال ابن دقيق العيد- لو حُمل الاستتار على حقيقتة، للزم استقلال كشف العورة بالسَّببية، واطِّراح اعتبار البول، فيترتب العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا، وسياق الحديث يدلُ على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصيته، كما يشير إليه ما صححه ابن خُزيمة عن أبي هُريرة مرفوعًا:"أكثر عذاب القبر من البول" أي: بسبب ترك التحرُّز منه. ويؤيده أن لفظ "من" في هذا الحديث، لما أضيف إلى البول، اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب

ص: 135

العذاب إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حُمل على مجرد كشف العورة زال هنا المعنى.

ويؤيده أيضًا أن في حديث أبي بَكْرة عند أحمد وابن ماجه: "أما أحدهما فيُعذَّب في البول"، ومثله للطبراني عن أنس، فيتعيَّن العمل على المجاز، لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد؛ لأن مخرجه واحد، فيكون المراد بالاستتار التنزُّه عن البول والبعد منه والتوقي له، إما بعدم ملابسته البول، وإما بالاحتراز عن مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة، وعبَّر بالاستتار عن التوقّي مجازًا، ووجه العلاقة بينهما أن المستَتِر عن الشيء فيه بعد عنه واحتجاب، وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول. وأما رواية الاستبراء فهي أبلغ في التوقّي، أي: يستفرغ جهده بعد فراغه منه.

وهو يدل على وجوب الاستنجاء؛ لأنه لما عُذِّب على استخفافه بغسله وعدم التحرُّز منه، دل على أن من ترك البول في مخرجه ولم يستنجِ منه حقيقٌ بالعذاب.

وقوله: "من بوله" في رواية الأعمش الآتية: "من البول"، وقال البخاري فيما يأتي عنه قريبًا: ولم يذكر سوى بول الناس. قال ابن بطّال: أراد البخاري أن المراد بقوله في رواية الباب: "كان لا يستتر من البول" بول الناس لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان، وكأنه أراد الرد على الخطابي حيث قال: فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها.

ومحصل الرد أن العموم في رواية: "من البول" أريد به الخصوص، لقوله:"من بوله"، أو الألف واللام بدل من الضميرم، لكن يلتحق ببوله بول من هو في معناه من الناس، لعدم الفارق. قال: وكذا غير المأكول، وأما المأكول فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بنجاسة بوله، ولمن قال بطهارته حجج أخرى تأتي إن شاء الله تعالى.

وقال القرطبي: قوله: "من البول" اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سُلِّم

ص: 136

فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يُؤكل.

وقوله: "يمشي بالنميمة" فعيلة من نَمَّ الحديث ينُمُّه، إذا نقله عن المتكلم به إلى غيره.

والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب مستحبٌّ أو واجب، كمن اطَّلع من شخص أنه يريد إيذاء شخص ظلمًا، فحذره منه، وكذا مَنْ أخبر الإمام أو مَنْ له ولاية بسيرة نائبه مثلًا، فلا منع من ذلك.

وقال النووي: هي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح. وتعقبه الكِرْماني بأن الكبيرة هي الموجبة للحد، ولا حد في النميمة. وما قاله في حد الكبيرة ليس متَّفقًا عليه، وقد مرَّ تحرير الكلام عليها في المحل المذكور آنفًا عند الترجمة.

قال الغزالي: ينبغي لمن حُملت إليه نميمة أن لا يُصدق من نَمَّ له. ولا يظن بمن نُمَّ عنه ما نُقِل عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذُكر له، وأن ينهاه ويقبِّح له فعله، ويغضبه إن لم ينزَجِرْ، وأن لا يرضى لنفسه ما نهى النمامَ عنه، فينُمَّ هو على النمام، فيصير نمامًا.

واختُلف في الغِيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متَّحدتان، والراجح التغاير، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا، ووجه ذلك أن النميمة: نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه، سواء كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة: ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك.

والمناسبة في الجمع بين هاتين الخصلتين هي أن البرزخ مقدمة الآخرة، وأول ما يُقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة، مما ينشر الفتن التي تُسفك بسببها الدماء، فكان البرزخ محلًّا

ص: 137

للقضاء في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما.

وقوله: "فدعا بجريدة"، وللأعمش:"فدعا بعَسِيبٍ رَطْب"، والعسيب بمهملتين بوزن فَعيل، وهي الجريدة التي لم ينبت فيها خُوص، فإن نبت فيها فهي السَّعَفة. وقيل: إنه خص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف.

وقوله: "فكسرها" أي: أتى بها فكسرها، وفي حديث أبي بَكْرة عند أحمد والطبراني أنه هو الذي أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وللنَّسائي عن أبي رافع بسند ضعيف: إن الذي أتاه بالجريدة بلال. ولفظه: "كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جَنازة، إذ سمع شيئًا زفر، فقال لبلال: ائتني بجريدةٍ خضراء".

وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في آخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين، فهو في قصة أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه، منها: أن هذه كانت في المدينة وكان معه عليه الصلاة والسلام جماعة، وقصة جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده. ومنها: أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في رواية الأعمش في الباب الذي بعد هذا، وفي حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام أمر جابرًا بقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا، وإن جابرًا سأله عن ذلك، فقال:"إني مررت بقبرين يُعذَّبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفَّه عنهما ما دام الغصنانِ رطبين". ولم يذكر في قصة جابر السبب الذي كانا يعذَّبان به، ولا الترجي الآتي في قوله:"لعله"، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر، وأنهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك.

وقد روى ابن حِبّان في "صحيحه" عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر، فوقف عليه، فقال: إيتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه فيُحتمل أن تكون هذه القصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع المتقدم: "إذ سمع شيئًا في قبر"، وفيه: "فكسرها باثنتين، ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه"، وفي قصة الاثنين: "جعل على كلِّ قبرٍ جريدةً"، فما

ص: 138

رجحه النووي من كون القصة واحدة فيه نظر.

وقوله: "كِسرتين" بكسر الكاف، والكِسرة القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش الآتية:"شقَّها نصفين" أنها كانت نصفًا، وفي رواية جرير عنه:"باثنتين" قال النووي: الباء زائدة للتوكيد، والنصب على الحال.

وقوله: "فوضع على كلِّ قبرٍ منهما كِسرة"، في رواية الأعمش الآتية:"فغَرز" وهي أخص من الأولى، وفي "مسند" عبد بن حُميد عن الأعمش:"ثم غَرَزَ، عند رأس كل واحد منهما قطعة".

وقوله: "فقيل له"، وللأعمش:"قالوا" أي: الصحابة، ولم يوقف على تعيين السائل منهم.

وقوله: "لعلَّه أن يُخَفَّف عنهما" يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها؛ لأنها في حكم جملة، لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ويحتمل أن تكون أن زائدة مع كونها ناصبة، كزيادة الباء مع كونها جارة، وقد ثبت في الرواية الآتية بحذف أن، فقوي الاحتمال الثاني. وقال الكِرماني: شبَّهَ لعل بعسى، فأتى بأن في خبره.

ويُخَفَّف بضم الياء وفتح الفاء مشددة، أي: العذاب عن المقبورَيْن.

وقوله: "ما لم تَيْبسا" في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية، أي: الكِسرتان، وللكُشْمِيهني:"إلا أن تَيْبسا" بحرف الاستثناء، وللمُسْتَملي:"إلى أن يَيْبسا" بإلى التي للغاية، والياء التحتانية، أي: العودان.

قال المازَري: يُحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يُخفف عنهما هذه المدة، وعلى هذا، فلعلَّ هنا للتعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا. وتعقبه القُرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجّي، كذا قال. ولا يَرِدُ عليه ذلك إذا حملنا لعلَّ على التعليل. قال القُرْطُبي: وقيل: إنه شفع لهما هذه المدة كما صُرِّح به في حديث جابر؛ لأن الظاهر أن القصة واحدة. وفيه نظر لما أوضحناه من المغايرة بينهما.

ص: 139

وقال الخَطّابي: هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النَّداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصُّه، ولا أن في الرَّطْب معنى ليس في اليابس، قال: وقد قيل: إن المعنى فيه أنه يسبِّح ما دام رطبًا، فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطَّرِد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها، وكذلك فيما فيه بركة كالذِكْر وتلاوة القرآن من باب الأولى.

وقال الطيبي: الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان العذاب، يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزَّبانية.

وقد استنكر الخَطّابي ومن تبعه وضع الناس الجريد ونحوه في القبر عملًا بهذا الحديث، قال الطُرْطُوشيّ: لأن ذلك خاص ببركة يده. وقال القاضي عِياض: لأنه علل غَرْزَهما على القبر بأمر مُغَيَّب، وهو قوله:"لَيُعذَّبان".

قال في "الفتح": لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب لو عُذِّب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرُحِمَ أم لا أن لا ندعو له بالرحمة. وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يُحتمل أن يكون أمر به. وقد تأسّى بُرَيْدة بن الحُصَيْب الصحابي بذلك، فأوصى أن يوضع على قبره جَريدتان كما أخرجه المصنِّف في الجنائز تعليقًا، وابن سعد موصولًا، وهو أولى أن يُتَّبع من غيره.

قال ابن المُرابط وغيره: يُحتمل أن يكون بُريدة أمران يُغرز في ظاهر القبر اقتداء بالنبي-صلى الله عليه وسلم في وضعه الجريدتين في القبرين، ويُحتمل أن يكون أمر أن يُجعلا في داخل القبر لما في النخلة من البركة، لقوله تعالى:{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24]، والأول أظهر، وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم ير ذلك خاصًّا بالرجلين.

قال ابن رشيد: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، ولذلك عقبه بقول ابن عُمر: إنّما يُظِلُّه عمله.

ص: 140

وقلت: وعلى كل حال، فعل بُريدة فيه استئناس لما تفعله الناس اليوم من وضع الجريد ونحوه على القبر، فإن الصحابي أدرى بمقاصد الحديث من غيره، خلافًا لما مرَّ عن الخَطّابي.

واعلم أن المقبورَيْن لم يُعرف اسمهما ولا اسم واحد منهما، والظاهر أن ذلك كان على عمدٍ من الرواة لقصد الستر عليهما، وهو عملٌ مستحسن، وينبغي أن لا يُبالَغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يُذم به.

وما حكاه القُرطبي في "التذكرة" وضعفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ قول في غاية البطلان، ولا ينبغي ذكره إلَاّ لبيان بطلانه، ومما يدُل على بطلانه ما ثبت في "الصحيح" من أنه عليه الصلاة والسلام حضر دفن سعد بن معاذ، وفي قصة المقبورَيْن عن أبي أمامة عند أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم:"من دفنتُمُ اليوم هاهُنا؟ "، فدل على أنه لم يحضرهما.

وإنما ذكرت هذا ذبًّا عن هذا السيد الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيدًا، فقال:"قوموا إلى سيِّدكم"، وقال:"إن حكمه قد وافق حكم الله"، وقال:"إن عرش الرحمن اهتزَّ لموتِهِ" إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة، خشية أن يغتر ناقص العلم بما ذكره القُرطبي، فيعتقد صحة ذلك، وهو في غاية البطلان.

واختلف في المقبورَيْن، فقيل: كانا كافِرَيْن، وبه جزم أبو موسى المديني، واحتج بما رواه عن جابر بسند فيه ابن لَهيعة:"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذَّبان في البول والنميمة"، قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس قويًّا، لكن معناه صحيح؛ لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى، ولكنه لما رآهما يعذَّبان، ولم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه، فشفع لهما إلى المدة المذكورة.

وجزم ابن العطار بأنهما كأنا مسلمين، وقال: لا يجوز أن يُقال إنهما كانا كافرين؛ لأنهما لو كانا كافرين لم يَدْعُ لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبيَّنه كما في قصة أبي طالب.

ص: 141

قال في "الفتح": وما قاله أخيرًا هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية، لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، لكنه ليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لَهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطويل الذي مر أنَّ مسلمًا أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر.

قلت: ليس في حديث ابن لهيعة بيان للخصوصية ألبتة، وليس في حديث جابر الذي قال: إنه موافق له. أن القبرين كانا من بني النجار هلكا في الجاهلية.

ثم قال: وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمَيْن، ففي رواية ابن ماجه:"مرَّ بقبرين جديدين"، فانتفى كونهما في الجاهلية. وفي حديث أبي أمامة السابق قريبًا:"مرَّ بالبقيع، فقال: مَنْ دفنتم اليوم هُنا؟ "، وهذا يدلس على أنهما كانا مسلمين؛ لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين، مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم. ويقوّي كونهما مسلمين رواية أبي بَكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح:"يعذَّبان، وما يعذبان في كبير، وبلى، وما يعذَّبان إلَاّ في الغيبة والبول"، فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين؛ لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإِسلام، فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف.

وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات عذاب القبر، وهو حق يجب الإِيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة، ووردت في عذاب القبر أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة، منها حديث عُبادة بن الصامت بسند لا بأس به عند البزار، ومنها حديث أبي سعيد وزيد بن ثابت عند مسلم، ومنها حديث شُرَحْبيل بن حبَيبة، ومنها حديث أبي مُوسى الأشعري عند أبي داود، ومنها حديث أبي أمامة وأبي رافع عند أبي موسى المديني في كتاب "الترغيب والترهيب"، ومنها حديث ميمونة ذكره ابن سعد في كتاب الطهارة،

ص: 142

ومنها حديث عثمان رضي الله تعالى عنه عند اللّالكائي.

وأنكرت المعتزلة عذاب القبر والخوارج وبعض المرجئة، لكن قال القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة: إن قيل: مذهبكم أدّاكم إلى إنكار عذاب القبر، وقد أطبقت عليه الأمة. قيل: هذا الأمر إنما أنكره ضِرار بن عمرو، ولما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك مما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان: أحدهما: يُجوِّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني: يقطع بذلك، وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما يُنْكَر قول جماعة من الجهلة: إنهم يعذَّبون وهم موتى. ودليل العقل يمنع من ذلك.

وقال القُرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه، والإيمان واجب به لازم حسب ما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم، وإن الله يُحيي العبد ويردُّ إليه الحياة والعقل، وقد نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يُكمل العقل للصغارليعلموا منزلتهم وسعادتهم. وقد جاء أن القبر ينضمُّ عليه كالكبير.

وصار أبو الهُذيل وبِشْر إلى أن من خرج عن سِمة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين، وأن المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات.

وأثبت البَلْخي والجُبّائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين والفاسقين.

وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، ويجري على الموتى من غير ردِّ أرواحهم إلى الجسد، وإن الميت يجوز أن يتألم ويحسَّ، وهذا مذهب جماعة من الكرّامِيّة.

وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حُشروا وجدوا تلك الآلام كالسكران والمغمى عليه، إن ضُربوا لم يجدوا ألمًا، فإذا عاد عقلهم إليهم وجدوا تلك الآلام.

ص: 143

وأما باقي المعتزلة كضِرار بن عَمرو، وبشْر المَرِيسيّ، ويحيى بن كامل، فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا.

وهذه الأقوال كلها فاسدة، تردها الأحاديث الثابتة، وقد مرَّ عند حديث أسماء في سؤال الميت في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس ما قاله أهل السُنَّة من أن المعذَّب الجسد بعينه، أو بعضه، إلى آخر ما مرَّ.

وفيه أيضًا دلالة على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنه إذا كان يُرجى التخفيف عن الميت بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة.

وقد اختُلف في هذه المسألة، فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى وصول ثواب قراءة القرآن للميت، لما روى أبو بكر النجّار في كتاب "السنن" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ مرَّ بين المقابر، فقرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أُعطي من الأجر بعدد الأموات". وفي "سننه" عن أنس يرفعه: "من دخل المقابر فقرأ سورة يس، خفَّف الله عنهم يومئذ". وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من زار قبر والديه أو أحدهما، فقرأ عنده أو عندهما يس، غُفر له".

وروى ابن شاهين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: الحمد لله رب العالمين، رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله العظمة في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، هو الملك رب السماوات ورب الأرض ورب العالمين، وله النور في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالديَّ، لم يبقَ لوالديه حقٌّ إلَاّ أداه إليهما".

والصحيح من مذهب مالك والشافعي وصول ثواب قراءة القرآن للميت،

ص: 144

وقد جَلَبْنا نصوص المذهبين، واستوفينا الكلام على ذلك في كتابنا "مشتهى الخارِف الجاني".

وأما الدُّعاء فالإجماع على أنه ينفعهم ويصلهم ثوابه، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة، منها قوله عليه الصلاة والسلام:"اللهم اغفِر لأهل بقيع الغَرْقد"، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام:"اللهمَّ اغفِر لحيِّنا وميِّتنا"، وغير ذلك.

فإن قلت: هل يبلُغ ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق، فالجواب: روى أبو بكر النجّار في كتاب "السنن" من حديث عَمْرو بن شُعيب عن أبيه عن جده أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إن العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدنة، وإن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، أفيجزىء عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"إن أباك لو كان أقرَّ بالتوحيد، فصُمتَ عنه، أو تصدقتَ عنه، أو أعتقتَ عنه، بلغه ذلك".

وروى الدارقطني، قال رجل: يا رسول الله: كيف أَبَرُّ أبويَّ بعد موتهما؟ فقال: "إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدَّق عنهما مع صدقتك".

وفي كتاب القاضي الإِمام أبي الحسين بن الفرّاء، عن أنس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنا نتصدق عن موتانا، ونحجُّ عنهم، وندعوا لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال:"نعم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطَّبَق إذا أُهدي إليه".

وعن سعد أنه قال: يا رسول الله: إن أبي مات، أفأُعتِق عنه؟ قال:"نعم".

وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، أن الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما كان يُعتقان عن علي رضي الله تعالى عنه.

وفي "الصحيح" قال رجل: يا رسول الله: إن أمي توفيت، أينفعُها أن

ص: 145

أتصدَّق عنها؟ قال: "نعم".

فإن قيل: قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وهو يدل على عدم وصول ثواب القرآن للميت، فالجواب هو أن العلماء اختلفوا في الآية على ثمانية أقوال.

أحدها: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21]، أدخل الأبناء الجنة بصلاة الآباء، قاله ابن عبّاس.

الثاني: أنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سَعَوا وما سَعَى لهم غيُرهم. قاله عكرمة.

الثالث: المراد بالِإنسان هنا الكافر. قاله الرَّبيعُ بن أنس.

الرابع: ليس للإنسان إلَاّ ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفَضْل فجائز أن يزيد الله تعالى ما شاء، قاله الحُسين بن الفَضْل.

الخامس: أن معنى ما سعى: ما نوى، قاله أبو بكر الورّاق.

السادس: ليس للكافر من الخير إلَاّ ما عمله في الدنيا، فيُثاب عليه في الدنيا، حتى لا يبقى له في الآخرة شيء. ذكره الثَّعْلَبي.

السابع: أن اللام في: للإِنسان، بمعنى على، أي: ليس على الإنسان إلَاّ ما سعى.

الثامن: أنه ليس له إلَاّ سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيل سببه، مثل سعيه في تحصيل قراءة ولدٍ يترحم عليه، وصَديق يستغفِر له، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدين، فيكون ذلك سببًا حصل بسعيه، حكاه أبو الفرج.

وقد أشبعنا الكلام على هذه الآية بما لا نزيد عليه في كتابنا "مشتهى الخارف الجاني".

ص: 146