الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الغُسْلِ
في رواية تقديم البسملة كما ترى، وللأكثر بالعكس، وقد مر توجيه ذلك في كتاب الإيمان، كما ذكرنا في أول كتاب الإيمان والوضوء وجه مناسبة ترتيب البخاري، بإتباع كتاب الوضوء لكتاب العلم.
وفي رواية الأصيلي حذف البسملة، وفيها: باب بدل كتاب، وهي أولى، لأن الكتاب يجمع أنواعًا، والغسل نوع واحد من أنواع الطهارة، وإن كان متعددًا في نفسه.
والغُسل بضم الغين اسم للاغتسال، وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح. وقيل: الغَسْل -بالفتح- فِعْل المغتسل، وبالضم الماء الذي يغتسل به، وبالكسر ما يُجعل مع الماء كالأشنان والخطمى.
والغُسل لغة: جريان الماء على الأعضاء. وشرعًا: غَسْل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عمّا للعادة بالنية.
قال في "الفتح": واختُلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر، بل هو مستحب عند الشافعية والحنفية والحنابلة، ونُقل عن مالك والمُزَني وجوبه. واحتج ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، قال: فيجب ذلك في الغسل قياسًا، لعدم الفرق بينهما.
قال: وتُعقِّب بان جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء
للمتوضىء من غير إمرار، فبطُل الإجماع، وانتفت الملازمة.
قلت: ما قاله مصادرة، وهي جعل الدعوى جزءً من الدليل، فإن القائلين بالاكتفاء بغمس اليد في الماء مطلوب منهم الدليل، هل وجدوا ذلك في حديث من فعله عليه الصلاة والسلام أو أثر صحيح عن أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وأما قول المخالف فلا يُبْطِل الإجماع، وقد مر الكلام على وجوب الدلك في الوضوء في باب الوضوء بالمد، فراجعه.
ثم إن المؤلف افتتح كتاب الغُسل بآيتي النساء والمائدة إشعارًا بأن وجوب الغسل على الجُنُب بنص القرآن، فقال:
والجنب الذي أصابته الجنابة يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع؛ لأنه يجري مجرى المصدر الذي هو الإجناب، وأصله من البعد، وسُمي الإنسان جُنبًا لأنه نُهي أن يَقْرَب مواضع الصلاة ما لم يتطهر.
وقوله: {فَاطَّهَّرُوا} أي: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة؛ لأن أصله اطتهر، قُلبت التاء طاء، وأدغم الطاء في الطاء، فهو من الافتعال، والافتعال يدل على التكلف والاعتمال.
وقدم المؤلف الآية التي من سورة المائدة على الآية التي من سورة النساء لدقيقة، وهي أن لفظ التي في المائدة:{فَاطَّهَّرُوا} ففيها إجمال، ولفظ التي في النساء:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ففيها تصريح بالاغتسال، وبيان للتطهير المذكور.
ودل على أن المراد بقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} فاغتسلوا، قوله تعالى في
الحائض: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222]، أي: اغتسلن اتفاقًا.
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} أي: مرضاً يُخاف معه من استعمال الماء، فإن الواجد له كالعادم، أو مرضًا يمنعه من الوصول إليه، فقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد أنها نزلت في مريض من الأنصار، لم يكن له خادم، ولم يستطع أن يقوم فيتوضأ.
وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي: طويلًا كان أو قصيرًا، فلم تجدوا فيه ماء.
وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أي: فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين، وأصل الغائط المُطْمَئن من الأرض كما مر مرارًا.
وقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} أي: جامعتُموهن كما هو قول علي، والثابت عن ابن عباس وأكثر الصحابة والتابعين: أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقُض الوضوء وهو قول ابن مسعود وابن عمر وبعض التابعين، وقد مر الكلام على النقض باللمس مطولًا في باب من لم ير الوضوء إِلا من المخرجين.
وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} أي: فلم تتمكنوا من استعماله، إِذ الممنوع عنه كالمفقود، ووجه هذا التقسيم أن المترخِّص بالتيمم إما محدِثٌ أو جُنب، والحال المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر، والجُنُب لمّا سَبَق ذكره اقتُصِر على بيان حاله، والمحدِث لما لم يجر ذكره ذَكَر أسبابه ما يُحدِث بالذات وما تحدِث بالعرَض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملًا، وكأنه قيل: وان كنْتُم جُنُبًا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء.
وقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي: اقصدوا ما على وجه الأرض على أي حال كان، من رمل أو حجر أو مدَر أو تراب طيِّب، أي: طاهر؛ لأن الصعيد لغة وجه الأرض كما عند الخليل وغيره، وسمي بذلك لأنه نهاية ما يَصْعد إليه من
باطن الأرض. وقيل: الطيب الحلال. وقيل: المُنْبتْ دون السَّبْخة، كما في قوله تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، وتمسك الشافعي بكونه مُنْبِتًا، فقال: لابد أن يعلق باليد شيء من التراب.
وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} تعليم لكيفية التيمم، ولم يبيِّن غاية المسح؛ لأنه مبيَّن في الوضوء الذي هو نائب عنه بقوله:{إِلَى الْمَرَافِقِ} وبفعله عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {مِنْهُ} كلمة من للتبعيض عندمن يشترط تعلَّق شيء من التراب باليد، ولابتداء الغاية عند من لا يشترط ذلك. وقيل: الضمير في منه للحديث المفهوم من السياق، ومن للتعليل.
وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي: ضيق، أي: بما فَرَضَ من الغسل والوضوء والتيمم.
وقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي: من الأحداث والذنوب، فإن الوضوء تكفير لها.
وقوله {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ} بيان ما هو مطفر للقلوب والأبدان عن الآثام والأحداث.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: نعمتي فأزيدها عليكم. وفيه إشارة إلى كون الإنسان كفورًا.
وفي الآية سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل مستوعِب وغير مستوعِب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غَسْلُ ومسح، وباعتبار المحل محدودٌ وغير محدودٌ. وآلتهما مائع وجامدَ، وموجِبُهما حدث أصغر وأكبر، والمبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، والموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
وقولِهِ جلَّ ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى
حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.
قوله: {الصَّلَاةِ} أي: نفسها أو مواضعْها، ورُدَّ هذا بأنه يقال في اللغة: لا تَقْرَب كذا بفتح الراء، أي: لا تلتبس بالفعل، وإن كان معناه لا تدنُ من الموضع، فهو بضم الراء.
وقوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} أي: من الشرب.
وقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} أي: اجتنبوها حال السكر، نزلت في جمع من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها. عند ابن عوف، وتقدم علي للإمامة، وقرأ: قُل يا أيُّها الكافرونَ أعبدُ ما تعبدونَ ونحنُ نعبدُ ما تعبدونَ. فنزلت. أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، وقال الضحّاك: عني به سكر النوم لا سكر الخمر.
وقوله: {وَلَا جُنُبًا} أي: ولا تقربوا الصلاة أو مواضعها جنبًا، فهو منصوب على الحال، عطف على:{وَأَنْتُمْ سُكَارَى} لأن الجمل التي لها محل من الإعراب في حكم المفردات.
وقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: مجتازي سبيل، أي إلا مسافرين، فتيمموا وصلّوا وأنتم جُنب؛ لأن التيمم يبيح الصلاة ولا يرفع الحدث، وهوحال مُقدَّرة للفعل المقيد بالحال، كأنه قال: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تُعذرون فيها وهي كونكم مسافرين. وفيه إيماء إلى أن سائر الأعذار مثل السفر، وذَكَره لأنه الغالب، فلا يُنافي هذا الحصر ما يُذكر بعد من الموجبات، ويجوز أن يكون وصفًا للحال، أي: جُنبًا غير عابري سبيل.
وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غاية للنهي، وفيه إشعار بوجوب النية في الغُسل، إذ لفظ اغتسل يقتضي الاكتساب، ولا يكون إلا مع النية، خلافًا للحنفية،