الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والتسعون
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ.
قوله: "أغسل الجنابة" أي: أثر الجنابة، فيكون على حذف مضاف؛ لأن الجنابة معنى لا يغسل، أو عبرت بها عن ذلك مجازًا، أو المراد المني من باب تسمية الشيء باسم سببه، فإن وجوده سبب لبعده عن الصلاة ونحوها، وحينئذ فلا حاجة إلى التقدير.
وقوله: "فيخرج إلى الصلاة" أي: من الحجرة لأجلها.
وقوله: "وإن بُقَع الماء" بضم الموحدة وفتح القاف، جمع بُقْعة، وهو الخلاف في اللونين.
وقوله: "في ثوبه" أي: لم يجف؛ لأنه خرج مبادرًا إلى الصلاة، ولم يكن له ثياب يتداولها. ولابن ماجه:"وأنا أرى أثر الغَسْل فيه" أي: لم يجِفَّ. وفي رواية لمسلم عن عائشة: "لقد رأيتني وإني لأحُكّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسًا بظفري". وروى الترمذي وصححه عن همام بن الحارث: "إن عائشة أنكرت على ضيفها غسله الثوب الذي احتلم فيه لما أخبرتها بذلك الجارية، فقالت لها: أفسد علينا ثوبنا، إنما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه، فربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي". وفي رواية ابن خُزيمة: "إنها كانت تحكُّه من ثوبه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي"، وفي رواية أخرى لابن خُزيمة عن عائشة:"كانت تَسْلُتُ المنيَّ من ثوبه بعرق الإذْخِر، ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه. وفي رواية لمسلم عنها أيضًا: "لقد رأيتني أفرُكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم-
فركًا، فيصلّي فيه".
وقد اختلف العلماء في نجاسة المني وطهارته، فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري والليث والحسن بن حي وفي رواية عن أحمد إلى نجاسته، إلَاّ أن أبا حنيفة يكتفي في تطهير اليابس منه بالفرك، وأما مالك فيُوجب غسله رطبًا ويابسًا. وذهب الشافعي وأحمد وداود وإسحاق إلى أنه طاهر، وأنه لا يُفسد الماء، وأن حكمه في ذلك حكم النخامة.
وعلى القول بنجاسته اختُلف في سبب تنجيسه، فقيل: لأن أصله دم غيرته الشهوة، ويرد على هذا عند المالكية عدم العفو عن دون الدرهم منه كالدم.
وقيل: لقذارته، وأُورد عليه المخاط، وأجيب بأن الأصل اقتضاؤه التنجيس، وتخلف في المخاط للتكرر، وهو موجب للطهارة.
وقيل: لمروره في مجرى البول، ويتخرج عليه طهارة مني ما بوله طاهر من الحيوانات.
استدل القائلون بنجاسته بالأحاديث الأربعة التي أخرجها المصنف، وغيرها من الأحاديث المذكور فيها الغسل، ففي جميعها قالت عائشة:"كنت أغسل"، وقولها:"كنت" يدل على تكرار هذا الفعل منها، وهذا أدل دليل على نجاسة المني. وأيضًا أعلى مراتب الأمر الوجوب، وأدناها الإباحة، ولا وجه للثاني هنا؛ لأن عليه الصلاة والسلام لم يتركه على ثوبه أبدًا، وكذلك الصحابة من بعده، ومواظبته صلى الله عليه وسلم علي فعل شيء من غير ترك في الجملة يدل على الوجوب بلا نزاع فيه. وأيضاً الأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ ينصرف إلى الكامل، إلَاّ أن يَصْرِفَ ذلك قرينة تقوم فتدُل عليه حينئذٍ، وفحوى كلام أهل الأصول أن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدلُ على الوجوب.
واستدل القائلون بطهارته بما مرَّ من الأحاديث الدالة على عدم غسله، كحديث عائشة المار أنها كانت تَسْلُت المني من ثوبه بعِرْق ثم يصلي فيه، وتحكُّه من ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالين،
وبحديثها المار أيضًا من أنها كانت تفركه من ثوبه فركًا فيصلي فيه، قالوا: وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة. وبحديثها المار أيضًا أنها كانت تحكه من ثوبه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فهذه هي أقوى الأحاديث التي استدلّوا بها للتصريح فيها بالصلاة في الثوب. وحملوا أحاديث الغَسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب. وقد مرَّ تقرير دلالة أحاديث الغسل على الوجوب.
والجواب عن الحديث الأول أنه غير متضمن لترك الغسل في الحالين؛ لأن التعبير فيه بثمَّ الدالة على التراخي، فيمكن أن يقع الغسل بين السَّلْت والحكِّ والصلاة في الثوب كما مرَّ قريبًا في الدم من قوله: تحتُّه أو تحكُّه قصدًا للتخفيف، وهم لا يقولون بطهارة الدم، فكذلك المني هنا.
والجواب عن الثاني من كون التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة هو أن كون الفاء للتعقيب لا ينفي احتمال تخلل الغسل؛ لأن أهل العربية قالوا: إن التعقيب في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنهم قالوا: تزوج فلان فوُلد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل، وهي مدة متطاولة، فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة أنها كانت تفركه من الثوب ثم تغسله فيصلي فيه، ويجوز أن الفاء بمعنى ثم، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، فالفاءات فيها بمعنى ثم، لتراخي معطوفاتها، فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف، يجوز أن يتخلّل بين المعطوف والمعطوف عليه مدة يجوز وقوع الغسل في تلك المدة، ويؤيد كون الواو بمعنى ثم رواية البزار في "مسنده"، والطحاوي في "معاني الآثار" لهذا الحديث عن عائشة أنها قالت:"كنت أفرُكُ المنيَّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه" فصرح بثمَّ الدالة على التراخي، وخير ما فسرته بالوارد.
والجواب عن الثالث هو أن قولها: "وهو يصلي" جملة اسمية وقعت حالًا منتظرةً، أي: والحال أنه منتظر للصلاة، لا أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت
تحكُّه من ثوبه عليه الصلاة والسلام في حال كونه في الصلاة، وإذا كان الأمر كما ذُكر احتمل تخلُّل الغسل بين الفَرْك والصلاة.
وحملت المالكية ما ورد من فرك اليابس في الأحاديث على إرادة التخفيف ثم الغسل بعد ذلك كما مرَّ، أو على أن ذلك كان في ثوب النوم المتَّخذ له من غير أن يصلي فيه، والنوم في الثوب النجس لا بأس به.
وقالت الحنفية: أحاديث الغسل تدُل على نجاسة المني وعلى وجوب غسله، ولكن خُصَّ تطهير اليابس منه بالفرك بأحاديث الفرك، وأورد عليهم أنه إذا كان نجسًا كان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يُعفى عنه من الدم بالفرك، وأن ما لا يجب غسلُ يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط.
وأجابوا عن الأول بأنه لم يأت نص بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس، فيُقتصر على مورد النص.
وعن الثاني بأن المخاط لا يتعلّق بخروج حدث ما أصلًا، والمني موجب لأكبر المحدثين وهو الجنابة، فإن قلت: سقوط الغسل في يابسه يدل على الطهارة، فالجواب: لا نسلم ذلك كما في موضع الاستنجاء.
واستدل بعض القائلين بطهارته بأنه أصل الأنبياء والأولياء فيجب أن يكون طاهرًا، ورُد بأنه أصل الأعداء أيضًا كفرعون والنمرود وهامان وغيرهم، وبأن العلقة أقرب إلى الإِنسان من المني، وهي أيضًا أصل الأنبياء عليهم السلام، ومع هذا لا يقال: إنها طاهرة.
وأجاب بعضهم عن الاستدلال بحديث الفرك على طهارة المني، بأن منيَّ النبي صلى الله عليه وسلم طاهر دون غيره كسائر فضلاته. وأجيب عن هذا بأنه على تقدير صحة طهارة منيِّه عليه الصلاة والسلام، يقال: إن منيَّه كان عن جماع، فيخالط مني المرأة، فلو كان منيُّها نجسًا لم يُكتفَ فيه بالفرك، وبهذا احتج الشيخ الموفق وغيره على طهارة رطوبة فرجها. ومن قال: إن المني لا يسلم من المذي