الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والمئة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ".
قوله: "كَلْم" بفتح الكاف وسكون اللام.
وقوله: "يكُلْمه المسلم" بضم أوله وسكون ثانيه مبنيًّا للمفعول، أي: كل جرح يُجرحه، وأصله يُكْلم به، فحذف الجار، واتصل الضمير بالفعل توسعًا. وفي نسخة القابسي وابن عساكر:"كل كَلْمة يُكلمها"، أي: كل جراحة يُجرحها. وقوله: "في سبيل الله" قيد يخرج ما يصيب المسلم من الجراحات في غير سبيل الله، وزاد في الجهاد:"والله أعلم بمن يُكلم في سبيله" وفيه إشارة إلى أن ذلك إنما يحصُل لمن خَلَصت نيته.
وقوله: "تكون يوم القيامة كهيئتها" أعاد الضمير مؤنثًا، لإرادة الجراحة كما مر في رواية:"كل كَلْمة يُكلمها".
وقوله: "إذْ طُعِنت" بسكون الذال، أي: حين، والمطعون هو المسلم، وهو مذكر، لكن لما أُريد طعن بها، حذف الجار، ثم أوصل الضمير المجرور بالفعل، وصار المنفصل متصلًا، وتسمية الضمير المستتر متصلًا طريقة، والأجود أن الاتصال والانفصال وصف للبارز، وفي بعض أصول البخاري، كمسلم:"إذا طُعِنت" بالألف بعد الذال، وهي هنا لمجرد الظرفية، أو بمعنى إذ، فقد يتقارضان، أو لاستحضار صورة الطَّعن؛ لأن الاستحضار كما يكون بصريح لفظ المضارع، نحو:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}
[فاطر: 9]، يكون بما في معنى المضارع، كما فيما نحن فيه.
وقوله: "تفجَّر" بفتح الجيم مشددة، وحذف التاء الأولى، أصله تتفجَّر، وروي بضم الجيم من الثلاثي.
وقوله: "اللون لون الدم، والعَرْف عَرْف المسك" بفتح المهملة وسكون الراء، أي: الريح.
والحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته، أنه يشهد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله. وفائدة رائحته الطيبة أن تنتشر في أهل الموقف، إظهارًا لتفضيله أيضًا، ومن ثَم لم يُشرع غسل الشهيد في المعركة.
واستشكل إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب؛ لأنه لا يدخل في طهارة الدم ولا في نجاسته، وإنما ورد في فضل المطعون في سبيل الله.
وأجيب بأن قصد المصنف بإيراده تأكيد مذهبه، في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة، ما لم يتغير، فاستُدل بهذا الحديث على أن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير الدم بالرائحة الطيبة أخرجه من الذم إلى المدح، فكذلك تغير صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يُخرجه عن صفة الطهارة إلى النجاسة.
وتعُقِّب بأن الغرض إثبات انحصار التنجيس في التغير، وما ذكر يدل على أن التنجيس يحصُل بالتغير، وهو وفاق، لا أنه لا يحصُل إلا به، وهو موضع النزاع.
وله أن يجيب، فما لم يحصل التغير يبقى على أصله.
وقيل: إن مقصود البخاري أن يبيِّن طهارة المسك، ردًّا على من يقول بنجاسته، لكونه دمًا انعقد، فلما تغير عن الحالة المكروهة من الزُّهومة وقبح الرائحة، إلى الحالة الممدوحة، وهي طيب رائحة المسك، دخل عليه الحل، وانتقل من حالة النجاسة إلى حالة الطهارة، كالخمر إذا تخلَّلت.
وقال ابن رَشيد: مُراده أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصَلَ من هذا تغليب وصف واحد وهو الرائحة على وصفين وهما الطعم واللون، فيُستنبط منه أنه متى تغير أحد أوصافه الثلاثة بصلاح أو فساد، تبعه الوصفان، وكأنه أشار بذلك إلى ردِّ ما نُقل عن ربيعة وغيره أن تغير الوصف الواحد لا يُؤثر حتى يجتمع اثنان.
قال: ويُمكن أن يُستدل به على أن الماء إذا تغير ريحه بشيء طيب لا يسلبُه اسم الماء، كما أن الدم لم ينتقل عن اسم الدم مع تغير رائحته إلى رائحة المسك؛ لأنه قد سماه دمًا، مع تغير الريح، فما دام الاسم واقعًا على المسمّى، فالحكم تابع له.
ويرد على الأول أنه يلزم منه أن الماء إذا كانت أوصافه الثلاث فاسدة، ثم تغيرت صفة واحدة منها إلى صلاح، أنه يُحكم بصلاحه كله. وعلى الثاني أنه لا يلزم من كونه لم يُسلب اسم الماء أن لا يكون موصوفًا بصفة تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه.
قلت: الاعتراض الثاني ظاهر، والأول غير لازم؛ لأنه زوال وصف واحد بعدما انسلبت طهورية الماء بتغير أوصافه الثلاثة لا يُقاس على زوال وصف واحد مع بقاء الوصفين الأصليين.
ولأصحاب "السنن" وصححه الترمذي وابن حِبان والحاكم، عن معاذ بن جبل:"من جُرِح جرحًا في سبيل الله، أو نُكِب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزَر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك"، وعُرِف بزيادة:"نكب نكبة" في هذا الحديث، أن الصفة المذكورة لا تختصُّ بالشهيد، بل هي حاصلة لكل من جُرح، وهذا لا يخالف ما مر من أن الجرح خاص بأن يكون في سبيل الله.
ويُحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندِماله، لا ما يندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحات وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك أن يكون له فضلٌ في الجملة، لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة