الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والتسعون
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قوله: "عن أيوب، عن أبي قلابة" كذا رواه البخاري وأبو عَوانة وأبو داود وأبو نُعيم، وخالفهم مسلم، فزاد بين أيوب وأبي قِلابة أبا رجاء مولى أبي قِلابة.
قال الدارقطني وغيره: ثبوت أبي رجاء وحذفه في حديث حمّاد بن زيد عن أيوب صواب؛ لأن أيوب حدث به عن أبي قِلابة في قصة العُرَنيين خاصة، فرواه أكثر أصحاب حمّاد مقتصرين عليها، وحدث به أيوب أيضًا عن أبي رجاء عن أبي قِلابة، وزاد فيه قصة طويلة لأبي قِلابة مع عمر بن عبد العزيز، تأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الديات، ووافقه على ذلك حجّاج الصوّاف عن أبي رجاء، فالطريقان جميعًا صحيحان.
وقوله: "عن أنس"، زاد الأصيلي:"ابن مالك".
وقوله: "قدم أناس" وللأصيلي والكشميهني والسرخسي: "ناس" أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرح به المصنف في الديات.
وقوله: "من عُكْل أو عُرَيْنة"، عُكْل -بضم العين وسكون الكاف- قبيلة من
تَيْم الرَّباب، وعُرَيْنة -بالعين والراء المهملتين والنون مصغرًا- حي من قُضاعة، وحي من بجَيلة، والمراد هنا الثاني كما ذكره موسى بن عقبة في المغازي، والطبراني.
وغلِط من زعم أن عُرَينة هم عُكْل، بل هما قبيلتان متغايرتان، عُكْل من عدنان، وعُرَيْنة من قَحْطان. وغلِط أيضًا مَنْ قال: إنهم من بني فَزارة؛ لأن بني فَزارة من مُضر، لا يجتمعون مع عُكْل ولا مع عُرَينة.
والشك فيه من حمّاد. وقال الكِرْماني: ترديد من أنس. وقال الداوودي: شك من الراوي. وللمؤلف في الجهاد عن أيوب: "إن رهطًا من عُكْل" ولم يشك، وله في الزكاة عن قتادة:"إن رهطًا من عُرَيْنة" ولم يشك، وكذا لمسلم.
وفي المغازي عن قتادة أيضًا: "إن ناسًا من عُكْل وعُرَيْنة" بالواو العاطفة. قال في "الفتح": وهو الصواب ويؤيده ما رواه أبو عَوانة والطبري عن أنس قال: كانوا أربعة من عُرَينة وثلاثة من عُكْل، قال: وهذا لا يخالف ما عند المصنف في الجهاد والديات عن أنس بطريقين: "إن رهطًا من عُكْل ثمانية" لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم ينسب. وغَفَل من نسب عدتهم ثمانية لأبي يعلى، وهي عند البخاري ومسلم.
قلت: هذا الجواب عن العدد، فأين الجواب عن كون الثمانية من عُكْل، وفي الذي قبله من عُكْل وعُرينة.
ولابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست، وذكرها المصنف بعد الحُدَيْبية، وكاتَ في ذي القعدة منها. وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حِبّان وغيرهما. وللمصنف في المحاربين عن أيوب أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل.
وقوله: "فاجتَوَوا المدينة" بالجيم وواوين، أي: أصابهم الجوى، وهو داء الجَوْف إذا تطاول. ويقال: اجتويتُ البلد إذا كَرهْتُ المُقام فيه، وإن كنت في
نعمة. وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة، وهو المناسب لهذه القصة. وقيل اجتَوَوا، أي: لم يوافقهم طعامها، زاد المصنف في رواية يحيى بن أبي كثير قبل هذا:"فأسلموا"، وفي رواية أبي رجاء قبل هذا:"فبايعوه على الإِسلام"، وللمصنف عن قتادة في هذه القصة:"فقالوا: يا رسول الله: إنا كنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريف"، وله في الطب عن ثابت:"إن ناسًا كان بهم سُقْم، قالوا: يا رسول الله: آوِنا وأطعمنا. فلما صحّوا، قالوا: إن المدينة وخمة"، والظاهر أنهم قدموا سِقامًا، فلما صحوا من السُّقم كرهوا الإقامة في المدينة لوخَمها.
والسقم الذي كان بهم هو الهزال الشديد والجهد من الجوع، فعند أبي عَوانة عن أنس:"كان بهم هزال شديد"، وعنده أيضًا عنه:"مصفرةٌ ألوانُهم"، وأما الوَخَم الذي شكَوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حُمّى المدينة كما عند أحمد، وعن مسلم عن أنس:"وقع بالمدينة المُوم" -بضم الميم وسكون الواو-، وهو البِرْسام -بكسر الموحدة- سرياني معرب، يطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس والصدر، والمراد هنا الأخير. فعند أبي عَوانة عن أنس في هذه القصة:"فعَظُمت بطونُهم".
وقوله: "فأمرهم بلِقاح" بلام مكسورة، جمع لَقُوح كقَلوص وقِلاص، أو جمع لِقْحة بكسر اللام، وهي النوق ذوات الالبان، ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون. والمعنى: أمرهم أن يلحقوا بها، وللمصنف عن أبي قَتادة:"فأمرهم أن يلحَقوا براعيه"، وله عن حماد:"فأمر لهم بلِقاح" بزيادة اللام، فيحتمل أن تكون زائدة، أو للتعليل، أو لشبه الملك، أو للاختصاص، وليست للتمليك.
وعند أبي عَوانة أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا:"يا رسول الله: قد وقع هذا الوخم، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل". وللمصنف عن أيوب أنهم قالوا: "يا رسول الله: أبغِنا رِسلًا" أي: اطلب لنا لبنًا. قال: "ما أجِدُ لكم إلا أن تلحقوا بالذَّود"، وفي رواية أبي رجاء:"هذه لقاح لنا تخرج، فاخُرجوا فيها"، وظاهر ما مر أن اللقاح كانت له عليه الصلاة والسلام، وصرح بذلك في
المحاربين، فقال:"إلا أن تلحَقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وله فيه وفي الزكاة:"فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة"، والجمع بين ذلك هو أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يَخْرُجوا مع راعيه، فخرجوا معه إلى إبل الصدقة، ففعلوا ما فعلوا.
وذكر ابن سعد أن عدد لقاحه عليه الصلاة والسلام خمس عشرة، وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها الحناء وتابع في هذا الواقدي، وقد ذكره في "مغازيه" مرسلًا بإسناد ضعيف، وعند أبي عَوانة:"كانت ترعى بذى الجْدر" بالجيم والدال المهملة الساكنة، ناحية قُباء، قريبًا من عين على ستة أميال من المدينة.
وقوله: "وأن يشربوا من أبوالها وألبانها": أي: وأمرهم بالشرب منهما وله في رواية أبي رجاء: "فاخرُجوا فاشربوا من أبوالها وألبانها" بصيغة الأمر، وفي رواية قتادة:"فرخَّص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا".
أما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل، وأما شربهم لبن لقاحه عليه الصلاة والسلام فبإذنه المذكور. وأما شربهم البول فاحتج به من قال بطهارته.
قال في "الفتح": أما في الإبل فبهذا الحديث الصحيح، وأما في غيرها من مأكول اللحم فبالقياس عليها.
قلت: ليس الأمر كما ذكر، بل الجميع بالنص، أعني: النعم، أما الغنم فبالحديث الذي بعد هذا، والأحاديث الآتية عنده، وأما البقر فقد أخرج عبد الله بن وَهْب في "مسنده" عن ابن المغفّل:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلّى في معاطن الإبل، وأمر أن يُصلى في مراح البقر والغنم". وقال ابن المنذر: تجوز الصلاة في مراح البقر، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام:"أينما أدركتك الصلاة فصلِّ"، فالقياس الذي قاله لعله في مأكول اللحم من غير الأنعام، مع أنه يأتي قريبًا ما يدل على العموم، ويأتي إن شاء الله التنبيه على
علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل مع التصريح بطهارة بولها.
والقول بالطهارة قال به مالك، وأحمد، ومحمد بن الحسن الحنفي، والإصْطَخْري والرُّوياني الشافعيان، وهو قول الشعبي، والنَّخعي، وعطاء، والزّهري، والثوري، وابن سِيرين، والحكم، وابن خُزيمة، وابن المنذر.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور وأيو يوسف بنجاسة الأبوال كلها إلَاّ ما عُفي عنه.
واحتج ابن المنذر للطهارة بأن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة، قال: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك فلم يصب، إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، قال: وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم، واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديمًا وحديثًا من غير نكير، دليل على طهارتها.
قال في "الفتح": وهذا استدلال ضعيف؛ لأن المختلف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدل ترك إنكاره على جوازه، فضلًا عن طهارته.
قلت: هذا الجواب ساقط؛ لأن قول ابن المنذر: تَرْك أهل العلم. شامل للصحابة ومن بعدهم قبل تقرر الخلاف المذكور، فهو رد على المخالفين جاعلًا ترك النهي من الصحابة والتابعين كالاجماع على طهارته، فلا وجه حينئذ للخلاف، وأين الجواب عن قوله: إن الخصائص لا تثبت إلا بدليل؟
وحمل القائلون بالنجاسة من الشافعية الحديث على التداوي، قالوا: فليس فيه دليل على الإباحة في غير حال الضرورة. وحديث أم سلمة المروي عند أبي داود: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا حرمة، كالميتة للمضطر، ولا يرد قوله صلى الله عليه وسلم في الخمر:"أنها ليست بدواء، إنها داء" في جواب مَن سأله عن التداوي بها فيما رواه مسلم، فإن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق به غيرها من المسكر، والفرق بين المسكر وغيره من النجاسات أن الحد يثبت باستعماله في حالة الاختيار دون غيره، ولأن شربه يجُر إلى مفاسد كثيرة، ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن
في الخمر شفاء، فجاء الشرع بخلاف معتقدهم.
قلت: ما أجابوا به عن حديث أم سلمة من حمله على حالة الاختيار يردُّه الحديث نفسه؛ لأن الشفاء لا يكون إلا من المرض، والمرض هو محل الضرورة، والحديث نص في أن المرض لا يُعالج بشيء يحصُل له به الشفاء مما هو محرم، والفرق بينه وبين أكل الميتة للمضطر واضح جلي، فإن أكل الميتة محقِّق حصول النفع المطلوب منه، وهو إزالة الجوع، ولا كذلك الدواء بالمحرم. وقالوا: إن الإبل قد روى ابن المُنذر عن ابن عباس مرفوعًا أن في أبوالها شفاء للذَّرِبة بطونُهم، والذَّرَب فساد المعدة، قالوا: فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، والجواب عن هذا أن كون بول الإبل فيه شفاء للذَّرَب دالٌّ على طهارته، إذ لا يصِف صلى الله عليه وسلم شيئًا بأن فيه دواء وهو نجس.
قال في "الفتح": والتمسك للنجاسة بحديث أبي هريرة الذي صححه ابن خُزيمة وغيره مرفوعًا: "استنزهوا من البولِ، فإن عامة عذاب القبر منه" أولى، لأنه ظاهر في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها لهذا الوعيد.
قلت: غفل رحمه الله تعالى من أجل محبة الانتصار لمذهبه عن كون الحديث واردًا في قصة صاحب القبر، وقد مر في رواية الأعمش عند البخاري هذا اللفظ:"فكان لا يستتر من البول"، أعني اللفظ الدال على العموم، لتعريفه باللام.
ومرَّ قول البخاري في تفسيره له: لم يذكر سوى بول الناس. يريد أنه لا يُراد به بول سائر الحيوان.
ومرّ الرد على الخطابي، حيث استدل به على ما استدل هو له بهذا الحديث من نجاسة جميع الأبوال، بأن التعريف أُريدَ به الخصوص، لقوله في الرواية الأخرى:"من بوله" بالإضافة، أو يقال: إن الالف واللام بدل من الضمير.
وأما القائلون من الحنفية بالنجاسة، فحملوا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّ هؤلاء بذلك؛ لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، قالوا: لا يوجد
مثله في زماننا، كما خصَّ الزبير رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير لحكة كانت به، أو للقمل، فجعلوا هذا من الخصائص لأولئك النفر.
ويكفي في بطلان ما قالوه ما مر عن ابن المنذر، من أن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وأين الدليل على ذلك، ومن أين لهؤلاء النفر الأرذال أن تكون لهم خصيصة، هذا بعيد جدًّا وما نظروا به من مسألة الزبير في لباس الحرير غير موافق، فإن ما أبيح للزبير عام له ولغيره من كل من كان فيه ما فيه من الحكة.
وقد وردت أحاديث تدل على عموم الطهارة في فضلات ما يُؤكل لحمه، منها ما أخرجه الدارقطني عن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعًا:"ما أُكل لحمه فلا بأس ببوله" لكنه ضعفه. ومنها الحديث الصحيح الوارد في غزوة تبوك: "فكان الرجل ينْحَرُ بعيره، فيعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده". قال ابن خزيمة: لو كان الفرث نجسًا إذا عصره، لم يجز للمرء أن يجعله على كبده.
وقوله: "فلما صحُّوا" فيه حذف تقديره، فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحّوا، وثبت ذلك في رواية أبي رجاء، وفي رواية:"وسمِنوا، ورجعت إليهم ألوانهم".
وقوله: "قتلوا راعي النبي"، ولابن عساكر:"رسول الله"، وهو يسار النُوبي، قال ابن إسحاق: أصابه في غزوة بني ثعلبة، فرآه يحسنُ الصلاة، فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحَرَّة، فكان بها إلى أن قُتل، وذلك انهم لما عَدَوا على اللقاح أدركهم ومعه نفر، فقاتلهم، فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في عينيه ولسانه حتى مات، ذكره ابن سعد في "الطبقات".
ولم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعيه عليه الصلاة والسلام، ولا في ذكره بالإِفراد، وكذا عند مسلم، لكن عنده عن أنس:"ثم مالوا على الرعاة، فقتلوهم" بصيغة الجمع، ونحوه لابن حبان، فيحتمل أن إبل الصدقة كان لها رُعاة، فقتل بعضهم مع راعي النبي صلى الله عليه وسلم، فاقتصر بعض الرواة على راعيه عليه الصلاة والسلام، وذكر بعضهم معه غيره.
ويُحتمل أن يكون بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوَّرَ في الاتيان بصيغة الجمع، وهذا أرجح؛ لأن أصحاب "المغازي" لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار.
وقوله: "واستاقوا النَّعَم" من السَّوق، وهو السير العنيف.
وقوله: "فجاء الخبر" في رواية وُهيب: "الصَّريخ" بالخاء المعجمة، وهو بمعنى فاعل، أي: صرخ بالاعلام بما وقع لهم، وهذا الصارخ هو أحد الراعيين كما في "صحيح" أبي عَوانة، ولفظه:"فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالابل"، والراعي الآتي بالخبر، قال في "الفتح" لم أقف على اسمه.
وقوله: "فبعث في آثارهم"، يعني: الطلب، وعن سلمة بن الأكوع:"خيلًا من المسلمين، أميرهم كُرْز بن جابر الفِهري" بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي، وللنسائي:"فبعث في طلبهم قافّة"، جمع قائف. ولمسلم عن أنس أنهم شباب من الأنصار "قريب من عشرين رجلًا، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصُّ آثارهم"، ولم يعرِّف اسم القائف، ولا اسم واحد من العشرين. وفي "مغازي" موسى بن عقبة أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد بزيادة الياء، والذي لغيره أنه سعد بن زيد الأشهلي بسكون العين، وهذا أنصاري أيضًا، فيحتمل أنه كان رئيس الأنصار، وكان كُرز أمير الجماعة. وروى الطبري عن جرير بن عبد الله "أن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه في آثارهم" وإسناده ضعيف، والمعروف أن جريرًا تأخر إسلامه عن هذا الوقت بمدة.
وقوله: "فلما ارتفع النهار" فيه حذف تقديره: فأُدرِكوا في ذلك اليوم، فأُخذوا، فلما ارتفع النهار جيء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسارى.
وقوله: "فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم"، كذا للأصيلي والمستملي والسَّرْخسي، وللباقين:"فقطع أيديهم وأرجلهم" وإسناد الفعل على هذه الرواية إليه عليه الصلاة والسلام مجاز، بدليل الرواية الأولى، وأيديهم جمع يد، فإما
أن يُراد بها أقل الجمع، وهو اثنان كما عند بعضهم؛ لأن لكل واحد منهم يدين، وإما أن يراد التوزيع عليهم، بأن يُقطع من كل واحد منهم يدًا واحدة، والجمع في مقابلة الجمع يدل على التوزيع، والاحتمال الأول ترده رواية الترمذي:"من خلاف"، وللمصنف من رواية الأوزاعي:"ولم يحسمهم" أي: لم يَكْوِ ما قُطع منهم بالنار، لينقطع الدم، بل تركه ينزف.
وقوله: "وسُمِرت أعينهم" بضم السين وتخفيف الميم، وفي رواية بتشديدها، ولم تختلف روايات البخاري في أنه بالراء. وعند مسلم:"سُمِلت" بالتخفيف واللام مبنيًّا للمفعول، ومعنى سُمِرت: كحِّلوا بمسامير، قد أُحميت، والسَّمْل: فقء العين بأي شيء كان، قال أبو ذُؤيب:
والعينُ بعدَهُمُ كأنَّ حِداقَها
…
سُمِلتْ بشوكٍ فهي عُورٌ تدمعُ
والسَّمْر لغة في السَّمْل، ومخرجهما متقارب، وإنما فُعل هذا بهم قصاصًا، لأنهم سملوا عيني الراعي كما مر، وليس من المُثْلة المنهي عنها.
وقوله: "وأُلقوا في الحَرَّة" بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، والحرَّة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء أرض ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار بظاهر المدينة المنورة، وكانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية، وإنما أُلقوا فيها لأنها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا.
وقوله: "يَستَسْقون فلا يُسقَوْن" بفتح أول الأول وضم أول الثاني، أي: يطلبون السقي فلا يُسقون، زاد وهيب والأوزاعي:"حتى ماتوا"، وله في الطب عن أنس:"فرأيت رجلًا منهُم يكدُمُ الأرض بلسانه حتى يموت"، ولأبي عَوانة:"يكدُم الأرض ليجِدَ بردَها من الحرِّ والشِّدة".
وزعم الواقِدي أنهم صُلبوا، والروايات الصحيحة ترده، لكن عند أبي عَوانة عن أنس:"فصلبَ اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين" فذكر ستة فقط، فإن كان محفوظًا فعقوبتهم كانت موزعة.
ومال جماعة منهم ابن الجوزي إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص، لما عند مسلم عن أنس: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة. وقَصَّر من اقتصر في عزوه للترمذي والنسائي.
وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المثلة في حقهم وقعت من جهات، وليس في الحديث إلا السَّمْل فيحتاج إلى ثبوت البقية.
والجواب أنهم تمسكوا بما مر عن ابن سعد ونقله أهل "المغازي" من أنهم مثلوا بالراعي، وذهب آخرون إلى أن هذا نُسِخَ.
قال ابن شاهين عقب حديث عِمران بن حُصَيْن في النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثلة.
وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تأريخ.
والجواب عنه أنه يدل عليه ما رواه البخاري عن أبي هُريرة في الجهاد من النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه، وقصة العُرَنيّين قبل إسلامه، وقد حضر الإذن ثم النهي.
وقد روى قَتادة عن ابن سِيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود.
ولموسى ابن عقبة في "المغازي" ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة الآتية في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين عن الشافعي.
واستشكل القاضي عِياض عدم سقيهم الماء، مع الإجماع على أن من وَجَبَ عليه القتل فاستقى لا يُمنع، وأجاب بأن ذلك لم يقع بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وقع منه نهي عن سقيهم. وهو مردود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم.
وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقى الماء ولا في
غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته، ليس له أن يسقيه للمرتد ويتيمم، بل يستعمله ولو مات المرتد عطشًا.
وقال الخطابي: إنما فعل عليه الصلاة والسلام ذلك بهم؛ لأنه أراد بهم الموت بذلك.
وقيل: إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حَصَلَ لهم بها الشفاء من الجوع والوخم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالعطش على من عطَّش آل بيته في قصة رواها النسائي، فيُحتمل أن يكونوا في تلك الليلة منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يُراح به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من لِقاحِهِ في كل ليلة، كما ذكره ابن سعد.
وقوله "قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا"؛ لأنهم أخذوا اللقاح من حرز مثلها، وهذا قاله أبو قِلابة استنباطًا.
وقوله: "وكفروا" هو من روايته عن قَتادة عن أنس في "المغازي"، وفي رواية وهيب عن أيوب في أصل الحديث في الجهاد.
وقوله: "وحاربوا الله ورسوله" أطلق عليهم المحاربة، لما ثبت عند أحمد من رواية حُميد عن أنس في أصل الحديث:"وهربوا محاربين"، فليس قوله:"وكفروا وحاربوا" موقوفًا على أبي قِلابة. وقول أبي قِلابة هذا إن كان مقول أيوب فهو مسند، وإن كان من مقول المؤلف فهو من تعاليقه.
وفي الحديث من الفوائد غير ما مر قدوم الوفود على الامام، ونظره في مصالحهم. وفيه مشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها. وفيه أن كل جسد يُطَبُّ بما اعتاده. وفيه قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصًا. وفيه المماثلة في القصاص، وليس ذلك من المثلة المنهي عنها. وثبوت حكم المحاربة في الصحراء، وأما في القرى ففيه خلاف. وفيه جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره قياسًا عليه بإذن الامام. وفيه العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك المعرفة التامة.