الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثلاثون
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَاّ أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ. حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ. وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ".
قوله: "كانت بنو إسرائيل" أي: جماعتهم، وهو كقوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ} [الحجرات: 14].
وقوله: "يغتسلون عراة"، ظاهره أن ذلك كان جائزًا في شرعهم، وإلا لما أقرهم موسى على ذلك، أو كان حرامًا عندهم، لكنهم كانوا يتساهلون في ذلك، وهذا الثاني هو الظاهر؛ لأن الأول لا ينهضُ أن يكون دليلًا لجواز مخالفتهم له في ذلك، ويؤيده قول القرطبي: كانت بنو إسرائيل تفعل ذلك معاندةً للشرع، ومخالفة لموسى عليه الصلاة والسلام، وهذا من جملة تعنُّتهم، وقلة مبالاتهم باتِّباع شرعه.
وقوله: "وكان موسى يغتسل وحده" أي: يختار الخَلْوة، تنزهًا واستحبابًا وحياءً ومروءةً، أو لحرمة التعري.
وقوله: "إلَاّ أنه آدَرُ" بالمد وفتح الدال المهملة وتخفيف الراء، أي: عظيم
الخصيتين منتفخهما، والأُدْرة -بضم الهمزة وسكون الدال على المشهور، وبفتحتين- انتفاخ الخصية.
وقوله: "فوضع ثوبه على حجر" ظاهره أنه دخل الماء عريانًا، وهو الذي يقتضيه تبويب المصنف. ونقل ابن الجوزي عن الحسن بن أبي بكر النيسابوري أن موسى نزل الماء مؤتزِرًا، فلما خرج تتبَّع الحجر والمئزَرُ مبتلٌّ بالماء، فعلموا أنه غير آدر؛ لأن الأُدْرة تَبِين تحت الثوب المبتَل.
قال في "الفتح": هذا وإن كان محتَمَلًا، المنقول يخالفه؛ لأن في رواية علي بن زيد عن أنس عند أحمد في هذا الحديث أن موسى كان إذا أراد أن يدخُل الماء، لم يُلْقِ ثوبه حتى يُواري عورته في الماء.
وهذا الحجر، قال سعيد بن جُبَيْر: هو الحجر الذي كان يحمله معه في أسفاره، فيتفجَّر منه الماء.
وقوله: "ففرَّ الحجر بثوبه، فخرج موسى في أَثَره" في رواية الكُشْميهني وأبي الوقت: فجَمَعٍ". وأثره -بكسر الهمزة وسكون المثلثة، وبفتحهما- أي: ذهب يجري مسرعاً بعده.
وقوله: "ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر" أي: ردَّ ثوبي، أو أعطني، فهو منصوب بفعل مقدر، ويحتمل أن يكون مرفوعًا خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا ثوبي، وعلى هذا الثاني، المعنى: استعظام كونه يأخذ ثويه، فعامله معاملة من لا يعلم كونه ثوبه، كي يرجِعَ عن فعله ويَرُدَّه.
وقوله: "ثوبي يا حجر" الثانية، ثابتة للأربعة، ولغيرهم:"ثوبي حجر" بحذف "يا"، وإنما خاطبه لأنه أجراه مجرى من يعقل، لكونه فرَّ بثوبه، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان، فناداه، إذ المتحرِّك يمكن أن يَسْمَع ويُجيب، فلما لم يُعْطِه ضربه.
وقوله: "حتى نَظَرت بنو إِسرائيل إلى موسى" ظاهره أنهم رأوا جسده، وبه
يتم الاستدلال على جواز النظر عند الضرورة لمداواة وشبهها، ويأتي ما في هذا قريبًا إِن شاء الله تعالى. وأبدى ابن الجوزي الاحتمال السابق في أنه كان عليه مِئْزَر مبتَلٌّ.
وقوله: "والله ما بِموسى من بأس"، في رواية أحاديث الأنبياء "فرأوه عُريانًا أحسنَ الخلائق"، وفي رواية:"فرأوه كأحسن الرجال خَلْقًا"، وعند ابن خُزيمة:"وأعدله صورةً".
وقوله: "فطفِقَ بالحجر ضربًا" بكسر فاء "طفِق" وفتحها، وللأصيلي:"وطفِق" أي: شرع في الحجر يضربه ضربًا. وفي رواية الكُشميهني: "فطفِق الحجر ضربًا" والحجر على هذه منصوب بفعل مقدر، أي: يضرب الحجر.
وقوله: "فقال أبو هُريرة"، وللأصيلي وابن عساكر:"قال"، وهذا إما من تتمة مقول همّام، فيكون مُسْنَدًا، أو مقول أبي هريرة، فيكون تعليقًا، وبالأول جزم في "الفتح".
وقوله: "وإنه لَنَدَب بالحجر" بفتح النون والدال، أي: أثر، فالنَّدَب أثر الجرح.
وقوله: "ستة" بالرفع على البدلية، أي: ستة آثار، أو بتقدير هي، أو بالنصب على الحال من الضمير المستكِنّ في قوله:"بالحجر"، فإنه ظرفٌ مستقرٌّ لنَدَب، أي: إنه لَنَدَب استقرَّ بالحجر حال كونه ستة آثار.
وقوله: "أو سبعة" بالشك من الراوي.
وقوله: "ضربًا بالحجر" بنصب ضربًا على التمييز، أراد عليه الصلاة والسلام إظهار المعجزة لقومه بأثر الضرب في الحجر، ولعله أُوحي. إليه أن يِضرِبه. ومَشْيُ الحجر بالثوب معجزة أخرى.
وفي الحديث جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية لذلك، من مداواة أو براءة من عَيْب كما رُمِي به موسى من الأُدْرة أو البرَصَ.
واعتُرض هذا بأنه إنما يكون حيث يترتَّب على الفعل حكم، كفسخ النكاح، وأَما قصة موسى عليه الصلاة والسلام فليس فيها أمر شرعي ملزِم يترتب على ذلك، فلولا إباحة النظر إلى العورة لما أمكنهم موسى عليه الصلاة والسلام من ذلك، ولا خرج مارًّا على مجالسهم وهو كذلك. ويدُلُّ على الإباحة أيضًا ما وقع لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم وقت بناء الكعبة من جعل إزاره على كتفه بإشارة العباس عليه بذلك، ليكون أرفق به في نقل الحجارة، ولولا إباحته لما فعله، لكنه ألزم بالأكمل والأفضل لعلو مرتبته صلى الله عليه وسلم.
ومجرَّدُ تستُّرِ موسى عليه الصلاة والسلام لا يدُلُّ على الوجوب، لما قُرِّر في الأصول أن الفعل لا يدُلُّ بمجرده على الوجوب، وليس في الحديث أن موسى عليه السلام أمرهم بالتستُّر ولا أنكر عليهم التكشُّف.
وقال ابن الجوزي: لما كان موسى في خَلْوة، وخرج من الماءِ، ولم يجد ثوبه، تبع الحجر بناءً على أنه لا يصادِف أحدًا وهو عُريان، فاتَّفق أنه كان هناك قوم، فاجتاز بهم. كما أن جوانب الأنهار وإن خلت، غالبًا لا يُؤمن وجود قومٍ قريبًا منها، فبنى الأمر على أنه لا يراه أحد لأجل خلاء المكان، فأتَّفق رؤية من رآه، والذي يظهر أنه استمر يتبع الحجر على ما في الخبر، حتى وقف على مجلس من بني إسرائيل، كان فيهم من قال فيه ما قال، وبهذا تظهر الفائدة، وإلا فلو كان الوقوف على قوم منهم في الجملة، لم يقع ذلك الموقع.
وفي الحديث أن الأنبياء في خَلْقِهم وخُلُقِهم على غاية الكمال، وأن من نَسَبَ نبيًّا من الأنبياء إلى نقص في خِلْقته فقد آذاه، ويُخشى على فاعله الكفر.
قلت: بل هو مرتدٌّ في مذهب الإمام مالك.
وفيه أن الآدمي يغلب عليه طباع البشر؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام علم أن الحجر ما سار بثوبه إلا بأمر من الله، ومع ذلك عامله معاملة من يعقِلُ حتى ضربه، ويُحتمل أنه أراد بيان معجزة أخرى لقومه بتأثير الضرب بالعصى في الحجر كما مر.