الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والثمانون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
وقوله: "لم يأكل الطعام"، المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه، والتمر الذي يُحَنَّك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة، وغيرها، فكان المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن علي الاستقلال، قاله النووي في "شرح مسلم"، وفي "الروضة": المراد أنه لم يَطْعم ولم يشرب غير اللبن. وقيل: المراد أنه لم يأكل غير اللبن وغير ما يُحنك به وما أشبهه. وحمل الموفق الحموي قوله: "لم يأكل" على ظاهره، فقال: معناه لم يستقلَّ بجعل الطعام في فمه. والأول أظهر. وقال ابن التين: يُحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوَّت بالطعام، ولم يستغن به عن الرضاع، ويُحتمل أنها إنما جاءت به عند الولادة ليحنكه صلى الله عليه وسلم، فيحمل النفي على عمومه، ويؤيده ما مر قريبًا أنه للمصنف في العقيقة في الحديث الذي قبله.
وظاهر قولهم: لم يطعم غير اللبن. شموله للبن الآدمي وغيره، وظاهره أنه لا فرق بين النجس وغيره، وأما قول الزركشي: لو شرب لبنًا نجسًا أو متنجسًا فينبغي وجوب غسل بوله، كما لو شربت السخلة لبنًا نجسًا يحكم بنجاسة أنفحتها، وكذا الجلّالة، فإنه مردود بأن استحالة ما في الجوف تُغير حكمه الذي كان، بدليل قول الجمهور بطهارة لحم جديٍ ارتضع كلبةً أو نحوها، فنبت لحمه من لبنها، ويعدم تسبيع المخرج فيما لو أكل لحم كلب، وإن وجب تسبيع
الفم، وما قاس عليه لم يذكره الأئمة كما اعترف هو به في أثناء كلامه، وهو ممنوع؛ لأن الأنفحة لبن جامد لم يخرج من الجوف، فهي مستحيلة في الجوف، وقد عرف أن الحكم يتغير بالاستحالة، والجلّالة لحمها ولبنها طاهران كما هو المذهب عند الجمهور، وإن صحح في "المحرر" خلافه، قاله القسطلاني.
قلت: وعند المالكية، المستعمل للنجاسة مما بوله طاهر يكون ما يخرج منه نجسًا مدةَ ظنِّ بقائها في جوفه.
وقوله: "فأجلسه" أي: وضعه إن قلنا إنه كان كما ولد، ويُحتمل أن يكون الجلوس حصل منه على العادة إن قلنا كان في سن مَنْ يحبو، كما في قصة الحسن.
وقوله: "على ثوبه" أي: ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وأغرب ابن شعبان من المالكية، فقال: المراد به ثوب الصبي، والصواب الأول.
وقوله: "فنضحه "أي رشه بماء عَمَّه وغلبه من غير سيلان. ولمسلم عن ابن شهاب: "فلم يزد على أن نضح بالماء"، وله عنه أيضًا:"فرشَّه"، زاد أبو عَوانة في "صحيحه":"عليه"، ولا تخالف بين الروايتين، أي: بين نضح ورش؛ لأن المراد به أن الابتداء كان بالرش وهو تنقيط الماء، وانتهى إلى النضح، وهو صب الماء. ويؤيده رواية مسلم عن عائشة:"فدعا بماء، فصبه عليه"، ولأبي عَوانة:"فصبه على البول يتبعه إياه".
والفاءات الأربعة في قوله: فأجلسه، فبال، فدعا بماء، فنضحه، للعطف للكلام بمعنى التعقيب.
وقوله: "ولم يغسله" أي: لم يبلغ الإسالة، وادَّعى الأصيلي أن قوله:"ولم يغسله" مدرج من كلام ابن شهاب، ليس من المرفوع، قال: وكذلك روى معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شَيْبة، قال:"فرش"، ولم يزد على ذلك.
وليس في سياق معمر ما يدل على ما ادعاه من الإدراج، وما ذكره عن ابن
أبي شيبة لا اختصاص له به، فإن ذلك لفظ ابن عُيينة عن ابن شهاب عند مسلم، وقد بيّنا أنها غير مخالفة لرواية مالك، ورواية مالك رواها معه الليث وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد، كلهم عن ابن شهاب، أخرجه ابن خزيمة والإِسماعيلي وغيرهما عن ابن وَهْب عنهم، وهو لمسلم عن يونس وحده.
وعبَّر في الحديث بالابن دون الولد؛ لأن الابن لا يطلق إلا على الذكر، بخلاف الولد، فإنه يطلق عليهما، وفي ذلك إشارة إلى التفرقة بين بول الغلام والجارية قبل أن يطعما، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب:
الأول: الاكتفاء بالنضح في بول الغلام، ولابد في بولها من الغسل، وهو قول علي وعطاء والحسن والزهري وأحمد والشافعي وإسحاق وابن وهب من المالكية، ورواه الوليد بن مسلم عن مالك، وقال أصحابه: هي رواية شاذة عنه.
واحتج القائلون بالتفرقة بأحاديث ليست على شرط المصنف، منها ما أخرجه أحمد وأصحاب "السنن" إلَاّ النسائي عن علي مرفوعًا:"يُنضح بول الغلام ويُغسل بول الجارية" وإسناده صحيح.
ومنها ما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خُزيمة وغيره عن لبابة بنت الحارث مرفوعًا: "إنما يُغسل من بول الأنثى، ويُنضح من بول الذكر".
ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خُزيمة أيضًا عن أبي السمح نحوه بلفظ: "يرش".
وفرَّق بينهما بأن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، فحصلت الرخصة في المذكور لكثرة المشقة. وبأنه أرق من بولها، فلا يلصق بالمحل كلصوق بولها، لأن بولها بسبب استيلاء الرطوبة والبرودة على مزاجها أغلظ وأنتن، ومثلها الخُنثى كما جزم به في "المجموع".
الثاني: يكفي النضح فيهما، وهو مذهب الأوزاعي، وحكي عن مالك والشافعي، وخصص ابن العربي النقل في هذا بما إذا كانا لم يدخل أجوافهما شيء أصلًا.
والثالث: هما سواء في وجوب الغسل مطلقًا، سواء أكلا الطعام أم لا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، واستدل لهما بأنه عليه الصلاة والسلام نضح، والنضح هو الغسل، لقوله عليه الصلاة والسلام في المذي:"فلْينضح فرجَه" رواه أبو داود وغيره من حديث المقداد، والمراد به الغسل كما وقع التصريح به في مسلم، والقصة واحدة كالراوي. ولحديث أسماء في غسل الدم:"وانضحيه" وقد ورد الرش وأريد به الغسل، كما في حديث ابن عباس في "الصحيح" لما حكى الوضوء النبوي، أخذ غرفة من ماء، ورش على رجله اليمنى حتى غسلها، وأراد بالرش هنا الصب قليلًا قليلًا. وتأولوا قوله:"لم يغسله" أي: غسلًا مبالغًا فيه بالعرك، كما تغسل الثياب إذا أصابتها النجاسة.
وأجاب المفرقون بينهما بأن النضح ليس هو الغسل كما في كتب أهل اللغة، فإنهم قالوا: النضح الرش، ولا نسلم أن حديث المقداد بمعنى الغسل، ولئن سلمنا فبدليل خارجي.
قلت: وهذا جواب لا يخفى ما فيه؛ لأن الحديث دليل أهل اللغة، فما ورد فيه مقدم على كلام أهل اللغة، مع أن كلامهم غير مناف له، وحديث ابن عباس والمقداد الماران صريحان في المراد.
وأجابوا أيضًا بأن ما ورد في الأحاديث من التفرقة بين بول الغلام والجارية يبعد ما قالوه من عدم التفرقة بينهما.
واستدل بعضهم بقول: "ولم يغسله" على طهارة بول الصبي، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وحكي عن مالك والأوزاعي، وأما حكايته عن الشافعي فجزم النووي بأنها باطلة قطعًا، وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم، وأصحاب صاحب المذهب أعلم بمراده من غيرهم، فلا عبرة بجزم ابن عبد البر وابن بطال ومن تبعهما بذلك عن الشافعي وأحمد، وكذلك لم يُعرف ذلك عند الحنابلة، فبول الصبي الذي لم يَطْعم نجس، ولكنه جُوِّز فيه النضح لتخفيف نجاسته لا لطهارته.
واستدل به بعض المالكية على أن الغسل لابد فيه من أمر زائد على مجرد