الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأَذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِا غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ.
قوله: "وضوءه" هو كالذي قبله احترازًا عن الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليدين فقط.
وقوله: "غير رجليه" فيه التصريح بتأخير الرجلين في الغسل، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة كما مر، ويمكن الجمع بينهما إما يحمل رواية عائشة على المجاز، كما مر، أو بحملها على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء، فذهب المالكية والحنفية إلى ما مر عنهم، وعند الحنابلة يكمله، وعند الشافعية قولان في الأفضل، قال النووي: أشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضؤه، قال: لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك.
قال في "الفتح": ليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة، كرواية:"توضأ وضوءه للصلاة" أو ظاهرة في تأخيرهما، كرواية أبي معاوية المارة وشاهدها عن أبي سلمة، أو صريحة في تأخيرهما كحديث الباب، وراويه مقدِّم في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن الأعمش. وقول من قال: إنه فعل ذلك مرة لبيان الجواز. متعقب بما في رواية أحمد، عن أبي معاوية، مما يدل على التكرار والمواظبة، ولفظه: "كان إذا اغتسل من الجنابة،
يبدأ فيغسِلُ يديه، ثم يُفرِغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجَه" فذكر الحديث. وفيه:"ثم يتنحّى فيغسِل رجليه".
وقوله: "وغسل فرجه" فيه تقديم وتأخير؛ لأن غسل الفرج كان قبل غسل الوضوء إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بيَّن ذلك ابن المبارك عن الثوري عند المصنف في باب الستر في الغسل، فذكر أولًا غسل اليدين، ثم غسل الفرج، ثم مسح يده بالحائط، ثم الوضوء غير رجليه. وأتى بـ "ثم" الدالة على الترتيب في جميع ذلك.
وقوله: "وما أصابه من الأذى" أي يغسل ما أصابه من الأذى، كالمني وغيره، فالسُّنَّة البدء بغسل النجاسة، ليقع الغسل على أعضاء طاهرة، ولكن يكفيه لها وللجنابة غسلة واحدة.
وقوله: "هذه غُسله من الجنابة" الإشارة إلى الأفعال المذكورة، أو التقدير: هذه صفة غُسله. وللكُشْمِيهني: "هذا غُسله" وهو ظاهر.
وأشار الإِسماعيلي إلى أن هذه الجملة الأخيرة مُدرجة من قول سالم بن أبي الجعد، وأن زائدة بن قُدامة بيَّن ذلك في روايته عن الأعمش.
واستدل البخاري بهذا الحديث على جواز تفريق الوضوء.
وعلى استحباب الإِفراغ باليمين على الشمال للمُغْتَرف من الماء، لقوله في رواية أبي عَوانة وحفص وغيرهما:"ثم أفرغَ بيمينه على شماله".
وعلى مشروعية المضمضمة والاستنشاق في غُسل الجنابة، لقوله فيها:"ثم تمضمض واستنشق" وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما. وتُعُقِّب بأن الفعل المجرد لا يدُل على الوجوب إلا إذا كان بيانًا لمُجمل تعلَّق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك. وقال العيني: إن وجوبَهما في الغُسل بالنص في قوله تعالى: {فاطَّهَّروا} فإن معناه: طهِّروا أبدانكم، وهذا يشمل الفم والأنف.
وفيه استحباب مسح اليد بالتراب من الحائط أو الأرض، لقوله في الروايات
المذكورة: "ثم دَلَكَ يده بالأرض أو بالحائط".
وفيه الاكتفاء بغسلة واحدة لإزالة النجاسة والغُسل من الجنابة؛ لأن الأصل عدم التكرار، وفيه خلاف. وصحح النووي وغيره أنه يُجزىء، لكن لم يتعيَّن في هذا الحديث أنه كان للنجاسة، بل يُحتمل أنه كان للتنظيف، فلا يدُل على الاكتفاء. وأما دلك اليد بالأرض فللمبالغة فيه، ليكون أنقى.
وأبعد من استدل به على نجاسة المني، أو على نجاسة رُطوبة الفرج؛ لأن الغَسْل ليس مقصورًا على إزالة النجاسة، وقوله في حديث الباب:"وما أصابه من أذى" ليس بظاهر في النجاسة. قلت: هذا مكابرة لا تَخْفى، فإنه صريح في النجاسة لا ظاهر فيها.
واستدل به البخاري على أن الواجب في غُسل الجنابة مرة واحدة.
وعلى أن من توضأ بنية الغسل ثم أكمل باقي أعضاء بدنه لا يُشرع له تجديد الوضوء من غير حدث.
وعلى جواز نفض اليدين من ماء الغُسل، وكذا الوضوء، لما في الروايات الآتية عن ميمونة:"فجعل يَنْفُضُ الماء بيده"، أو:"فانطلق وهو ينفُض يديه"، وفي النهي عنه حديث ضعيف أخرجه ابن حِبّان في "الضعفاء"، وابن أبي حاتم في "العلل" عن أبي هريرة، ولفظه:"لا تنفضوا أيديكم في الوضوء، فإنها مرواحُ الشيطانِ". قال ابن الصلاح: لم أجده. وتبعه النووي. ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يصح الاحتجاج به.
وعلى استحباب التستر في الغسل، ولو كان في البيت، وقد عقد المصنف لكل مسألة بابًا، وأخرج في الأبواب هذا الحديث بطرق متغايرة عن الأعمش، يزيدُ بعض الرواة عنه ما ليس عند الآخر.
وفيه جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل والوضوء، لقولها في رواية حفص وغيره:"وضعتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسلًا"، وفي رواية:"يغتسل به".
وفيه: خدمة الزوجات لأزواجهن.
وفيه الصب باليمين على الشِمال لغسل الفرج بها.
وفيه تقديم غسل الكفيق على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف، لئلا يدخلهما في الماء وفيهما ما لعله يُستقذر، فأما إذا كان في إبريق مثلًا، فالأولى تقديم غسل الفرج لتوالي أعضاء الوضوء.
ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا تُمسح فيه الرأس، بل يُكتفى عنه بغسلها.
واستدل بعضهم بقولها في رواية أبي حمزة وغيره: "فناولته ثوبًا فلم يأخذه، أو فأتيته بخرقة فلم يُرِدْها" على كراهة التنشيف بعد الغُسل، ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلًا، أو غير ذلك. قال المهلب: يُحتمل أن يكون تَرْكُه الثوب لإِبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء آخر في الثوب من حرير أو وسخ. وقد وقع عند أحمد والإسماعيلي عن الأعمش في هذا الحديث: فذكرت ذلك لإبراهيم النَّخَعِي، فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التَّيْمِي: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشَّف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. يعني: لعلمها بأحواله قبل هذا الوقت. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدُل على أن لا كراهة في التنشيف؛ لأن كلًّا منهما إزالة. وروى الشيخان عن أم هانىء: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبه، فالتَحَفَ به. وهذا ظاهر في التنشيف. وأخرج أبو داود عن قيس بن سعد، قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة وَرْسية، فاشتَمَل بها، فكأني انظر إلى أثر الورس عليه. وصححه ابن حزم. وروى الترمذي وضعفه، وصححه الحاكم عن عائشة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشَّف بها بعد الوضوء. وروى الترمذي وضعفه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه في ثوبه. وأخرج البيهقي وقال إسناده قوي عن أبي بكر رضي