الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والعشرون
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالأَجَلُ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ".
قوله: "إن الله عز وجل وكل بالرحم" بتخفيف الكاف، يقال: وكله بكذا إذا استكفاه إياه، وصرف أمر إليه، وللأكثر: بالتشديد، وهو موافق لقوله تعالى:{مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
وقوله: "يا ربِّ نطفةٌ" أي: بالرفع والتنوين، أي وقعت في الرحم نطفة، وفي رواية القابِسي بالنصب، أي: خلقْتَ يا ربِّ نطفةً، والنُّطفة بضم النون وتجمع على نُطَف، وأصلها الماء الصافي قلَّ أو كثُر، وتُستعمل النطفة أيضًا في كل شيء خفي.
وقوله: "يا ربِّ عَلَقَةٌ" بفتح اللام، وهي الدم الجامد الغليظ، ومنه قيل للدابة التي تكون في الماء: عَلَقة؛ لأنها حمراء كالدم، فالعلقة قطعة من الدم.
وقوله: "يا ربِّ مُضْغَة" أي: قطعة من اللحم، وهي في الأصل قَدْرُ ما يُمضغ، ويجوز نصب الاسمين عطفًا على السابق المنصوب بالفعل المقدَّر.
وقول الملك ليس فيه فائدة الخبر ولا لازمها؛ لأن الله علاّم الغُيوب، وإنما المراد منه التماس إتمام خَلْقِه، والدعاء بإفاضة الصُّورة الكاملة عليه، أو الاستعلام عن ذلك، فهو على حد قوله تعالى:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36]، فإنها قالته تأسُّفًا وتحزُّنًا.
وبين قول الملك: يا ربِّ نطفة، يا ربِّ علقة، يا ربِّ مُضغة أربعون يومًا، لا في وقتٍ واحد، وإلا لكانت النطفة علقة مضغة في ساعة واحدة.
وقد بيَّنَ المرادَ حديثُ ابن مسعود الآتي في كتاب القدر عند المصنِّف: "إن خَلْقَ أحدِكُم يُجمع في بطن أُمه أربعين يومًا، ثم يكونُ علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعثُ الله مَلَكًا، فيُؤمر بأربعة: برزقه، وأجله، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم ينفُخُ فيه الروح
…
إلخ" فحديث ابن مسعود هذا بجميع طرقه يَدُلُّ على أن الجنين يتقلَّب في مئة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار، كل طورٍ منها في أربعين، ثم بعد تكملتِها يُنفخ فيها الروح.
وقوله: "فإذا أراد أن يَقْضِيَ خَلْقَه" أي: أن يُتم خَلْقَ ما في الرَّحِم من النُّطفة التي صارت عَلَقة، ثم مضغة.
وقوله: "أذكرٌ أم أُنثى؟ " التقدير: أهو ذكرٌ أم أُنثى، فذَكَرٌ خبر للمبتدأ المقدر، أو التقدير: أذكر هو أم أُنثى، فذكرَ مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به وإن كان نكرةً تخصيصُه بثبوت أحد الأمرين، إذ السؤال فيه عن التعيين، وللأصيلي: أذكرًا أم أُنْثى بالنصب. بتقدير: أتخلُقُ ذكرًا أم أُنثى.
وقوله: "شقيٌّ أم سعيدٌ" بحذف أداة الاستفهام لدِلالة السابق عليه، وفيه من الإِعراب ما في الذي قبله.
والشقِيُّ عند الأشاعرة: مَن وَجَبَتْ له النار، بمقتضى ما في الأزل. والسعيد: مَن وَجَبت له الجنة بمقتضى ما في الأزل. وعند الحنفية: الشقي: العاصي، والسعيد: المطيع. فالشقيُّ عندَهم قد يَسْعَد، والسعيد قد يَشْقى، لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغيّر.
وتمسك الأولون بهذا الحديث وأمثاله، كقوله في "الصحيحين":"ما مِنْكم من أحد إلا وقد كُتِبَ مقعدَهُ من النار أو مقعدَهُ من الجنة". وتمسَّكَ الحنفيةُ بمثل قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39].
والحقُّ أن النزاع لفظي، فالذي سَبَق في علم الله لا يتغيّر ولا يتبدّل، والذي
يجوزُ عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعُد أن يتعلق ذلك بما في علم الحَفَظة والموكلين بالآدمي، فيقعُ فيه المحو والإِثبات، كالزيادة في العُمُر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محوَ فيه ولا إثبات. وقوله:"فما الرزق" قليلًا أو كثيرًا، حلالًا أم حرامًا، والرُّزق في اللغة الحظُّ قال تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]، أي: حظكم من هذا الأمر، والحظُّ هو نصيب الرجل، وما هو خاصٌّ له دون غيره.
وقيل: الرزق: كل شيء يُؤكل ويُستعمل، وهذا باطِل؛ لأن الله تعالى أمرنا بان نُنْفِقَ مما رَزَقَنا، فقال تعالى:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} فلو كان الرزق هو الذي يُؤكل، لما أمكن إنفاقه.
وقيل: الرزق: هو ما يُملك، وهذا باطل أيضًا؛ لأن الإِنسان قد يقول: اللهم ارزُقْني ولدًا صالحًا، وزوجةً صالحةً، وهو لا يملِكُ الولد والزوجة.
وقالت المعتزلة: الرزق: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحَظْرُ على غيره أن يمنعه من الانتفاع به. فالحرام ليس برزق عندهم، وعند أهل السنة: الحرام رزق؛ لأنه في أصل اللغة الحظ والنصيب، كما مرّ، فمن انتفع بحرام، كان ذلك الحرام نصيبًا له، فوجب أن يكون رزقًا له. وأيضًا قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [المنافقون: 10]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من الحرام، فوجب أن يكون طول عمره لم يأكل من رزقه شيئًا.
وقوله: "وما الأجل؟ " وفي رواية: "والأجل" بدون ما، والأجل: هو مدة حياة الشخص، أو وقت موته؛ لأنه يُطلق على غاية المدة وعلى المدة.
وقوله: "فيَكْتُب في بطن أُمه" أي: بالبناء للمعلوم، وفاعلُ يكتب، قيل: يرجع إلى الله تعالى، وقيل: يرجع إلى الملك. ويُروى بصيغة المجهول.
وظاهر الحديث أن هذه الكتابة هي الكتابة المعهودة في صحيفته. وفي رواية لمسلم عن حُذيفة بن أسِيْد التصريح بذلك، بلفظ: "ثم تُطوى الصحيفة،
فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَص". وفي حديث أبي ذرٍّ: "فيقضي الله ما هو قاضٍ، فيكتُبُ ما هو لاقٍ بينَ عينيه". ويجوز أن تكون مجازًا عن التقدير.
وقوله: "في بطن أمه" ظرف لقوله: "يكتب"، فهو المكتوب فيه، والشخص هو المكتوب عليه، والمكتوب هو الأمور الأربعة المذكورة.
والمراد بجميع ما ذُكِر من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة والذكورة والأُنوثة أنه يظهر ذلك للملك، ويُؤمر بإنفاذِه وكتابته، وإلا فقضاء الله وعلمه وإرادته سابق على ذلك.
قال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث، يعني: حديث ابن مسعود السابق في مواضع، ولم يُختلف أن نفخ الروح فيه بعد مئة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يُعَوَّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق، عند التنازع وغير ذلك، بحركة الجنين في الجَوْف.
وقد قيل: إنه هو الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهو الدخول في الخامس كما صرح به سعيد بن المسيِّب كما عند الطبري عنه أنه سُئِل عن عدة الوفاة، فقيل له: ما بال العشر بعد أربعة أشهر؟ فقال: يُنفخ فيها الروح.
وزيادة حُذَيْفة ابن أَسِيد مشعرة بان المَلَك لا يأتي لرأس الأربعين، بل بعدها، فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرًا، وهو مصرح به في حديث ابن عباس، "إذا وقعتِ النُّطفةُ في الرحم، مكثت أربعة أشهر وعَشْرًا، ثم ينفخ فيها الروح".
ومعنى إسناد النفخ للمَلَك، أنه يفعله بأمر الله، والنَّفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافخ، ليدخُلَ في المنفوخِ فيهِ، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أن يقول له: كن فيكون.