الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثلاثون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَجُحِشَتْ سَاقُهُ أَوْ كَتِفُهُ، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، وَهُمْ قِيَامٌ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا". وَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ:"إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ".
قوله: عن أنس بن مالك، في رواية سعيد بن منصور عن حميد "حدثنا أنس" وقوله: سقط عن فرس، في رواية "عن فرسه" وأفاد ابن حبّان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة، وقوله: فجُحِشت ساقه، بضم الجيم وكسر الحاء المهملة وبالشين المعجمة، أي خُدشت، والخدش قشر الجلد، أو أشد منه قليلًا. أو كتفه، شك من الراوي، وعند الإسماعيليّ من رواية بشر بن المفضل عن حميد "انفكت قدمه" وفي رواية الزُّهريّ من أنس في الصحيحين "فجحش شِقُّه الأيمن" وهي أشمل مما قبلها، وعند المصنف في باب "يهوي بالتكبير" قال سفيان: سمعت من الزُّهري "شقه الأيمن، فلما خرجنا، قال ابن جُريج: ساقه الأيمن".
وأخرج عبد الرزاق رواية ابن جريج وهي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه.
وقوله: وآلى من نسائه شهرًا، أي حلف أن لا يدخل عليهن شهرًا، وليس المراد به الإيلاء المتعارف بين الفقهاء، وهو الحلف على أن لا يقرب زوجته
أربعة أشهر فصاعدًا. ومن اللطائف أن الحكمة في الشهر مع أن مشروعية الهجر ثلاثة أيام أن عدتهن كانت تسعة، فإذا ضربت في تسعة كانت سبعة وعشرين، واليومان لمارية لأنها كانت أَمَة، فنقصت عن الحرائر. قلت: إنما يتم هذا لو هجر واحدة بعد واحدة، إما في حال اجتماعهن في الهجر شهرًا فلا يتم؛ لأن كل واحدة منهن شهرًا.
وقوله: فجلس في مَشْرُبة له، بفتح أوله وسكون المعجمة وبضم الراء، ويجوز فتحها، وهي الغرفة المرتفعة. وقوله: دُرجتها من جذوع الدُّرجة، بالضم وبالتحريك وكهمزة وتشدد جيم هذه، وكأَسْكُفَّة: المَرقاة، وجذوع بالتنوين من غير إضافة وللكشميهني "من جذوع النخل".
والغرض من هذا الحديث هنا صلاته صلى الله عليه وسلم في المَشْرُبة، وهي معمولة من الخشب. قاله ابن بطال: وتعقب بأنه لا يلزم من كون درجها من خشب أن تكون كلها خشبًا، فيحتمل أن يكون الغرض منه بيان جواز الصلاة على السطح، إذ هي سقف في الجملة. وقوله: وهم قيام، جملة اسمية حالية، وقوله: إنما جعل الإِمام ليُؤَم به، الائتمام الاقتداء والإِتباع، أي جعل الإِمام إمامًا ليقتدى به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، فمتابعته واجبة في كل شيء، وليست شرطًا إلّا في تكبيرة الإحرام والسلام؛ لأن الفاء في قوله "فإذا كبّرَ فكَبّروا" للتعقب المقتضي مشروعية متابعته في الأقوال.
وخالف أبو حنيفة فقال: إن المقتدي يكبر مقارنًا لتكبير الإِمام لا يتقدم ولا يتأخر عنه؛ لأن الفاء للحال. وقال أبو يوسف ومحمد: الأفضل أن يكون بعد فراغ الإِمام من التكبير؛ لأن الفاء للتعقب، وإنْ كبّر مع الإِمام أجزاه عند محمد، وقد أساء، وكذا في أصح الروايتين عند أبي يوسف، وفي رواية لا يضير شارعًا ثم ينبغي أن يكون اقترانهما في التكبير على قوله، كاقتران حركة الخاتم والأصبع. والبعدية على قولهما أَن يوصل ألف الله براء أكبر.
وقال خواهر زاده: قول أبي حنيفة أدق وأجود، وقولهما أحوط وأرفق. وقول الشافعيّ كقولهما. قال النووي وغيره: متابعة الإِمام واجبة في الأفعال الظاهرة، وقد نبه عليها في الحديث، فذكر الركوع وغيره، بخلاف النية .. إلخ ما يأتي. وقال الماورديّ في تكبيرة الإِحرام قبل فراغ الإِمام منها: لم تنعقد صلاته، فإن قارنه أو سابقه فقد أساء، ولا تبطل صلاته، فإن سلم قبل إمامه بطلت صلاته، إلَّا أن ينوي المفارقة، ففيه خلاف مشهور، وقول النووي السابق "بخلاف النية" يريد به ما ذهب إليه الشافعيّ وطائفة، من اختلاف النية مع الإِمام يضر، وجعل الحديث مخصوصًا بالأفعال الظاهرة. قال النوويّ: لأن النية لم تذكر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ الآتية في أبواب الإمامة.
قال في الفتح: يمكن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله، كما لو كان مُحْدِثًا أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصح لمن لم يعلم حاله على الأصح عند العلماء. وقال مالك وأبو حنيفة: يضر اختلافهما. وجعلا اختلاف النية تحت الحصر في الحديث، وقال مالك: لا يضر الاختلاف بالهيأة بالتقدم في الموقف. وجعل الحديث عامًا فيما عدا ذلك.
وقوله: وإن صلّى قائمًا فصلوا قيامًا، مفهومه وإن صلّى قاعدًا فصلوا قعودًا، وقد صرح بهذا المفهوم في رواية ابن شهاب عن أنس عند المؤلف في الإمامة، ففيها "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" وقد احتج بهذه الرواية أحمد وإسحاق وابن حزم والأوزاعيّ ونفر من أهل الحديث، على أن الإِمام إذا صلى قاعدًا يصلي من خلفه قعودًا. وقال أبو حنيفة والشافعي والثَّوريّ وأبو ثور وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلَّا قائمًا. وقال المرغانيّ: الفرض والنفل سواء. وقال مالك: لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائمًا ولا قاعدًا.
وأجابت المالكية عن حديثي أنس الذي في الباب، والذي في الإمامة، وعن حديث عائشة بأن هذا كله خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بما أخرجه
الدارَقُطنيّ والبيهقيّ في سننيهما، عن جابر عن الشعبيّ مرفوعًا "لا يُؤمَّنَّ أحد بعدي جالسًا" واعترضه الشافعي فقال: قد علم من احتج به أن لا حجة فيه، لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه، يعني جابر الجعفيّ. قلت: الجواب عن هذا هو أن مالكًا يحتج بالمراسيل، وجابر وثقه كثير من العلماء، بل من وثقه أكثر ممن جرحه. وحكى عياض عن بعض مشائخهم أن الحديث المذكور يدل على نسخ أمره المتقدم لهم بالجلوس، لمّا صلوا خلفه قيامًا، ويتقوى ذلك بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم.
قال: والنسخ لا يثبت بعد النبي صلى الله عليه وسلم لكنّ مواظبتهم على ترك ذلك تدل على صحة الحديث المذكور، واحتج أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بهم قاعدًا لأنه لا يصح التقدم بين يديه، نهى الله عن ذلك، ولأن الأئمة شفعاء، ولا يكون أحد شافعًا له، ورُدّ هذا بصلاته عليه الصلاة والسلام خلف عبد الرحمن بن عوف الثابت بلا خلاف. قلت: والجواب عن هذا أنه وقع من غير دخول عليه، أي من غير أن نقدمه إلى الإمامة، بل وجده إمامًا وصلّى به، فهي واقعة عين لا توجب الاطراد، ويدل على أنها واقعة عين ما في الحديث الصحيح من امتناع أبي بكر رضي الله تعالى عنه من الصلاة به عليه الصلاة والسلام، وقوله: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدلوا أيضًا بقول ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة مأمومًا خلف أبي بكر.
وأنكر أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أمَّ في مرض موته قاعدًا، كما حكاه عنه الشافعيّ في الأم، ويأتي ذلك في الحديث. وقال ابن العربيّ مؤيدًا لمذهبه: سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك به، وعدم العوض عنه، يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره. وأيضًا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، ويتصور في حق غيره.
وأجاب القائلون بأن العاجز عن القيام لا يُصلي القادر عليه خلفَه إلَّا قائمًا عن قوله في حديث الزهريّ عن أنس "فإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون"
بأن هذا منسوخ. كلما قال البخاريّ عن شيخه الحميدي: قوله: إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا والناس خلفه قيام، لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإقراره للصحابة على القيام خلفه وهو قاعد كافٍ في النسخ، وقد قرره الشافعي بهذا، لكن هذا على ما في حديث عائشة من أنه "عليه الصلاة والسلام كان إمامًا وأبو بكر مأمومًا" وقد ورد العكس، كما أخرجه الترمذي والنّسائيّ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، عن مسروق عن عائشة قالت "صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا" وأخرجه النَّسائيّ أيضًا عن أنس قال "آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه" ولكن ما في الصحيح أقوى.
وقد جمع العلماء بينهما، فقال البيهقيّ في المعرفة: ولا تعارض بين الحديثين، فإن الصلاة التي كان فيها النبي عليه الصلاة والسلام إمامًا هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الإثنين، وهي آخر صلاة صلاها عليه الصلاة والسلام حتى خرج من الدنيا. قال: وهذا لا يخالف ما ثبت عن أنس في صلاتهم يوم الإثنين، وكشفه صلى الله عليه وسلم الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى، ثم إنه عليه الصلاة والسلام وجد خفة في نفسه، فخرج فأدرك معه الركعة الثانية.
قلت: وهذا الجمع يرجح أن آخر صلاة له كان مأمومًا لا إمامًا، وأجابوا أيضًا بأن المراد بقوله "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" الأمر بالاقتداء به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب الركوع والرفع منه والسجود، فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيمًا له، فأمرهم بالجلوس تواضعًا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر عند مسلم "إنْ كدتم أنْ تفعلوا فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا" وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد، وبأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال "وإذا جلس فاجلسوا" ليناسب قوله "وإذا سجد
فاسجدوا" فلما عدل عن ذلك إلى قوله "وإذا صلى جالسًا" كان كقوله "وإذا صلى قائمًا" فالمراد بذلك جميع الصلاة. ويؤيد ذلك قول أنس "فصلينا وراءه قعودًا" وأنكر أحمد القائل بجواز صلاة القادر جالسًا خلف المصلي جالسًا عجزًا، ومن حقه نسخ الأمر المذكور بذلك، وجمعوا بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين؛ إحداهما: إذا ابتدأ الإِمام الراتبُ الصلاةَ قاعدًا لمرضٍ يرجى برؤه، فحينئذ يصلون خلفه قعودًا. ثانيهما: إذا ابتدأ الإِمام الراتبُ قائمًا لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قيامًا، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدًا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته صلى الله عليه وسلم، فإن تصديره لهم على القيام، دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائمًا، وصلوا معه قيامًا، بخلاف الحالة الأولى، فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالسًا، فلما صلوا خلفه قيامًا أنكر عليهم.
ويقوي هذا الجمعَ أن الأصل عدم النسخ، لاسيما وهو في هذه الحالة يستدعي دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصل قاعدًا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين، وهو بعيد. وقد قال بقول أحمد جماعةٌ من محدِّثي الشافعية، كابن خُزيمة وابن المنذر وابن حبّان، وأجابوا عما ورد عن عائشة وأنس، من الأمر بالجلوس، بأجوبة منها قول ابن خزيمة: إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدًا تبعًا لإِمامه، لم يُختلف في صحتها ولا في سياقها، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم قاعدًا، فاختُلف فيها هل كان إمامًا أو مأمومًا. قال: وما لم يُختلف فيه لا ينبغي تركه لمختَلَف فيه. وأُجيبَ بدفع الاختلاف، والحمل على أنه كان إمامًا مرة ومأمومًا أخرى.
ومنها أن بعضهم جمع بين القضيتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا مَن أمّ قاعدًا لعذر، تخيّر من صلّى خلفه بين القعود والقيام، والقعود أَوْلى لثبوت الأمر بالائتمام والاتباع، وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد من استبعد
ذلك، بأن الأمر قد صدر من النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، واستمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، فروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن قَهْد، بفتح القاف وسكون الهاء، الأنصاريّ أن إمامًا لهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكان يؤمنا جالسًا ونحن جلوس. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أُسَيد بن حُضَير أنه كان يؤم قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن أُصلي قائمًا فاقعدوا، فصلى بهم قاعدًا وهم قُعود.
وروى أبو داود من وجه آخر عن أُسيد بن حُضير أنه قال: يا رسول الله، إن إمامنا مريض. قال:"إذا صلّى قاعدًا فصلوا قعودًا" وفي إسناده وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه اشتكى، فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالسًا، وصلوا معه جلوسًا. وعن أبي هُريرة أنه أفتى بذلك، وإسناده صحيح أيضًا.
وقد ألزم ابن المنذر من قال بأن الصحابيّ أعلم بتأويل ما روى، بأن يقول بذلك؛ لأن أبا هريرة وجابرًا رويا الأمر المذكور واستمرا على العمل به، والفتيا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ويلزم ذلك من قال إن الصحابيّ إذا روى وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل من باب الأَوْلى؛ لأنه عمل يوافق ما روى، وقد ادعى ابن حِبان الإِجماع على العمل به، ولعله أراد السكوتيّ؛ لأنه حكاه عن الأربعة المار ذكرهم، وقال: إنه لا يُحفظ عن أحد من الصحابة غيرهم القول بخلافه، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم مثله.
والذي ادّعيا نفيه رواه الشافعي عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وصرح به عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جُريج؛ أخبرني عطاء فذكر الحديث، ولفظه "فصلى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدًا، وأبو بكر وراءه بينه وبين الناس، وصلى الناس وراءه قيامًا" وهذا مرسل يعتضد بما مر عن الشافعي معلقًا، وهو الذي يقتضيه النظر، فإنهم ابتدأوا الصلاة مع أبي بكر قيامًا بلا نزاع، فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان، لكن استدل ابن حبّان على أنهم قعدوا بعد أن كانوا قيامًا، بما رواه
عن أبي الزبير عن جابر قال "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، قال: فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم
…
إلخ" الحديث المار، لكن هذا لم يكن في مرض موته، وإنما كان ذلك حيث سقط عن الفرس.
كما أخرجه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح عن أبي سفيان عن جابر قال "ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة، فصرعه على جذع نخلة، فانفكت قدمه
…
" الحديث، وعلى هذا فلا حجة لما ادعاه، إلَّا أنه تمسك بقوله في رواية أبي الزبير "وأبو بكر يُسمع الناس التكبير" وقال: إن ذلك لم يكن إلَّا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة، ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يُسمعهم تكبيره، بخلاف صلاته في مرض موته، فإنها كانت في المسجد، في جمع كثير من الصحابة، فاحتاج أبو بكر أن يسمعهم التكبير، ولا راحة له فيما تمسك به؛ لأن إسماع التكبير لم يتابِع أبا الزبير عليه أحدٌ، وعلى تقدير أنه حفظه، فلا مانع أن يُسمعهم أبو بكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يحمل على أن صوته عليه الصلاة والسلام كان خفيًا من الوجع، وكان من عادته الجهر بالتكبير، فكان أبو بكر يجهر عنه بالتكبير لذلك.
قلت: وفي البيت من يصلي بصلاته صلى الله عليه وسلم، فيحتاج إلى الإِسماع، ووراء هذا كله أنه أمر محتمل، لا يترك لأجله الخبر الصريح أنهم صلوا قيامًا، كما تقدم في مرسل عطاء وغيره، بل في مرسل عطاء أنهم استمروا قيامًا إلى أن انقضت الصلاة، لكن في مرسل عطاء المذكور متصلًا به بعد قوله "وصلى الناس بعده قيامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت، ما صليتم إلَّا قعودًا، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا" وهذه الزيادة تقوّي ما قال ابن حبّان: إن هذه القصة كانت في مرض موته عليه الصلاة والسلام. ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قُعودًا إذا صلى إمامهم قاعدًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإِعادة، لكن إذا نسخ الوجوب بقي الجواز،
والجواز لا ينافي الاستحباب، فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعودًا على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم، وتَرْك أمرهم بالإعادة، هذا مقتضى الجمع بين الأدلة، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: إذا ركع فاركعوا، قال ابن المنير: مقتضاه إن ركوع المأموم فيه بعد أن يشرع، وفي رواية هشام في الطب "وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا" وهو يتناول الرفع من الركوع، والرفع من السجود، وجميع السجدات. وزاد مسلم عن أبي هريرة بعد قوله " ليؤتم به فلا يختلفوا عليه" وأفادت هذه الزيادة أن الأمر بالاتباع يعم جميع المأمومين، ولا يكفي في تحصيل الائتمام اتباع بعض دون بعض، ولمسلم عنه أيضًا "لا تبادر الإِمام، إذا كبر فكبروا" وهي زيادة حسنة تنفي احتمال إرادة المقارنة من قوله "إذا كبر فكبروا" المتقدم عن أبي حنيفة القولُ به، وقد مرّ أن الفاء في قوله "فكبروا" للتعقب. ومقتضاه الأمر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإِمام، لكن تعقب بأن الفاء التي للتعقب هي العاطفة، وأما التي هنا فهي للربط فقط؛ لأنها وقعت جوابًا، فعلى هذا لا تقتضي تأخر أفعال المأمومين عن الإِمام إلَّا على القول بتقدم الشرط على الجزاء. وقد قال قوم: إن الجزاء يقع مع الشرط، وعليه لا تنتفي المقارنة، لكن الرواية المتقدمة صريحة في انتفاء التقدم والتأخر.
وقوله: ونزل لتسع وعشرين، أي نزل من المشربة التي كان معتزلًا فيها. واختلف الحديث في سبب الاعتزال، فأخرج مسلم عن جابر قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة" يعني فساءه. وأخرج البخاريّ وغيره عن عمر في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهن شهراً من شدة موجِدَته عليهن
…
إلخ، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن القضيتين جميعًا سبب الاعتزال، فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة. ومناسبة آية التخيير بقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين.