الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والثلاثون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ؟ ". فَقَالُوا: بَلَى. قَالَ: "فَاخْرُجِي".
قوله: "حاضت" أي: بعد أن أفاضت يوم النحر، كما يأتي في باب الزيارة يوم النحر.
وقوله: "لعلها تحبِسُنا" أي: تمنعنا من التوجه إلى مكة في الوقت الذي أردنا التوجُّه فيه، ظنًّا منه صلى الله عليه وسلم انها ما طافت طواف الإِفاضة، وإنما قال ذلك لأنه لا يتركها ويتوجّه، ولا يأمرها بالتوجُّه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يُقيم حتى تَطْهُرَ وتطوفَ وتَحِلَّ الحلَّ الثاني.
وقَوْلُه: "ألم تكن طافت معكُنَّ؟ " أيْ طراف الرّكن ولغير أبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي: "ألم تكن أفاضت" أي طافت طواف الإِفاضة، وهو طواف الركن.
وقوله: "قالوا: بلى" بغير فاء لابن عساكر، ولغيره:"فقالوا" أي: النساء ومن معهن من المحارم، وفي رواية تأتي في الحج أنَّ صفيَّة هي التي قالت:"بلى"، وفي رواية عن عائشة فيه أيضًا في باب الزيارة يوم النحر أنها قالت:"حجَجْنا، فأفَضْنا يوم النحر، فحاضت صفيَّة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يُريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله: إنها حائض".
وهذا مشكل، لأنه عليه الصلاة والسلام إن كان عَلِم أنها طافت طواف
الإفاضة، فكيف يقول:"لعلها تحبِسُنا؟ " وإن كان ما علِمَ، فكيف يريد وقاعها قبل التحلُّل الثاني.
ويُجاب عنه بأنه عليه الصلاة والسلام ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنته نساؤه في طواف الإفاضة، فأذن لهنَّ، فكان بانيًا على أنها قد حلّت، فلما قيل له: إنها حائض، جوَّز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك، فأَعلمته عائشة أنها طافت معهنَّ، فزال عنه ما خشيه من ذلك.
وقوله: "قال: فاخرُجي" بالإفراد؛ لأن طواف الوداع ساقِطٌ بالحيض، وهو خطاب لصفيّة، أي: قال لصفية مخاطبًا لها: "اخرُجي". وفيه التفات من الغَيْبة، أي:"ألم تكن طافت". إلى الخطاب، أو خاطب عائشة؛ لأنها المخبرة له، أي: اخُرجي، فإنها توافقك. أو قال لعائشة: قولي لها: اخرُجي. وفي رواية المُسْتَملي والكشُميهني: "اخرُجْنَ" وهي مناسِبة للسياق، وفي رواية أبي سَلمة:"اخرُجوا"، وفي رواية عائشة في المغازي:"فَلْتَنْفِر"، وفي رواية عائشة في الحج:"وحاضت صفيَّةُ"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عقْرى، حلقى، إنك حابستُنا، أما كُنتِ طُفْتِ يوم النحر؟ " قالت: بلى. قال: "فلا بأس، انْفِري". ومعَاني هذه الروايات متقاربة، والمراد بها كلها الرحيل من مِنى أو المحصب إلى المدينة.
وقوله في هذه الرواية: "عَقْرى حَلْقى" بالفتح فيهما ثم السكون، وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز لغة، وصوَّبَهُ أبو عُبيد؛ لأن معناه الدعاء بالعَقْر والحَلْق كما يُقال: سُقيا ورُعيا، ونحو ذلك من المصادر التي يُدعى بها. وعلى الأول هو نعتٌ لادعاء.
ثم معنى عقرى: عَقَرها الله، أي: جرحها، وقيل: جَعَلَها عاقرًا لا تلِدُ. وقيل: عَقَر قومها. ومعنى حَلْقى: حَلَقَ شعرهَا، وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في حلقها، أو حَلَقَ قومَها بشُؤْمِها، أي: أهلكهم.
وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين
الكلمتين، ثم اتَّسع العرب في قولهما من غير إرادة حقيقتهما، كما قالوا: قائلة العر، وتَرِبَت يداه، ونحو ذلك.
قال القرطبي وغيره: شتان ما بين قوله عليه الصلاة والسلام هذا لصفية، وبين قوله لعائشة لما حاضت معه في الحج: هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم، لما يَشْعُرُ به من الميل لها، والحنوِّ عليها، بخلاف صفية.
قال في "الفتح": ليس دليل على اتّضاع قدر صَفِيّة عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام، فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفًا على ما فاتها من النُّسك، فسَلاّها بذلك، وصفيّة أراد منها ما يريد الرجل من أهله، فأبدت المانع، فناسب كلاًّ منهما ما خاطبها به في تلك الحالة.
قلت: ما قاله يرُدُّ عليه ما أخرجه مسلم من أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن ينفِرَ إذا صفيّةُ على باب خِبائها كئيبة حزينة، فقال:"عقرى .. الحديث"، ففي هذا الحديث أن صفيّة وقع لها ما وقع لعائشة من الحزن، ومع ذلك قال لها ما قال، فيكون الظاهر ما قاله القُرطبي وغيره. وكان حيضها ليلة النَّفْر من المحصب.
وفي الحديث دلالة على أن أمير الحاجِّ يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل مَن تحيض ممن لم تَطُف للإِفاضة.
وتعقب باحتمال أن يكون ارادته عليه الصلاة والسلام تأخير الرحيل إكرامًا لصفيّة، كما احتبس بالناس على عقد عائشة.
قلت: الاحتباس على العِقْدِ لا يبعد أن يكون واجبًا، لما فيه من المحافظة على عدم إضاعة المال، والحديث الذي أخرجه البزّار عن جابر والبَيْهَقي عن أبي هُريرة مرفوعًا:"أميران وليس بأميرين، من تَبِعَ جِنازة فليس له أن ينصَرِف حتى تُدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تَحُجُّ أو تعتمِرُ مع قومٍ، فتحيضُ قبلَ طَواف الرُّكن، فليس لهم أن ينصرِفوا حتى تَطْهُر أو تأذن لهم" في اسنادة ضعف شديد، فلا يُستدل به على الوجوب.