الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن عشر
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَاّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا نَكْتَحِلَ وَلَا نَتَطَيَّبَ وَلَا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَاّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.
وفي رواية المُسْتَملي وكريمة: "قال أبو عبد الله، أي: البخاري: أو هشام بن حسان عن حفصة" فكأنه شكَّ في شيخ حمّاد، أهو أيوب السَّختياني أو هشام بن حسان، وليس ذلك عند بقية الرّواة، ولا عند أصحاب الأطراف والمستخرجات. وقد أورد المصنِّف هذا الحديث بهذا الإسناد في كتاب الطلاق، فلم يذكر ذلك.
وقوله: "كنا نُنهى" أي: بضم النون الأولى، وفاعل النهي النبي صلى الله عليه وسلم، كما دلت عليه رواية هشام المعلقة المذكورة بعدُ، وهذا هو السر في ذكرها.
وقوله: "أن تحد" بالتاء أو بالنون، مع ضم أولهما من الرباعي، ويجوز بفتحة ثم ضمة من الثلاثي.
وأنكر الأصمعي "حَدَّثْ"، ولم يعرف إلا "أحَدَّثْ". وقال الفرّاء: كان القدماء يُؤثرون "أَحَدَّث"، والأخرى أكثر ما في كلام العرب.
قال أهل اللغة: أصل الإِحداد: المنع، ومنه سُمي البواب حَدّادًا، لمنعه الداخل، وسميت العُقوبة حَدًّا لأنها تَرْدَعُ عن المعصية.
وقال ابن درستُوَيْه: معنى الإحداد: منع المُعْتَدّة نفسَها الزينةَ، وبدنَها الطيبَ، ومنع الخُطّاب خطبتها والطمع فيها، كما منع الحد المعصية.
وقال الفّراء: سمي الحديد حديدًا للامتناع به، أو لامتناعه على محاوله، ومنه: تحديد النظر بمعنى امتناع تقلبه في الجهات، ويُروى بالجيم.
قال الخطابي: يُروى بالجيم والحاء، وبالحاء أكثر، والجيم مأخوذ من جَدَّدْتُ الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة.
وقوله: "على ميِّت فوق ثلاث"، يعني به: الليالي مع أيامها، جمعًا بين روايتي الحديث؛ لأن في إحدى روايتيه "ثلاث ليال"، وفي أخرى "ثلاثة أيام"، فجمع بينهما بإرادة الليالي بأيامها، خلافًا للأوزاعي القائل: إنها تَحُدُّ ثلاث ليال فقط، فإن مات في أول الليل، أقلعت في أول اليوم الثالث، وإن مات في أثناء الليل، أو في أول النهار، أو في أثنائه، لم تقلع إلا في صبيحة اليوم الرابع، ولا تلفيق.
وقوله: "إلَاّ على زوج"، وفي رواية الحموي والمستملي:"إلَاّ على زوجها"، فالأولى موافقة: للفظ: "نحُدُّ" بالنون، والثانية موافقة لرواية:"تَحُدُّ" بالغيبة، أو توجه الثانية أيضًا على رواية النون، بأن الضمير يعود على الواحدة المندرِجَة في قولها:"كنا نُنهى" أي: كل واحدة منهن تُنهى أن تَحُدَّ فوق ثلاث، إلَاّ على زوجها.
وسواء دخل الزوج بها أو لم يدخل، كبيرة كانت أو صغيرة، حرة أو أمة، مسلمة أو كتابية.
وخالف الحنفية في الصغيرة، فقالوا: لا إحداد عليها، تمسُّكًا بمفهوم قوله في الحديث:"لا يَحِلُّ لامرأة". قالوا: إن الصغيرة ليست بامرأة، وإنها غير مكلفة.
وأجاب الجمهور عن التقييد بالمرأة بأنه خرجَ مخرجَ الغالب، وعن كونها
غير مكلفة، بأن الولي هو المخاطب، يمنعُها مما تُمنع منه المعتدة، واحتجوا بأن سبب إلحاق الصبية بالبالغة في الإِحداد وجوب العدة على كل منهما اتّفاقًا، وبأنها يحرُمُ العقد عليها وخِطْبتها في العُدة.
وخالفت الحنفية في الذِّمِّية، فقالوا: لا إحداد عليها. ووافقهم على ذلك بعض المالكية، وأبو ثور من الشافعية، وترجم عليه النسائي، واستدلوا بالتقييد بالإيمان في قوله في الحديث:"تؤمن بالله واليوم الآخر".
وأجاب الجمهور بأنه ذُكِرَ تأكيدًا للمبالغة في الزَّجْر، فلا مفهوم له، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلُكُه غيرهم. وأيضًا: الإحداد من حق الزوج، وهو ملتحِقٌ بالعُدة في حفظ النسب، فتدخُل الكافرة في ذلك بالمعنى كما دخل الكافر في النهي عن السَّوْم على سَوْم أخيه. ولأنه حق للزوجة فأشبه النفقة والسُّكنى.
وقال النووي: قُيِّد بوصف الإيمان؛ لأن المتَّصِف به هو الذي ينقاد للشرع، والأول أولى.
وفي رواية عند المالكية: إن الذِّمِّية تعتدُّ بالأقراء، قال ابن العربي: هو قول من قال لا إحداد عليها.
ودخل في قوله: "ميت" امرأة المفقود. وقال ابن الماجِشون من المالكية: لا إحداد عليها؛ لأن زوجها لم يتحقق موته. وأجيب بأنه في حكم الميت.
واستشكل الاستدلال على وجوب الإحداد المدة المذكورة على الزوج بهذا الاستثناء، بأن الاستثناء وقع بعد النفي، فيدُل على الحل فوق الثلاث على الزوج لا على الوجوب.
وأجيب: بأن الوجوب استُفيد من دليل آخر، كالإِجماع.
ورُدَّ هذا بأن المنقول عن الحسن البصري أن الإِحداد لا يَجِبُ. أخرجه ابن أبي شَيْبة. ونقل الخلاّل عن أحمد أن الشعبي كان لا يعرف الإحداد، قال
أحمد: ما كان بالعراق أشدُّ تبحرًا من هذين، وقد خفي عليهما ذلك. لكن مخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج، وإن كان فيها ردٌّ على من ادّعى الإجماع. وقد نفى ابن المنذر الخلاف إلا عن الحسن، وغَفَل عن خلاف الشعبي.
ومما هو دالٌّ على الوجوب حديث التي شَكَتْ عينَها؛ ولم يُبِح لها الكحل، فلو لم يجب الإحداد لم يمتَنِعِ الكحل للدواء.
وأجيب بأن السياق يدل على الوجوب، فإن كل ما مُنع منه إذا دلَّ دليلٌ على جوازه، كان ذلك الدليل دالاًّ بعينه على الوجوب. كالختان، والزيادة على الركوع في الكسوف، ونحو ذلك. وقد روي في حديث قوي الإِسناد عن أسماء بنت عُمَيْس ما يعارض الوجوب بعد اليوم الثالث، أخرجه أحمد، وصححه ابن حِبّان، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قَتْلِ جَعْفَر بن أبي طالب، فقال:"لا تَحِدِّي بعد يومِكِ". هذا لفظ أحمد، وفي رواية له ولابن حِبّان والطحاوي: لما أصيب جعفر، أتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"تسلبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت".
قال البلقيني في "شرح الترمذي": ظاهره أن الإِحداد لا يجب على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، بل ظاهر النهي أنه لا يجوز،؛ لأن أسماء كانت زوج جعفر بن أبي طالب، وهي أم أولاده باتّفاق.
وأجاب بأن هذا الحديث شاذٌّ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه. قال: ويُحتمل أن يُقال: إن جعفرًا قُتِل شهيدًا، والشهداء أحياء عند ربهم. قال: وهذا ضعيف؛ لأنه لم يرِد في حقِّ غير جعفر، ممَّن قُطِع بأنهم شهداء، كحمزة، وعبدالله بن حرام، وغيرهما.
وأجاب الطحاوي بأنه منسوخ، وأن الإِحداد كان على المعتدة في بعض عُدَّتها في وقت، ثم أُمِرَت بالإحداد أربعة أشهر وعشرًا، ثم ساق أحاديث الباب، وليس فيها دليل على ما ادّعاه من النسخ، لكنه يُكْثرُ من ادِّعاء النسخ بالاحتمال، فجرى على عادته.
وأجيب أيضًا باحتمال أن يكون المراد بالإِحداد المعتد بالثلاث قدرًا زائدًا على الإِحداد المعروف، فعلته أسماء مبالغة في حُزْنِها على جعفر، فنهاها عن ذلك بعد الثلاث.
ويُجاب أيضًا باحتمال أنها كانت حاملًا، فوضعت بعد ثلاث، فانقضت العُدة، فنهاها بعدها عن الإحداد، ولا يمنع ذلك قوله في الرواية الأخرى؛ لأنه يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم اطَّلع على أن عُدَّتها تنقضي عند الثلاث.
ويجاب أيضًا بأنه لعله كان أبانها بالطلاق قبل استشهاده، فلم يكن عليها إحدادٌ.
وأما إعلال البيهقي للحديث بالانقطاع فغير صحيح، لتصحيح أحمد له، لكنه قال: إنه مخالف للأحاديث الصحيحة في الإِحداد، وهذا مصيَّر منه إلى إعلاله بالشذوذ، وهذا هو الذي مرَّ عن البُلُقّيني.
وأما ما رُوي عن سالم، عن ابن عمر رفعه "لا إحداد فوق ثلاث" فقد قال أحمد: هذا منكر، والمعروف عن ابن عُمر من رأيه، وهذا يُحتمل أن يكون لغير المرأة المعتدّة، فلا نَكاره فيه، بخلاف حديث أسماء.
وأغرب ابن حِبّان، فساق حديث أسماء بلفظ:"تسلمي" بالميم بدل الباء، وفسره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله، وبأن الحكمة في تقييده بالثلاث كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد، فلذلك قيد بالثلاث. وهذا تكلف وتصحيف، ويُبَيِّن خطأَهُ روايةُ البيهقي:"فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتسلبَ ثلاثًا".
قلت: الظاهر عندي في الجواب عن حديث أسماء هو أن هذا خصوصية لها منه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو المرجِع في الأحكام، فله أن يخصَّ بعض أمته بحكم، ويمنع غيره منه، ولو بغير عذر، كخصوصية هذه لأسْماء بالإِحداد ثلاثًا، وكتخصيصه لأبي بُردة ابن نيار بإجزاء جَذَعة المَعْزِ عنه في الضَّحِية، وكإباحته النياحة على الميت للأنصارية، إلى غير ذلك.
واستُدِلّ بقوله: "على ميت" أن لا إحداد على المطلَّقة إجماعًا في الرجعية، وعند الجمهور في البائن. وقالت الحنفية وأبو عُبيد وأبو ثور: عليها الإحداد قياسًا على المتوفّى عنها. وبه قال بعض الشافعية والمالكية.
واحتج الجمهور بأن الإحداد شُرِع لأن تركه من التطيُّب واللبس والتزين يدعو إلى الجماع، فمُنِعَت المرأة منه، زجرًا لها عن ذلك، فكان ذلك ظاهرًا في حق الميت؛ لأنه يمنعُه الموت عن منع المعتدة منه من التزويج، ولا تراعيه هي، ولا تخافُ منه، بخلاف المطلِّق الحي في كل ذلك. ومن ثَمَّ وَجَبَت العدة على كل متوفى عنها، وإن لم تكن مدخولًا بها، بخلاف المطلقة قبل الدخول، فلا عدة عليها اتفاقًا. وبأن المطلقة البائن يمكنها العود إلى الزوج بعينه بعقد جديد.
وتُعُقِّب بأن الملاعنة لا إحداد عليها. وأجيب بأن تركه لفقدان الزوج بعينه لا لفقدان الزوجية.
وما مرَّ من أن غير الزوج لا يجوز الاحداد عليه فوق ثلاث، هو على عمومه، أبًا كان أو غيره.
وما أخرجه أبو داود عن عَمرو بن شُعيب، من أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للمرأةِ أن تَحُدَّ على أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام، لو صح كان خصوص الأب يخرُجُ من العموم، لكنه مرسل أو مُعْضَل؛ لأن جُلَّ رواية عَمْرو بن شُعيب عن التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة إلا الشيء اليسير عن بعض صغار الصحابة. وإنما أُبيح هذا القدر على غير الزوج لأجل حظ النفس ومراعاتها، وغلبة الطباع البشرية.
وقوله: "أربعة أشهر وعشرًا" الحكمة في هذا القدر هي أن الولد يتكامل تخليقه، وتُنفخ فيه الروح بعد مضي مئة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأَهِلّة، فجُبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط، وأنَّث العشرَ باعتبار الليالي؛ لأنها غُرر الشهور والأيام، ولذلك لا يستعملون التذكير
في مثله قط، ذهابًا إلى الأيام، حتى إنهم يقولون: صمت عشرًا، ويشهد له قوله تعالى:{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه: 103]، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 104]، ولكن المراد بالليالي مع أيامها عند الجمهور، فلا تحِلُّ حتى تدخل الليلة الحادية عشرة. وعن الأوزاعي وبعض السلف: تنقضي بمضي الليالي العشر بعد مضي الأشهر، فتَحِلُّ في أول اليوم العاشر.
والحامل مستثناة من هذا، لنصِّ الكتاب العزيز.
وقوله: "ولا نكتحِل" قيل بالنصب عطفًا على المنصوب السابقال في هو "تَحِدَّ"، ورده الدماميني بأنه يَلْزَمُ من عطفه عليه فساد المعنى؛ لأن تقديره: كنا نُنهى أن لا نكتحل. نعم: يصِحُّ العطف عليه على تقدير أنَّ لا زائدة، أكد بها، لأن في النهي معنى النفي. ورواية الرفع هي الأحسن كما لا يَخْفى.
والصحيح عند المالكية والشافعية جواز الاكتحال لها ليلًا للضرورة، وإن بطيبٍ عند المالكية، وتمسحه نهارًا، لما رواه في "الموطأ" عن أُم سلمة:"اجعليهِ بالليلِ، وامسحيه بالنهار".
وأجابوا عن قصة المرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنتها المتوفّى عنها زوجُها، وقد اشتكت عينها: أفنكحلها؟ فقال: "لا مرتين أو ثلاثًا" باحتمال أنه كان يحصُلُ لها الشفاء بغير الكحل، كالتضميد بالصبر ونحوه، كما أخرجه ابن أبي شَيْبة عن صفية بنت أبي عُبيد أنها أحَدَّت على ابن عُمر فلم تكتحل، حتى كادت عيناها تزيغان، فكانت تقطُرُ فيهما الصبر.
ومنهم من تأول النهي على كحل مخصوص، وهو ما يقتضي التزيُّن به، لأن محضَ التداوي قد يحصل بما لا زينة فيه، فلم ينحصر فيما فيه زينة.
وقال بعض العلماء: يجوز ذلك، ولو كان فيه طيب، وحملوا النهي على التنزيه جمعًا بين الأدلة.
وتأول بعضُهم حديث النهي على أنه لم يتحقق الخوف على عينها. وتُعُقِّب
بأن في حديث شعبة: "فخَشُوا على عينيها"، وفي رواية ابن مَنْده:"رمِدت رَمدًا شديدًا، وقد خشيت على بصرها"، وفي رواية الطبراني أنها قالت في المرة الثانية:"إنها تشتكي عينها فوق ما يظن، فقال: لا"، وفي رواية القاسم بن أصبغ أخرجها ابن حَزْم:"إني أخشى أن تَنْفَقِىء عينُها. قال: لا، وإن انْفَقَأَت" وسنده صحيح.
وقوله: "ولا تَلْبَس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْب" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين، ثم موحدة، بالإضافة، وهي برود اليمن، يُعْصَب غَزْلُها، أي: يُربط، ثم يُصبغ، ثم يُنسج معصوبًا، فيخرج موش، لبقاء ما عُصب أبيض لم ينصَبِغ، وإنما يُعصب السُّدَى دون اللُّحْمة.
وقال صاحب "المنتهى": العَصْب هو المفتول في برود اليمن، وذكر أبو موسى المدني أنه من دابة بحرية تُسمى فرس فرعون، يُتَّخذ منها الخَرَز وغيره، ويكون أبيض، وهذا غريب. وأغرب منه قول السُّهَيْلي: إنه نبات لا ينبُتُ إلا باليمن. وأغرب منه قول الداوودي: المراد بالثَّوْبِ العَصْب: الخَضِرة، وهي الحَبِرة. وليس له سلف في أن العَصْب الأَخْضر.
وكره عُروة العَصْب، وكره مالك غليظه، وقال النووي: الأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقًا. وهذا الحديث حجة لمن أجازه.
قال ابن المُنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادّة لُبس الثياب المُعَصْفَرة، ولا المصبغة، إلا ما صُبغ بسواد، فرخَّص فيه مالك والشافعي، لكونه لا يُتَّخَذ للزينة، بل هو من لباس الحزن. ويُشترط عند المالكية في لبسها للسواد أن لا تكون ناصعة البياض، أو من قوم زينتهم السواد.
وقال ابن دقيق العيد: أُخِذَ من مفهوم الحديث جوازُ ما ليس بمصبوغ، وهي الثياب البيض. ومنع بعض المالكية المرتفع منها الذي يُتَزيَّن به. وقال النووي: رخَّص بعض أصحابنا فيما لا يُتزين به ولو مصبوغًا.
واختُلِفَ في الحرير، فعند الشافعية: الأصح منعه مطلقًا، مصبوغًا أو غير
مصبوغ؛ لأنه أُبيح للنساء للتزين به، والحادة ممنوعة من التزين، فكان في حقِّها كالرجال.
وفي التحلي بالذهب والفضة واللؤلؤ ونحوه وجهات، الأصح جوازُه، وفيه نظر من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنه عند تأمُّلها يترجَّح المنع، قاله في "الفتح".
قلت: مذهب المالكية منع التحلي، ولو خاتمًا أو قِرْطًا، وكذا التزين بالحرير ونحوه من كل ما فيه زينة، واستعمال الطيب والتجارة فيه، ودخول الحمام.
وقوله: "في نبذة" بضم النون وفتحها وسكون الموحدة وبالذال المعجمة، أي: قطعة، وتُطلق على الشيء اليسير.
وقوله: "من كُسْت أظفار" كذا هو في هذه الرواية بضم الكاف وسكون المهملة، وفي رواية لمسلم:"من قسط أو أظفار" بإثبات أو، وهي للتخيير. قال المفضّل بن سَلَمة: القُسط، والكُسط، والكُست. ثلاث لُغات، وهي من طيب الأعراب. وقال في "المشارق": القُسط بُخُور معروف. وقال البخاري في كتاب الطلاق: القُسط والكُست مثل الكافور والقافور، أي: يجوز في كل منهما الكاف والقاف.
والأظفار ضَرْب من العطر، يُشبه الظفر. وقال صاحب "المحكم": الظفر ضَرْب من العطر أسود مُغَلَّف من أصله على شكل ظفر الإنسان، يوضع في البُخور، والجمع أظفار. وقال صاحب "العين": لا واحد له من لفظه. وقال ابن التين: صوابه: "قُسْط ظِفار"، ووجهه في "المشارق" بأنه منسوب إلى ظِفار، مدينة معروفة بسواحل اليمن، يُجلب إليها القُسط الهندي. وفي ضبطها وجهان: كسر أوله وصرفه، أو فتحه والبناء بوزن: قَطَامِ.
وقال النووي: القُسْط والأظفار نوعان معروفان من البُخور، وليسا من مقصود الطيب، رُخِّص فيه للمغتسلة من الحيض، لإزالة الرائحة الكريهة، تتَّبِع
به أثر الدم لا للتطيُّب.
وقال المهلّب: رُخِّص لها في التبخُّر به لدفع رائحة الدم عنها، لما تستقبله من الصلاة.
وقال في "الفتح": المقصود من التطيُّب بهما أن يُخلطا بأجزاء آخر من غيرهما، ثم تُسحق، فتصير طيبًا، والمقصود بهما هنا أن تُتَّبَع آثار الدم بهما، كما قال النووي، لإزالة الرائحة الكريهة لا للتطيب.
وزعم الداوودي أنها تسحق القُسْط، وتُلقيه في الماء آخر غسلها لتذهب رائحة الحيض. ورده عياض بأن ظاهر الحديث يأباه، وأنه لا تحصُل منه رائحة طيبة إلا بالتبخُّر به، كذا قال، وفيه نظر.
وقوله: "وكنا نُنهى عن اتِّباع الجنائز" في روايتها الآتية في الجنائز: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم علينا"، والنهي صادرٌ منه صلى الله عليه وسلم، فقد أخرجه الإسماعيلي بهذا الإسناد بلفظ:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولو لم يُسَمَّ الناهي في هذه الرواية، كان هذا اللفظ دالاًّ على الرفع، لما رواه الشيخان وغيرهما، أن كل ما وَرَدَ بهذه الصيغة كان مرفوعًا.
ويؤيد رواية الإسماعيلي ما رواه الطبراني عن أُم عطية، قالت: "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، جمع النساء في بيت، ثم بعث إلينا عمر، فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن لأبايعكن على أن لا تُشْرِكْنَ بالله شيئًا
…
" الحديث. وفي آخره: "وأمرنا أن نخرج في العيد العواتق، ونهانا أن نخرج في جنازة" وهذا يدل على أن رواية أُم عطية الأولى من مرسل الصحابة.
والحديث قال على أن فضل اتِّباع الجنائز خاص بالرجال دون النساء، فقولها:"ولم يعزِم علينا" أي: ولم يؤكد علينا في المنع، كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كرِهَ لنا اتّباع الجنائز من غير تحريم.
قال القرطبي: ظاهر سياق أُم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال الجمهور.