الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من إصلاح بعض الرواة.
وقال ابن حزم في أجوبته على مواضع من البخاريّ: فتشت على هاتين اللفظتين، فلم أجدهما ولا واحدًا منهما، ولا وقفت على معناهما. وذكر غيره أن الجنابذ شبه القباب واحدها جُنْبُذَةٌ بالضم، وهو ما ارتفع من البناء، فهو فارسي معرب، وأصله بلسانهم "كُنْبَذَهْ" بوزنه، لكن الموحدة مفتوحة، والكاف ليست خالصة، ويؤيده ما رواه المصنف في التفسير عن أنس قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم قال:" أتيت على نهر حافتاه قِباب اللؤلؤ". وقال صاحب المطالع في الحبائل: قيل: هي القلائد والعقود، أوهي من حبال الرمل، أي فيها اللؤلؤ مثل حبال الرمل، جمع حَبْل، وهو ما استطال من الرمل. وتعقب بأن الحبائل لا تكون إلَّا جمع حِبالة أو حَبيلة بوزن عَظيمة. وقال البعض: الحبائل جمع حِبالة، والحِبالة جمع حَبل على غير قياس، والمراد أن فيها عقودًا وقلائد من اللؤلؤ.
رجاله أربعة:
الأول: ابن شهاب، وقد مرَّ الآن محله، ومرَّ أيضًا محل ابن عباس.
والثالث: ابن حزم، والمراد به أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ لأن ابن شهاب لم يسمع من أبيه محمد لتقدم موته، ورواية أبي بكر عن أبي حبّة منقطعة، لأنه استشهد بأحد قبل مولد أبي بكر بدهر، وقبل مولد أبيه محمد أيضًا، وأبو بكر هذا مرَّ في باب "كيف يقبض العلم" بعد الأربعين من كتاب العلم.
والرابع: أبو حبّة البدريّ الأنصاريّ، قيل: اسمه عامر بن عبد عمرو بن عُمير بن ثابت. وقيل اسمه مالك، وقع ذكره في الصحيح هنا من رواية الزُّهريّ، وروى عنه أيضًا عمار بن أبي عمار، وحديثه عنه في مسند ابن أبي شيبة وأحمد، وصححه الحاكم وصرح بسماعه منه، وعلى هذا فهو غير الذي ذكر ابن إسحاق أنه استُشهد بأحد، وله في الطبراني حديث آخر، من رواية عبد الله بن عمرو بن
عثمان عنه، وسنده قويّ، إلا أن عبد الله بن عَمرو لم يدركه. وقال ابن عبد البر: يقال بالياء والنون، والصواب بالموحدة، وفيه كلام كثير. ووقع في غير هذه الرواية زيادات رآها صلى الله عليه وسلم بعد سدرة المنتهى لم تذكر في هذه الرواية، منها في رواية شريك الآتية في التوحيد "حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّار رب العزة تبارك وتعالى، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده خمسين صلاة
…
الحديث" وقد استشكلت هذه الزيادة، ويأتي الكلام عليها وعلى جميع ما قيل من النقد في رواية شريك قريبًا إن شاء الله مستوفى.
ومنها عند ابن أبي حاتم وابن عائذ عن أنس "ثم انطلق حتى أُتي بي إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل وخررت ساجدًا" وعند مسلم عن ابن مسعود "وأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلواتِ الخمس، وخواتم البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحِمات" يعني الكبائر. وفي هذه الرواية من الزيادة "ثم انجلت عني السحابة، وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعًا، فأتيت على إبراهيم، فلم يقل شيئًا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت
…
الحديث" وفيه أيضًا "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما لي لم آتِ سماء إلاّ رحبوا وضحكوا لي غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحّب ولم يضحك إليّ؟ فقال: يا محمد، ذلك مالِك خازن النار، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك.
وعند التِّرمذيّ وأحمد عن حذيفة "حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار، ووعدا الآخرة أجمع" وفي حديث أبي سعيد "أنه عرض عليه الجنة، وأن رمّانها كأنه الدِّلاء، وإذا طيرها كأنها البُخْت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هي لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها". وفي حديث شداد بن أوس "فإذا جهنم تَكَشَّفُ عن مِثل الزرابيّ
…
" إلى آخر ما مرَّ في ذكر آدم. وعند ابن أبي حاتم عن أنس "أن جبريل قال: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال: انطلق إلى أولئك النسوة، فسلّم عليهن، قال: فأتيتُ فسلمتُ عليهنّ، فرددن، فقلت: من أنتن؟ فقلن: خيراتٌ
حِسان
…
الحديث". وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أن إبراهيم عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بني إنك لاقٍ ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جُلُّها في أمتك فافعل".
وعند الواقديّ بأسانيده في أول حديث الإسراء "كان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وهو نائم في بيته ظهرًا، أتاه جبريل وميكائيل، فقال: انطلق إلى ما سألت، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأُتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرًا، فعرجا به إلى السموات، فلقي الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه الخمس" فلو ثبت هذا لكان ظاهرًا في أنه معراج آخر، لقوله إنه كان ظهرًا، وأن المعراج كان من مكة، وهو مخالف لما في الروايات الصحيحة في الأمرين معًا، ويعكر على التعدد قوله: إن الصلوات فرضت حينئذ، إلَّا إنْ حُمل على أنه أعيد ذكره تأكيدًا، أو فرع على أن الأول كان منامًا وهذا يقظة، أو بالعكس.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول: أنا فلان، ولا يقتصر على أنا، لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأنّ المار يسلم على القاعد، وإنْ كان المار أفضل من القاعد. وفيه استحباب تَلَقِّي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه. وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره، مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور، وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة.
وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار، لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته عليه الصلاة والسلام بالليل، وأكثر سفره فيه. وقال عليه الصلاة والسلام: عليكم بالدُّلْجة فإن الأرض تطوى بالليل". وأيضًا اختص الإسراء بالليل لأنه وقت الخلوة والاختصاص، ومجالسة الملوك، وهو أشرف من مجالستهم نهارًا، وهو وقت مناجاة الأحبة، وكان بالليل أيضًا يزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من
النهار، ولأنه لو عرج نهارًا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد.
وأيضًا فإن الله تعالى أكرم جماعة من أنبيائه بأنواع الكرامات ليلًا. قال تعالى في قصة إبراهيم {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]. وفي قصة لوط {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [الحجر: 65]. وفي قصة يعقوب {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] وكان آخر دعائه إلى وقت السحر من ليلة الجمعة، وقرب موسى نجيًا ليلًا، وذلك قوله تعالى:{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل: 7]. وقال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. وقال لما أمره بخروجه من مصر ببني إسرائيل {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان: 23]. وأكرم نبينا أيضًا ليلًا بأمور منها: انشقاقُ القمر، وإيمان الجن به، ورؤية الصحابة آثار بزاهم كما ثبت في صحيح مسلم، وخروجه إلى الغار ليلًا، وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سراجٌ، والسراج لا يوقد إلَّا ليلًا، وبدرٌ والبدر لا يرى إلَّا ليلًا. قال الشاعر:
وعد الحب بالزيارة ليلًا
…
فإذا ما وفي قضيت نذوري
قلت: يا سيدي وَلِمْ تؤثر الليلَ
…
على بهجةِ النهار المنيرِ؟
قال: لا أستطيع تغيير رسمي
…
هكذا الرسم في طلوع البدور
إنما زرت في الظلام لكيما
…
يشرق الليل من أشعة نوري
ولله در الإِمام البوصيريّ حيث يقول:
سريت من حرم ليلًا إلى حرم
…
كما سرى البدر في داجٍ من الظلم
وفي الحديث أيضًا أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجربهم. ويستفاد منه تحكيم العادة والتنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانًا من هذه الأمة، وقد قال موسى إنه عالمهم على أقل من ذلك، فما وافقوه. ويستفاد أن مقام الخلة مقام الرضى والتسليم، ومقام
التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثَمّ استبد موسى عليه السلام بأمر النبي عليه الصلاة والسلام بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام، مع أن للنبي عليه الصلاة والسلام من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له بموسى، لمقام الأبوة، ورفعة المنزلة، والاتباع في الملة. وقيل: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث، من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها، وأنهم خالفوه وعصوه.
وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض الطرق التي مرت "عرضت عليّ الجنة والنار" وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى، وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف. وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها، وإن لم يستشر الناصح في ذلك. وفيه صعوده عليه الصلاة والسلام ببدنه الشريف.
وكيف يتصور الصعود إلى السموات بالجسم الإنساني الكثيف؟ والجواب أن الأرواح أربعة أقسام: الأول الأرواح الكدرة بالصفات البشرية، وهي أرواح العوام، غلبت عليها القوى الحيوانية، فلا تقبل العروج أصلًا. والثاني الأرواح التي لها كمال القوة النظرية للبدن، باكتساب العلوم، وهذه أرواح العلماء. والثالث الأرواح التي لها كمال القوة المدرة للبدن باكتساب الأخلاق الحميدة، وهذه أرواح المرتاضين، إذ كسروا قُوى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة. والرابع الأرواح التي حصل لها كمال القوتين، فهذه غاية الأرواح البشرية، وهي أرواح الأنبياء والصديقين، فكما ازداد قوة أرواحهم ازداد ارتفاع أبدانهم من الأرض، ولهذا لما كان الأنبياء، صلوات الله عليهم، كملت فيهم هذه الأرواح عرج بهم إلى السماء، وأكملهم قوةً نبينا عليه الصلاة والسلام، فعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى.
قلت: الجواب الحسن عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه في أول بدء الوحي، من أن الأنبياء متصفون بالروحانية جِبلَّة، فيحصل لهم من الصعود بسبب ذلك ما يحصل للملائكة بدون إشكال، وأيضًا لا سبب للإشكال، فإنَّ
كون الأجسام البشرية لا يمكنها الصعود، إنما هو بحسب العادة التي أجراها الله تعالى، وإذا أراد الله خرمها انخرمت.
وقد واعدت بالإتيان بما قيل في رواية شريك من الانتقاد، فرواية شريك أخرجها المؤلف في كتاب التوحيد، وقد تكلم فيها كثير من العلماء: الخطابيُّ وعبد الحق في الجمع بين الصحيحين، وابن حزم ومسلم في صحيحه، وغيرهم. وقد اختلف العلماء في توثيقه، وقد مرَّ تعريفه في كتاب العلم. أما الخطابيّ فقد قال: ليس في كتاب البخاريّ أضغ ظاهرًا ولا أشنع فداقاً من هذا الفصل، يعني قوله "ودنا الجبار رب العزة، فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدني" فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل.
قال: فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلاّ هذا القدر مقطوعًا عن غيره، ولم يعتبره بأول القصة وآخرها.، اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قصاراه إما رد الحديث من أصله، وإما الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما. وأما من اعتبر أول الحديث بآخره، فإنه يزول عنه الإشكال، فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله "وهو نائم" وفي آخره "استيقظ" وبعض الرؤيا مَثَلٌ يضرب ليتناول على الوجه الذي يجب أن يعرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك، بل يأتي كالمشاهدة، وهو كما قال، ولا التفات لمن تعقب كلامه بما في الحديث الصحيح من "أتى رؤيا الأنبياء وحي" فلا تحتاج إلى تعبير، لأنه كلام مَنْ لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد يأتي في كتاب التعبير أن بعض مرائي الأنبياء تحتاج إلى التعبير، ومن أمثلة ذلك قول الصحابة له صلى الله عليه وسلم، في رؤية القميص: ما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين. وفي رؤية اللبن، قال: العلم، إلى غير ذلك. لكن جزم الخطابيّ بان كونه في المنام متعقّبٌ بما مرَّ تقريره في الكلام على الترجمة.
ثم قال الخطابيّ مشيرًا إلى رفع الحديث من أصله بان القصة بطولها إنما
هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يعزُها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقلها عنه، ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي، إما من أنس، واما من شريك، فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة.
قال في الفتح: وما نفاه من أن أنسًا لم يسند هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن يكون مرسل صحابيّ، فإما أن يكون تلقاها عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عن صحابيّ تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي، فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلًا، وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود، وأما عبد الحق فقد قال: زاد فيه شريك زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بحافظ.
وأما ابن حزم فقد قال: لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئًا لا يحمل مخرجًا إلَّا حديثين، ثم عليه الوهم في تخريجه مع إتقانهما، وصحة معرفتهما، فذكر هذا الحديث وقال: فيه ألفاظ معجمة، والآفة من شريك، من ذلك قوله "قبل أن يوحى إليه""وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة" وقوله "إن الجبار دنا فتدلى"
…
الخ، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى الكلام على هاتين.
قال أبو الفضل بن طاهر تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه، فإنّ شريكًا قبله أئمة "الجرح والتعديل" ووثقوه، وهذا الحديث رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال، وعلى تقدير تعزو بقوله "قبل أن يوحى إليه" لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولاسيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو ترك حديث من وهم في موضع، لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين، وأما مسلم، فإنه قال بعد أن ساق سنده وبعض المتن: قدَّم وأخر وزاد ونقص. والأوْلي في أمره التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها إما
بدفع تفرده أو بتأويلها على وفق الجماعة.
ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين نحو اثني عشر موضعًا:
الأول: وهو أشدها، قوله: ودنا الجبّار رب. العزة فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، وقد مرَّ ما قاله الخطابيّ جوابًا عن هذا الموضع، ثم قال أيضًا: إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلّي للجبار عز وجل مخالفٌ لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير، من تقدم منهم ومن تأخر. قال: والذي قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم، فتدلى أي فتقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير، أي تدلى فدنا لأنّ التدلي سبب الدنو. الثاني: تدلّى له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع حتى رآه متدليًا مرتفعًا، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلّى في الهواء من غير اعتماد على شيء، ولا تمسك بشيء. الثالث: دنا جبريل فتدلى محمد صلى الله عليه وسلم ساجدًا لربه تعالى، شكرًا على ما أعطاه.
قال: وقد رُوي هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك، ولم تذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوّي الظن أنها صادرة من شريك، لكنَّ جَزْمَه بأن روايته مخالفة للسلف والخلف يردُّه ما أخرجه الأُمويّ في مغازيه، ومن طريق البيهقيّ عن ابن عباس في قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] قال: دنا منه ربه، وهذا سنده حسن، وهو شاهد قويّ لرواية شريك، ونقل القرطبيّ عن ابن عباس أنه قال: دنا الله سبحانه وتعالى، والمعنى دنا أمره وحكمه. وقيل: تدلى الرفرف لمحمد عليه الصلاة والسلام، حتى دنا محمد من ربه، ويأتي قريبًا في بحث الرؤية، ان شاء الله تعالى، الكلامُ على قوله {وَلَقَدْ رَآهُ} وقوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وقال القاضي عياض في "الشفاء" اضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى، أو من الله، ليس دنو مكان، ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إبانةُ تعظيم منزلته، وتشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عز وجل، تأنيسٌ لنبيه، وإكرام له. ويتأول فيه ما قالوه
في حديث "ينزل ربنا إلى السماء" وحديث "من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا". وقال غيره: الدنو مجاز عن القرب المعنويّ، لإظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى، والتدلي طلب زيادة القرب، وإيضاح المعرفة، وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله ورفع درجته.
الثاني: وهو قريب من الأوّل فعلًا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا ربِّ خفف عنا. قال الخطابيّ: تفرد شريك بهذا اللفظ، والمكان لا يضاف إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبي عليه الصلاة والسلام في مقامه الأول، الذي قام فيه قبل هبوطه، وهذا هو المتعين، وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى.
الثالث: كون المعراج قبل البعثة، وقد مرَّ الجواب عنه في تفسير، ويمكن الجواب عنه بأنه لعله أراد أن يقول: بعد أن أوحي إليه، فقال: قبل أن يوحى إليه، أو بان القَبلية هنا في أمر مخصوص وليست مطلقة، واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلًا، أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به، ويؤيده قوله في حديث الزُّهري "فرج سقف بيتي".
الرابع: أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السموات، وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم، وقد وافقه الزُّهري في بعض ما ذكر، كما مرَّ.
الخامس: كونه منامًا، وقد سبق الجواب عنه.
السادس: مخالفته في محل سدرة المنتهى، وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلَّا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما مرَّ.
السابع: مخالفته في النهرين، وهما النيل والفرات، وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة، وأنهما من تحت سدرة المنتهى.
الثامن: شق الصدر عند الإسراء، وقد وافقته رواية غيره كما مرَّ عن مالك بن صعصعة.
التاسع: ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة كما مرَّ.
العاشر: تصريحه بان امتناعه عليه الصلاة والسلام من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف، كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة.
الحادي عشر: رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى، عليه السلام، أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس، فقال له: استحييت من ربّي.
الثاني عشر: ذكره أنه جيء بطَسْت من ذهب فيه تَور من ذهب، وهذا يقتضي أنه غرِ الطَّسْت، وأنه كان داخل الطست، فإن كانت هذه الزيادة محفوظة، احتمل أن يكون أحدهما فيه ماء زمزم، والآخر هو المحشو بالإِيمان، واحتمل أن يكون التَّوْر ظرف الماء وغيره. والطَّسْت لما يصب فيه عند الْغَسْل صيانة له عن التبدد في الأرض، وجريًا له على العادة في الطست، وما يوضع فيه الماء.
هذا تحرير ما قيل في رواية شريك، ولم يبق من مباحث المعراج إلَّا بحث الرؤية، وقد أخرج المؤلف بعد حديث المعراج في السيرة النبوية، عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، في قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين أُرِيَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى بيت المقدس. وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال إن الإسراء كان في المنام، ومن قال إنه كان في اليقظة، فالأول أخذ من لفظ الرؤيا قال: لأن هذا اللفظ مخصوص برؤيا المنام. قلت: هذا مردود بثبوت الرؤيا في كلام العرب لرؤية العين في اليقظة، كما في قول الراعي يصف صيادًا عند رؤيته للصيد.
وكبر للرؤيا وهش فؤاده
…
وبشر قلبًا كان جمًّا بلابله
وقال الواحديّ: إنها رؤية اليقظة ليلًا فقط، ومن قال بالثاني، فمن قوله أُرِيها ليلة الإسراء، والإسراء إنما كان في اليقظة؛ لأنه لو كان منامًا ما كذبه الكفّار فيه، ولا فيما هو أبعد منه، كما مرَّ تقريره. وإذا كان ذلك في اليقظة، وكان المعراج في تلك الليلة، تعينَ أن يكون في اليقظة أيضًا إذ لم يقل أحد أنه نام لما وصل إلى بيت المقدس، ثم عرج به وهو نائم، وإذا كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]. ورؤيا العين فقال {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17، 18].
وروى الطبرانيّ في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه مرتين. وأخرج النَّسائيّ بإسناد صحيح، وصححه الحاكم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟ وفي رواية "والنظر". وأخرجه ابن خُزيمة بلفظ "إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة
…
الحديث"، وأخرج ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس "هل رأى محمد ربه؟ " فأرسل إليه "أن نعم". وأخرج مسلم عن ابن عباس في قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 11، 13]. قال: رأى ربه بفؤاده مرتين، وله عن عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه.
وأصرح من هذا ما أخرجه ابن مردويه عن عطاء أيضًا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه، إنما رآه بقلبه، وإذا تقرر هذا ظهر أن مرادَ ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة، جميعُ ما ذكره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من الأشياء التي مرَّ ذكرها. وفي هذا رد لمن قال المراد بالرؤيا في هذه الآية، رؤياه صلى الله عليه وسلم، أنه دخل المسجد الحرام المشار إليه بقوله تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]. قال: هذا القائل، والمراد بقوله "فتنة للناس" ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخوله المسجد
الحرام، وهذا وإن كان يمكن أن يكون مراد الآية، لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى.
قال في الفتح: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، يعني الأخبار المذكورة. وممن قال بإثبات الرؤية مع ابن عباس جميع أصحابه، ورواه عبد الرزاق عن الحسن أنه حلف أن محمدًا رأى ربه، وأخرج ابن خزيمة عن عُروة بن الزبير إثباتها، وأنه كان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وجزم به كعب الأحبار والزُّهريّ وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه.
واختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه، وعن أحمد كالقولين كما يأتي، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس أن محمدًا رآى ربه، وذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها، واختلف عن أبي ذرٍّ، أما عائشة فقد أخرج البخاريّ عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: يا أُمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قَفّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثهن فقد كذب؟ من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأي ربه فقد كذب، ثم قرأت {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
…
الخ} [الشورى: 51]. استدلت عائشة علي ما ذهبت إليه من نفي الرؤية بدليلين: الأول هو نفي الإدراك لله تعالى المذكور في الآية، جاعلة الإدراك والرؤية بمعنى، والدليل الثاني الآية الثانية، وتقرير الاستدلال بها هو أنه سبحانه وتعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه، وهي الوحي بان يلقي في رَوعه ما يشاء، أويكلمه بواسطة من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولًا فيبلغه عنه، فيستلزم ذلك انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم.
والجواب عن هذا أن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقًا، قاله القرطبيّ. قال: وعامة ما يقتضي نفي تكليم الله تعالى على غير هذه الأحوال الثلاثة، فيجوز أن التكليم لم يقع حالة الرؤية، والدليل الأول قال فيه النوويّ، تبعًا لغيره: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما
اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته ما ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابيّ إذا قال قولًا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقًا. والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية.
وتبع في جزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع ابن خزيمة، فإنه قال في كتاب التوحيد، من صحيحه: النفي لا يوجب علمًا، ولم تحك عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم ير ربه، وإنما تأولت الآية، وهذا عجيب منها، فقد ثبت ذلك في صحيح مسلم عن مسروق في الطريق المذكورة، قال مسروق: وكنت متكئًا فجلست، وقلت: ألم يقل الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فقالت: أنا أوّل هذه الأمّة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إنما هو جبريل، وأخرجه ابن مردويه عن داود بهذا الإسناد، فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: لا، إنما رأيت جبريل منهبطًا.
نعم احتجاج عائشهَ بالآية المذكورة خالفها فيه ابن عباس، فقد أخرج الترمذيّ عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه؟ قلت: أليس الله يقول {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قال: ويحك، ذلك إذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين، وحاصله أن المراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه، لا نفي أصل رؤياه، وإنما ساغ العدول عن ظاهر الآية، لصحة الأخبار بثبوت الرؤية.
وقال القرطبي: الأبصار في الآية جمع على بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعًا في قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فيكون المراد الكفار، بدليل قوله في الآية الأخرى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]. قال: وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا، لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرثي، وهو استدلال جيّد. وقال عياض: رؤية الله سبحانه وتعالى جائز عقلًا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأما في الدنيا فقال
مالك: إنما لم يُرَ سبحانه في الدنيا، لأنه باقٍ، والباقي لا يُرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة، ورزقوا أبصارًا باقية، رأوا الباقي بالباقي.
قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلَّا من حيث القدرة، فإذا أقدر الله من شاء من عباده عليها، لم تمتنع، ووقع عند مسلم عن أبي أمامة، رفعه، ما يؤيد هذه التفرقة "اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وأخرجه ابن خُزيمة من حديث ابن أبي أُمامة وعبادة بن الصامت، فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلًا، فقد امتنعت سمعًا، لكن من أثبتها للنبي عليه الصلاة والسلام، له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه، وله أن يقول أيضًا: إن رؤيته عليه الصلاة والسلام لربه تعالى في العالم العلويّ، ليست من الرؤية الدنيوية.
ويمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا به على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خُلقت في قلبه، كما يخلق الرؤية بالعين لغيره. والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يرى من خلفه كما يرى من أمامه.
وأما ابن مسعود فقد أخرج البخاريّ عنه في قوله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وقوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قال: إنه رأى جبريل له ست مئة جناح، وزاد عاصم في هذا الحديث كما أخرجه النسائي وابن مردويه "يتناثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت". والتهاويل الألوان المختلفة وزينة التصاوير والنقوش والحلي. والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى، أي جبريل إلى عبده، أي عبد الله محمد، لأنه يرى أن الذي دنا فتدلى جبريلُ، وأنه هو الذي أوحى إلى محمد، وكلام
المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى محمد عبده. ومنهم من قال: إلى جبريل.
وقاب قوسين، أي قدر قوسين عربيتين. وقال قتادة: القاب من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المَقْبض. وقيل: هو ما بين المقبض والطرف، ولكل قوس قابان، فاصل الكلام: فكان قابي قوسٍ، فهو على القلب.
وأما أبو ذر، فعند مسلم من حديثه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: نورٌ أنّى أَراه، بفتح، الهمزة بمعنى كيف، وهمزة أراه وفي رواية: نعد أنّى أُراه، بفتح النون وضم همزة أراه، وعند أحمد عنه قال: رأيت نورًا، وعند ابن خزيمة عنه قال: رآه بقلبه، ولم يره بعينه، وبهذا يتبين مراد أبي ذرٍّ بذكره النور، أي أن النور حال بين رؤيته له ببصره، لا أن الله تعالى نور، حاشاه من ذلك؛ لأنّ النور عرض من الأعراض. ورجح القرطبي في "المفهم" قول الوقف في هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقوّاه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل. قال: وليست المسألة من العمليات، فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات، فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعيّ، وجنح ابن خُزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات، وأطنب في الاستدلال له، يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين: مرة بعينه، ومرة بقلبه. وفيما أوردناه من ذلك مقنع.
وممن أثبت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم الإِمام أحمد، فروى الخلال في كتاب السنة له عن المروزيّ قال: قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية، فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي، قول النبي عليه الصلاة والسلام أكبر من قولها. وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس "بعينه رآه" رآه حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد بن حنبل، وقد أنكر صاحب الهدى على من زعم أن أحمد قال رأى ربه بعيني رأسه، وهذا من تصرف الحاكي، فإن
نصوصه موجودة، قلت: ما قاله صاحب الهدى يرده ما مرَّ عن المروزيّ من إنكاره قول عائشة، فإن عائشة نافية لرؤيته عليه الصلاة والسلام لربه بعيني رأسه، وإنكار أحمد عليها صريح في أنه قائل بأنه رآه بعيني رأسه. وقوله: إن نصوصه موجودة، أي نص له أقوى من نقل الخلال عن المروزيّ، فلا اعتداد بإنكار صاحب الهدى، هذا ملخص ما حرروه في الإسراء والمعراج.