الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والعشرون
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ، وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ". فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ فَأَعْمَرَنِي مِنَ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي نَسَكْتُ.
قوله: "قالت: أهلَلْتُ" أي: أحرمتُ ورفعتُ صوتي بالتَّلْبِية، وأصل الإهلال رفع الصوت؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتَّلْبِية عند الإِحرام، ثم أُطلق على نفس الإحرام اتِّساعًا.
وقوله: "فكنت ممَّن تمتّع ولم يَسُقِ الهَدْيَ" أي: بفتح الهاء وسكون المهملة وتخفيف الياء، أو بكسر المهملة مع تشديد الياء، اسم لما يُهْدى بمكة من الأنعام، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، لأن الأصل أن تقول: ممن تمتعت. لكن ذُكر باعتبار مَن.
وقوله: "حتى دَخَلَتْ ليلةُ عرفة" فيه دِلالة على أن حيضها كان خمسة أيام خاصة؛ لأن دخوله عليه الصلاة والسلام مكة كان في الخامس من ذي الحجة، فحاضت يومئذ، فطهُرت يوم النحر بِمنى.
ويدل على أن حيضها كان عند القدوم، قولها في حديث الأسود الآتي في الحج:"فلما قدِمْنا تَطَوَّفْنا بالبيت" إلى أن قالت: "فحِضْتُ، فلم أطُف
بالبيت". وقالت في رواية القاسم: "حتى قدِمْنا مِنى، فطَهُرْتُ ثم خرجت من مِنى، فأفضْتُ بالبيت"، فالجميع يدل على أن مدة حيضها كان خمسة أيام، لأنها حاضت يوم القدوم في الخامس، وطهُرت يوم النحر يوم مِنى كما دلت عليه الروايات المذكورة.
وقوله: "يا رسول الله هذه ليلة عرفة"، وفي نسخة:"هذا ليلة عرفة" أي: هذا الوقت، ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي:"يوم عرفة".
وقوله: "وإنما كنتُ تمتعتُ بعُمرة" أي: وأنا حائض، وفيه تصريح بما تضمنَّهُ التمتُع؛ لأنه إحرام في أشهر الحج ممن على مسافة القصر من الحرم، ثم يُهِلُّ بالحج في تلك السنة. قال الله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وكونه على مسافة القصر ليس شرطًا في التمتع عند المالكية.
وقوله: "انَقُضي رأسك" بضم القاف، أي حُلّي ضَفْرَهُ.
وقوله: "وأمسكي عن عُمرِتك" بقطع الهمزة، أي: اتركي العمل في العمرة وإتمامها، وأَدْخِلي عليها الحجَّ، فليس المرادُ الخروجَ منها، فإن الحجَّ والعمرة لا يُخْرَجُ منهما إلا بالتَّحَلُّل، وحينئذ فتكون قارِنة. ويؤيده قوله في رواية لمسلم أيضًا:"وأمسكي عن العمرة" أي: عن أعمالها.
وإنما قالت عائشة: "وأرجِعُ بحجٍّ"، لاعتقادها أن افراد العُمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين.
واستُبْعِد هذا، لقولها في رواية عطاء عنها:"وأرجعُ أنا بحجَّةٍ ليس معها عُمرة" أخرجه أحمد.
وتمسَّكَ الكوفيون بهذه الرواية على أن عائشة تركت العُمرة، وحجَّت مُفردة، وفي هذه الرواية ضَعْف، وتمسَّكوا أيضًا بقولها في الرواية الأخرى:"دعي عُمرتك"، وفي رواية:"ارفضي عُمرتك"، فقالوا: إن للمرأة إذا أهلَّت بالعُمرة متمتِّعة، فحاضت قبل أن تطوف، أن تترك العمرة، وتُهِلَّ بالحجِّ مفردًا،
كما فعلت عائشة على ظاهر رواية عطاء المارّة، المارُّ أنها ضعيفة.
والرافع للإِشكال ما رواه مسلم عن جابر: "أن عائشة أهلَّت بعُمرة، حتى إذا كانت بسَرِف حاضت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أهِلّي بالحجِّ. حتى إذا طَهُرت، طافت بالكعبة وسعت، فقال: قد حَلَلْتِ من حجِّك وعُمرتك. قالت: يا رسول الله: إني أجد في نفسي أني لم أطُف بالبيتِ حتى حجَجْتُ. فأعمرها من التَّنْعيم".
ولمسلم عن طاووس عنها: "فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: طوافُكِ يسعُك لحجِّك وعُمرتك"، فهذا صريح في أنها كانت قارِنة، لقوله:"قد حللتِ من حجِّك وعُمرتك"، وإنما أعمرها من التَّنْعيم تطييبًا لخاطرها، لكونها لم تطُف بالبيت حين دخلت معتمِرةً، وقد وقع عن مسلم:"وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا سَهْلًا، إذا هَوَتْ شيئًا تابَعَها عليه".
وقال عِياض وغيره: الصواب في الجمع بين الروايات المختلفة عن عائشة أنها أحْرَمَتْ بالحجِّ كما هو ظاهرُ إحدى روايتي القاسم وغيره عنها، ثم فسخته في العمرة لما فسخ الصحابة، وعلى هذا تنزَّل قولُ عُروة عنها:"أحرمتُ بعُمرة".
فلما حاضت وتعذَّر عليها التحلُّل من العمرة لأجل الحيض، وجاء وقت الخروج إلى الحجِّ أدخلتِ الحجَّ على العُمرة، فصارت قارِنة، واستمرَّت إلى أن تحلَّلت، وعليه يدُلُّ قولُه لها في رواية طاووس عنها عند مسلم المارة:"طوافُك يسعُكِ لحجِّك وعُمرتك".
وأما قوله لها: "هذه مكانَ عُمرتك"، فمعناه: العمرة المنفردة التي حَصَلَ منها التحلُّل بمكة، ثم أنشؤوا الحجَّ منفِردًا، فعلى هذا، فقد حصل لعائشة عمرتان.
وكذا قولها: "يرجِعُ الناس بحجٍّ وعُمرة، وأرجِع بحجٍ" أي: يرجِعون بحجٍّ منفردٍ وعُمرة منفردة.
قال الداودي: ليس في الحديث دليل على الترجمة؛ لأن أَمْرَها بالامتِشاط كان للإهلال وهي حائِض، لا عند غُسلها.
والجواب: أن الإهلال بالحجِّ يقتضي الاغتسال؛ لأنه من سُنّة الإِحرام، وقد وَرَدَ الأمر بالاغتسال صريحًا في هذه القصة، فيما أخرجه مسلم عن جابر، ولفظه:"فاغْتَسِلي ثم أهِلّي بالحج"، فكأن البخاريَّ جرى على عادته في الإشارة إلى ما تضفّنه بعضُ طرق الحديث، وإن لم يكن منصوصًا فيما ساقه.
ويحتمل أن يكون الداودي أراد بقوله السابق: لا عند غسلها. أي: من الحيض، ولم يُرِد نفيَ الاغتسال مطلقًا.
والحامل له على ذلك ما في "الصحيحين" أن عائشة إنما طَهُرت من حيضها يوم النَّحْر، فلم تغتسل يوم عرفة إلا للإحرام. وأما ما وَقَعَ في مسلم عنها أنها حاضَتْ بسَرِف، وتطهَّرَتْ بعَرَفَة، فهو محمول على غُسل الإحرام، جمعًا بين الراويتين. وإذا ثبت أن غسلها إذا ذاك كان للإحرام، استُفيد معنى الترجمة من دليل الخطاب؛ لأنها إذا جاز لها الامتشاط في غُسل الإحرام، وهو مندوب، كان جوازُه لغُسل المحيض، وهو واجب، أولى.
قلت: ما ذُكِر هنا من أنها حاضت بسَرِف، لا يُنافي ما مرَّ من أن حيضَها كان يوم القدوم، لإمكان دخولِها يوم صبَاحها بِسَرِف، فيكون الحيضُ حصل بِسَرِفٍ يوم الدخول.
وقوله: "ففعلتُ" أي: النقضُ والامتشاط والإمساك.
وقوله: "أمر عبدَ الرحمن" يعني: ابن أبي بكر الصديق:
وقوله: "ليلة الحَصْبَة" أي: بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الموحدة، هي الليلة التي نزلوا فيها في المحصب، وهو المكان الذي نزلوه بعد النَّفْر من مِنى خارج مكة.
وقوله: "من التَّنْعيم" موضع على فرسخٍ من مكة، فيه مسجد عائشة.