الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والعشرون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ:"لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ".
قوله: أُهدِي، بضم أوله من الإهداء، والذي أهداه هو أُكَيدر بن عبد الملك، صاحب دومة الجندل. وقوله: كالكاره له، وفي حديث جابر عند مسلم "صلى في قَباء ديباج، ثم نزعه وقال: نهاني عنه جبريل" فالنهي سبب نزعه له، وذلك ابتداء تحريمه. وقوله: لا ينبغي هذا، يحتمل أن تكون الإشارة اللبس وتحتمل أن تكون للحرير، فيتناول غير اللبس من الاستعمال كالافتراش، ويأتي الكلام عليه قريبًا إن شاء الله تعالى. ورجَّح عياض أن المنع فيه لكونه حريرًا، واستدل لذلك بحديث جابر المار قريبًا.
وقوله: للمتقين، يحتمل أن يكون نزعه لكونه كان حريرًا صرفًا، ويمكن أن يكون نزعه لكونه من جنس الأعاجم، فقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي عمر، رفعه "من تشبه بقوم فهو منهم" والتردد مبني على تفسير المراد بالمتقين، فإن كان المراد مطلق المؤمن حُمِل على الأول، وإنْ كان المراد به قدرًا زائدًا على ذلك، حمل على الثاني. وقد قال القرطبي في "المفهم": المراد بالمتقين المؤمنون الذين خافوا الله تعالى، واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له. وقال غيره: لعل هذا من باب التهيج للمكلف على الأخذ بذلك؛ لأن من سمع أنَّ مَن فعل ذلك كان غير متقٍ، فهم منه لا يفعله إلا المستحق، فيأنف من فعل ذلك، لئلا يوصف بأنه غير متقٍ. وقد استوفينا الكلام على التقوى ومراتبها في آخر حديث من كتاب الإِيمان استيفاء لا مزيد عليه.
واستدل به على تحريم الحرير للرجال دون النساء؛ لأن اللفظ لا يتناولهن على الراجح ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورودُ الأدلة الصريحة على إباحته لهن، فقد أخرج أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبّان والحاكم، عن عليّ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا وذهبًا وقال: هذان حرامان على ذكور أمتي، حلٌّ لإناثهم". وأخرج أحمد والطحاويّ، وصححه عن مسلمة بن مَخْلَد أنه قال لعُقْبة بن عامر: قم فحدث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعته يقول: "الذهب والحرير حرامٌ على ذكور أمتي، حِلٌّ لإِناثهم" فتحريمه على الرجال وحله للنساء هو الذي انعقد عليه الإِجماع بعد ابن الزبير ومن وافقه، وقد نقل عن علي وابن عمر وابن الزبير وأبي موسى وحذيفة، وعن الحسن وابن سيرين حرمتُه حتى على النساء، وقال قوم: يجوز لبسه مطلقًا، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خُيَلاء أو على التنزيه، وهذا الثاني ساقط كثبوت الوعيد على لبسه. وقد أخرج البخاريّ عن ابن الزبير عن عمر رفعه "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" زاد ابن الزبير "ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة" قال الله تعالى {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]. وأخرج النَّسائي مثله عن ابن عمر، وأخرج النَّسائيّ وأحمد، وصححه الحاكم عن أبي سعيد "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وأعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع، كالتوبة والحسنات التي توازن، والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا إشفاعه من يأذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين.
وفيه حجة لمن أجاز لبس العَلَم من الحرير إذا كان في الثوب، وخصه بالقدر المذكور، وهو أربع أصابع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وفيه حجة على من أجاز العَلَم مطلقًا، ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية، وفيه حجة على منع العلم في الثوب مطلقًا، وهو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعًا، وإلّا فالحديث حجة عليهم، فلعله لم يبلغهم.
قال النووي: وقد نقل عن مالك، وهو قول مردود، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير، واستدل به على جواز لبس الثوب المطرز بالحرير، وهو ما جعل عليه طراز حرير مركب، وكذلك المُطرَّف وهو ما سُجّفت أطرافه بسجف من حرير بالتقدير المذكور، وقد يكون التطريز في نفس الثوب بعد النسج، وفيه احتمال، واستدل به أيضًا على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم، سواء كان ذلك القدر مجموعًا أو مفرقًا وهو قوي.
واختلف في علة تحريم الحرير على الرجال على رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني لكونه ثوب رفاهية وزينة، فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال، ويحتمل علة ثالثة، وهي التشبه بالمشركين، وهذا قد رجع إلى الأول لأنه من سمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبرين، إلَّا أن المعنى الثاني لا يقتضي التحريم؛ لأن الشافعي قال في الأم: ولا أكره لباس اللؤلؤ إلّا للأدب، فإنه زيُّ النساء، واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء، فإنه يقتضي منع ما كان مخصوصًا بالنساء في جنسه وهيأته. وذكر بعضهم علة أخرى، وهي السَّرَف قال ابن أبي جمرة: إن قلنا إن تخصيص النهي للرجال لحكمة، فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين، فلطف بهن في إباحته، ولأن تزيينهن غالبًا إنما هو للأزواج. وقد ورد أن حُسْن التَّبَعُّل من الإيمان.
قال: ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث، ودل الحديث على أن الصبيان لا يحرم عليهم لبسه؛ لأنهم لا يوصفون بالتقوى، وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعكسه عند الحنابلة. وفي وجه ثالث يمنع بعد التمييز، وعند المالكية المذهبُ أنه يكره كراهة تنزيه، للوليّ أن يلبسه الذهب والحرير، ويجوز له إلباسه الفضة.
وقسمت المالكية الحرير إلى ثلاثة أقسام: قسم يجوز باتفاق، وهو الراية في الجهاد، وقسم حرام إجماعًا وهو الخالص منه للرجل البالغ، وقسم مختلف
فيه، والمشهور فيه المنع وهو أربعة أشياء: لبسه في الجهاد لإرهاب العدو، أو للاتكاء عليه، والارتفاق، أو للافتراش أو للحكة، وقد أخرج البخاري أنه عليه الصلاة والسلام رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما. وقال الطبري: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبسُ الحرير، ويلتحق بذلك ما يقي من الحر والبرد، حيث لا يوجد غيره، وخص بعض الشافعية الجوازَ بالسفر دون الحضر، واختاره ابن الصلاح، وخصه النوويّ في "الروضة" مع ذلك بالحكة، ونقله الرافعي في القمل أيضًا.
وفي وجه للشافعية أن الرخصة خاصة بالزبير وعبد الرحمن، وأما الافتراش فقد أخرج فيه البخاريّ عن حذيفة "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه" وأخرج ابن وهب في جامعه عن سعد بن أبي وقاص "لأن أجلس على جمر الغَضا أحبُّ إليّ من أن أقعد على مجلس من حرير" والحديث حجة قوية لمن قال يمنع الجلوس على الحرير. وهو قول الجمهور خلافًا لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية. وبه قال الحنفية، وأجاب الحنفية عن الحديث بأن لفظ "نهى" ليس صريحًا في التحريم، وبعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس، لا عن الجلوس بمفرده.
واستدل الجمهور بحديث أنس "فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس، ولأن ليس كل شيء بحسبه" واستدل بالحديث المذكور على منع افتراش النساء للحرير، وهو ضعيف؛ لأن خطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح، ولعل الذي قال بالمنع تمسك فيه بالقياس على منع استعمالهن آنية الذهب، مع جواز لبسهن الحلي منه، فكذلك يجوز لبسهن الحرير، ويمنعن من استعماله، وهذا الوجه صححه الرافعيّ، وصحح النوويُّ الجواز، واستدل به أيضًا على منع افتراش الرجل الحرير مع امرأته في فراشها، ووجهه المجيز لذلك من المالكية بأن المرأة فراش الرجل، فلَما جاز له أن يفترشها وعليها