الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يؤديها، وهو بطلب أخرى. ومرَّ بقوم تقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قرضت عادت. قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ومرَّ بثور عظيم يخرج من ثقب صغير، يريد أن يرجع فلا يستطيع. قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم، فيريد أن يردها فلا يستطيع.
وفي حديث أبي أُمامة عند الطبراني في الأوسط أنه مرَّ بقوم مشافرهم كالإبل، يلتقمون حجرًا فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال له: هؤلاء أكلة أموال اليتامى، وأنه مرَّ بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خَرَّ، وأنّ جبريل قال له هم آكلوا الرّبا.
رجاله ستة:
مروا جميعًا، مرَّ يحيى بن بكير والليث بن سعد وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ يونس بن يزيد في الرابع منه، ومرَّ أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو ذر في الثالث والعشرين منه.
لطائف إسناده:
فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول. ورواته ما بين مصريّ ومدنيّ، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الحج مختصرًا عن عبدان، وفي بدء الخلق عن هُدْبة بن خالد، وفي الأنبياء عن عبدان أيضًا، وفي باب قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} في أواخر الكتاب عن عبد العزيز بن عبد الله، ومسلم في الإِيمان عن حَرْمُلة وغيره، والتِّرمذيّ في التفسير عن محمد بن بشار، والنَّسائيّ في الصلاة عن يعقوب بن إبراهيم الدورقيّ، وقد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، لكن طرقه في الصحيحين دائرة على أنس مع اختلاف أصحابه عنه.
قال المصنف: قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا هبة الأنصاريّ كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ثم عُرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام". قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ففرض الله
على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال: ما فرض الله لك على أمّتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال موسى: فأرجع إلى ربك فإنّ أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها. قال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمّتك لا تطيق ذلك، فراجعته فقال: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لديّ، فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك، فقلت: استحيت من ربيّ ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أُدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك".
قوله: حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، ظهرت أي ارتفعت، والمستوى أي المصعد، وصريف الأقلام، بفتح الصاد المهملة، تصويتها حالة الكتابة، والمراد ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى. وقوله: قال ابن حزم وأنس بن مالك: يعني ابن حزم عن شيخه، وأنسًا عن أبي ذَرٍّ كما جزم به أصحاب الاصراف. ويحتمل أن يكون مرسلًا من جهة ابن حزم، ومن رواية أنس بلا واسطة. وقوله: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: ففرض الله في خمسين صلاة كل يوم وليلة، ونحوه في رواية مالك بن صعصعة عند المصنف، فيحتمل أن يقال في كل من رواية الباب والرواية الأخرى اختصارًا، ويقال ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة وبالعكس، إلَّا ما استثني من خصائصه. وقوله: فراجعني، وللكشميهنيّ "فراجعت" والمعنى واحد.
وقوله: فوضع شطرها، في رواية مالك بن صعصعة: فوضع عني عشرًا، ومثله لشريك، وفي رواية ثابت "فحط عني خمسًا" قال ابن المنير: ذكر الشطر أعم، كونه وقع دفعة واحدة، وكذا العَشر، فكأنه وضع العشر في دفعتين، والشطر في خمس دفعات، أو المراد بالشطر في حديث الباب البعض، وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمسًا خمسًا. وهي زيادة معتمدة، يتعين
حمل باقي الروايات عليها. وأما قول الكرمانيّ: الشطر هو النصف، ففي المراجعة الأولى وضع خمسًا وعشرين، وفي الثانية ثلاثة عشر، أي نصف الخمسة والعشرين بجبر الكسر، وفي الثانية سبعًا، كذا قال. وليس في حديث الباب في المراجعة الثالثة ذكرُ وضع شيء إلَّا أنْ يقال: حَذَف ذلك اختصارًا، فيتجه. لكن الجمع بين الروايات يأبى هذا الحمل، فالمعتمد ما تقدم. وقوله: هن خمس وهن خمسون، وفي رواية غير أبي ذرٍّ هي خمس، بدل هنّ في الموضعين، والمراد هنّ خمس عددًا باعتبار الفعل، وخمسون اعتدادًا بالثواب. وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم "حتى قال: يا محمد، هن خمس صلوات في كل يوم وليلة، كل صلاة عشرة، فتلك خمسون صلاة، "ومن هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة
…
" الحديث المار الكلام عليه في الإِيمان.
وعند النَّسائي من رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس: وأتيت سِدرة المنتهى فغشيتني ضبابة فخررت ساجدًا، فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك، فذكر مراجعته مع موسى، وفيه فإنه فرض علي بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما، وقال في آخره: فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. قال: فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى فقال لي: ارجع فلم أرجع. واستدل به على عدم فرضيته ما زاد على الصلوات الخمس كالوتر، وعلى دخول النسخ في الإِنشاآت ولو كانت مؤكدة خلافًا لقوم فيما آكد، وعلى جواز النسخ قبل الفعل. قال ابن بطال: ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس؟ قيل: إن تُصلى ثم تفضل عليهم بان أكمل لهم الثواب. وتعقبه ابن المنير فقال: هذا ذَكره طوائف من الأصوليين والشراح، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة، أو منعه كالمعتزلة، لكؤلهم اتفقوا جميعًا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ، وحديث الإِسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، وهو مشكل عليهم جميعًا. قال في الفتح: إنْ أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ للأمة فَمُسَلّم، لكن قد يقال: ليس هو بالنسبة إليهم نسخًا، لكنه نسخ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كُلِّف بذلك قطعًا، ثم نسخ بعد أن بلغه، فالمسألة صحيحة
التصوير في حقه عليه الصلاة والسلام.
وقوله: لا يبدل القول لديّ، أي بمساواة ثواب الخمس الخمسين، أو لا يبدل القضاء المبرم، لا المعلن، الذي يمحو الله منه ما يشاء ويثبت. وقوله: فقلت استحيتُ من ربي، في رواية مالك بيع صعصعة زيادة، ولكن أرضى وأُسَلّم. وفي رواية الكشميهنيّ "ولكني أرضى وأُسَلّم" وفيه حذف تقديره: سألت ربي حتى استحيت، فلا أرجع، فإني إن رجعت صرتُ غير راض ولا مُسَلّم، ولكني راض وأُسَلّم. وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبرانيّ والبزار، قال عليه الصلاة والسلام: كان موسى أشدهم على حين مررت به، وخيرهم لي حين رجعت إليه. وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعًا فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، وقد سألني كم فرَض عليك ربك
…
الحديث".
وقال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، فلذلك بكى رحمة لأمته. وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي عليه الصلاة والسلام في أمر الصلاة، لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك. ويشير إليه قوله: إنّي جرّبت الناس قبلك، وفي رواية: إني بلوت بني إسرائيل. وقال غيره: لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أكبر، ولا أجمع للأحكام من كتابه، فكان من هذه الجهة مضاهيًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أنْ يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم الله به عليه، من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له، وينصحه فيما يتعلق به.
ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه الأسف في الابتداء على نقص حظ أمته، بالنسبة لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، حتى تمنى ما تمنى، استدرك ذلك ببذل النصيحة لهم، والشفقة عليهم، ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. وذكر السهيليّ أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته
صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية مَنْ هو منهم، وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة، من مراعاة جانب النبي عليه الصلاة والسلام أنه أمسك عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم، أدبًا معه وحسن عِشرة. فلما فارقه بكى وقال ما قال.
وأما قول من قال: إنه أوّل من لاقاه بعد الهبوط، فليس بصحيح؛ لأن حديث مالك بن صعصعة فيه أنه لقيه في السماء السادسة، وهو الأقوى، وإبراهيم قبله في السابعة، وإذا جمعنا بينهما بأنه لقيه في السادسة عند الصعود، وصعد موسى إلى السابعة فلقيه فيها بعد الهبوط، ارتفع الإِشكال وبطل الرد المذكور. وأبدى بعض الشيوخ حكمة لاختيار موسى تكرير ترداد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لما كان موسى قد سأل الرؤية فمنع، وعرف أنها حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام، قَصَد بتكرير رجوعه تكرير رؤيته، ليرى من رأى، كما قيل لعلي أراهم، أو أرى من رآهم، لكن هذا يحتاج إلى ثبوت تجدد الرؤية في كل مرة.
وأبدى ابن المنير حكمة لطيفة في قوله صلى الله عليه وسلم، لموسى عليه السلام، لما أمره أن يرجع بعد أن صارت خمسًا فقال: استحييت من ربي، قال ابن المنير: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم تفرّس من كون التخفيف وقع خمسًا خمسًا أنه لو سأل التخفيف بعد أن صارت خمسًا لكان سائلًا في رفعها، فلذلك استحيا، ودلت مراجعته عليه الصلاة والسلام لربه، في طلب التخفيف تلك المرات كلها، أنه علم أن الأمر في كل مرة لم يكن على سبيل الإلزام، بخلاف المرة الأخيرة، ففيها ما يشعر بذلك، لقوله سبحانه وتعالى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29].
ويحتمل أن يكون سبب الاستحياء هو أن العَشْرة، يعني من السؤال، آخر جمع القلة، وأول جمع الكثرة، فخشي إذا وصلها أن يدخل في الإلحاح في السؤال، لكن الإِلحاح في الطلب من الله مطلوبٌ، فكأنه خشي من عدم القيام بالشكر.
وقوله: ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا
أدري ما هي، وفي حديث ابن مسعود عند مسلم زيادة: قال الله تعالى {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، قال فَراش: من ذهب ففسر المبهم في قوله "ما يغشى" بالفَراش. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس: جراد من ذهب. قال البيضاويّ: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأنّ من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها، وإضاءتها في نفسها. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة، وتخلق فيه الطيران والقدرة صالحة لذلك. وفي حديث أبي سعيد وابن عباس "يغشاها الملائكة" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي "على كل ورقة منها مَلَك" وعند مسلم من رواية ثابت عن أنس "فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها".
وعند ابن مردويه من رواية حميد عن أنس نحوه، لكن قال "تغيرت ياقوتًا ونحو ذلك" وفي رواية مالك بن صعصعة "ثم رُفعتُ إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قِلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" وقوله: رُفعت، بضم الراء وسكون العين وضم التاء ضمير المتكلم، وبعده حرف جر. وللكشميهني: رُفِعَتْ لي بسكون التاء، أي السدرة، لي باللام، أي من أجلي، ويجمع بين الروايتين بان المراد أنه رفع إليها ارْتُقِيَ به، وظهرت له. والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه. وقد قيل في قوله تعالى {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] تقرب إليهم. ووقع بيان تسميتها سدرة المنتهى في حديث ابن مسعود عند مسلم، ولفظه "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انتهي بي إلى سدرة المُنتهى، وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط، فيقبض منها".
وقال النوويّ: سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود المتقدم، وحديث ابن مسعود مرفوع صحيح ثابت في الصحيح، فهو أولى بالاعتماد. وأورده النوويّ بصيغة التمريض، فقال: وحكي عن ابن مسعود أنها سميت
بذلك
…
الخ، فأشعر بضعفه عنده، ولاسيما ولم يصرح برفعه، وهذا متعقَّب عليه.
وقال القرطبيُّ في المُفهم: ظاهر حديث أنس أنها في السابعة، لقوله بعد ذكر السماء السابعة "ثم ذهب بي إلى السدرة" وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارضٌ لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل، وكل ملك مقرب، على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيبٌ لا يعلمه إلَّا الله، ومن أعلمه به. وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء. قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوعٌ، وحديث ابن مسعود موقوف. كذا قال. وقد مرَّ لك قريبًا أن حديث ابن مسعود مرفوع أيضًا، ويمكن الجمع بينهما بأن قول ابن مسعود إنها في السادسة لا يعارض ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلَّا أصل ساقها.
وقوله: فإذا نَبْقها، بفتح النون وكسر الموحدة ويجوز سكونها، والأول هو الثابت في الرواية، والنبق معروف وهو ثمر السدر. وقوله: مثل قِلال هجر، القلال بالكسر، جمع قُلة بالضم، وهي الجرار. يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال. وكانت معروفة عند المخاطبين، فلذلك وقع التمثيل بها، وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله "إذا وقع الماء قُلَّتين" وهَجَر، بفتح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للعلمية والتأنيث، وتجوز الصرف، وهي قرية قرب المدينة، إليها تنسب القلال، أو تنسب إلى هَجَر اليمن. وقوله: مثل آذان الفيلة، بكسر الفاء وفتح التحتانية بعدها لام، جمع فيل، ووقع في بدء الخلق مثل آذان الفُيُول، وهو جمع فيل أيضًا.
قال ابن دَحية: اختيرت السدرة دون غيرها فيها ثلاثة أصناف: ظل ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة ذكية، فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنية، والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول. وفي
رواية مالك بن صعصعة: "وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات"، وفي بدء الخلق: فإذا في أصلها، أي في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار. ولمسلم: يخرج من أصلها، وفي مسلم أيضًا عن أبي هريرة: أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسَيْحان وجَيْحان.
وقوله: فنهران في الجنة، قال ابن أبي جمرة فيه: إن الباطن أجلّ من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء. ومن ثَمّ كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال عليه. الصلاة والسلام "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". وقوله: فالنيل والفرات، أي بالمثناة في الخط في حالتي الوصل والوقف في القراآت المشهورة، وجاء في قراءة شاذة إنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه. وفي رواية شريك الآتية في التوحيد، أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطَّردان، فقال جبريل: هما النيل والفرات، عنصرهما. والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعُنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا، كذا قيل. وفي حديث شريك أيضًا. ومضى به يرقى السماء، فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزَبَرجد، فضرب بيده فإذا هو مِسْكٌ أَذْفَر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خَبّأ لك ربك.
وفي رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس عند ابن أبي حاتم: أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خُضْر أنعم طيرٍ رأيت. قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على رَضْرَاض من الياقوت والزُّمرد، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، فأخذت من آنية، فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك. وفي حديث أبي سعيد: فإذا فيها عينٌ تجري، يقالَ لها السَّلْسبيل،
فينشقّ منها نهران: أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة، فيمكن أن يفسر بها النهران الباطنان المذكوران في حديث مالك بن صعصعة، وكذا روي عن مقاتل، قال: الباطنان السلسبيل والكوثر.
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ "سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة" فلا يغاير هذا، لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان المذكوران في الحديث، فهما غير سيحون وجيحون.
قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر، فليعتمد. وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لكونه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهذا متعقَّب، فإنَّ المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، كما مرَّ قريبًا، ولو كان الأمر كذلك لَرُئيَتِ السدرةُ عند محل خروجهما، والحاصل أن أصلها في الجنة، وهما يخرجان أولاً من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض، ثم ينبعان.
واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات، لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان. قال القرطبيّ لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلًا برأسهما، وإنما يتفرعان عن النيل والفرات. قال: وقيل إنما أُطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيهًا لها بأنهار الجنة، لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة. والأول هو المعتمد. وفي رواية مالك بن صعصعة "ثم رُفع لي البيتُ المعمور" وقد مرَّ الكلام عليه مستوفى عند ذكر ترتيب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، في السموات. وفي رواية مالك المذكورة "ثم أُتيتُ بإناء من
خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها" أي دين الإِسلام.
قال القرطبيّ: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة، لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه. والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره، كونه كان مالوفأ له، ولأنه لا ينشأ من جنسه مَفْسدة. ووقع في هذه الرواية أن إتيانه بالآنية كان بعد وصوله إلى سدرة المنتهى. وسيأتي في الأشربة عن شُعبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رُفِعت لي سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهار
…
، فذكره، قال:"وأُتيتُ بثلاثة أقداح" وهذا موافق للحديث المذكور، إلَّا أن شعبة لم يذكر مالك بن صعصعة في الإسناد، وعند ابن عائذ عن أبي هريرة في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال:"ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداها، فهذا هو عسَل فشربت منه قليلًا، ثم تناولت الآخر، فهذا هو لبن فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت. قال: وفقك الله".
وفي رواية البزار من هذا الوجه الثالث كان خمرًا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل، وعند أحمد عن ابن عباس "فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن
…
الحديث". وعند مسلم عن ثابت عن أنس أيضًا أنّ إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ولفظه "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، ثم أخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة، ثم عَرج إلى السماء". وفي حديث شدّاد بن أوس "فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخدني من العطش أشد ما أخذني، فأُتيتُ بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يديّ لجبريل: أخذ صاحبك الفِطرة.
وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق "فصلى بهم، يعني الأنبياء، ثم أُتي بثلاثه آنية، إناء فيه لبن واناء فيه خمر وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن
…
الحديث". وفي مرسل الحسن عنده، لكن لم يذكر إناء الماء، ووقع بيان عرض الآنية في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند المصنف، كما يأتي في أول الأشربة، ولفظه "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به بإيلياء، بإناء فيه خمر وإناء فيه لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غَوَت أمتك" وهو عند مسلم عن أنس وعند البيهقي "فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك".
ويجمع بين هذا الاختلاف إما يحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وأما الاختلاف في عدد الأنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية، فيها أربعة أشياء، ومن الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى.
وفي حديث أبي هريرة عند الطبريّ لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسنٍ، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى. فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء سيحان. وقوله: ثم دخلت الجنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، كذا وقع لجميع الرواة في هذا الموضع بالحاء المهملة ثم الموحدة وبعد الألف تحتانية ثم لام، وذكر كثير من الأئمة أنه تصحيف، وإنما هو جنابذ، بالجيم والنون وبعد الألف موحدة ثم ذال معجمة، كما عند المصنف في أحاديث الأنبياء، وعند غيره من الأئمة. وفي نسخة معتمدة من رواية أبي ذرٍّ في هذا الموضع "جنابذ" على الصواب، ولعلها