الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال: قال أبو عبد الله: صبأ خرج من دين إلى غيره، وهذه في رواية المستملي وحده، ووقع في نسخة الصغانيّ: صبأ فلان انخلع، وكذلك أصبأ، والمراد بأبي عبد الله البخاريُّ نفسه. ثم قال: وقال أبو العالية: الصابئين فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور، وهذا أيضًا في رواية المستملي وحده، ووقع في نسخة الصغاني: أصبُ أمِل، وقيل: هم منسوبون إلى صابىء بن متوشلح عم نوح عليه السلام. وروى ابن مردويه بإسناد حسن عن ابن عباس قال: الصابؤن ليس لهم كتاب. وقال البيضاويّ: الصابئين قوم بين النصارى والمجوس. وقيل: أصل دينهم دين نوح. وقيل لهم عبدة الملائكة، وقيل: عَبَدة الكواكب.
وإنما أورد المصنف هذا هنا ليبين الفرق بين الصابي المروي في الحديث، والصابىء المنسوب لهذه الطائفة المذكورة. قلت: يحتمل عندي، وهو الظاهر، أنّ البخاريّ أتى بهذا قاصدًا تفسير اللفظ المذكور في الحديث، لما تدل عليه نسخة الصغانيّ. وهذا التعليق وصله ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس عنه. وأبو العالية المراد به الرَّيَّاحيّ، وقد مرَّ في تعاليق الثاني من كتاب العلم. ثم قال
باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم
قوله: المرض، أي المتلف وغيره، كزيادته ونحو ذلك، كشين في عضو. وقوله: أو خاف العطش، أي لحيوان محترم من نفسه أو رقبته، ولو في المستقبل، أو غير ذلك من كل محترم. وقوله: تيمم، وللأصيليّ وابن عساكر يتيمم، أي مع وجود الماء. ثم قال: ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة، وتلا {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف. هذا التعليق رواه أبو داود والحاكم عن يحيى من أيوب موصولًا بلفظ "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذاتِ السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت فصليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت
…
" فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً، وروياه عن عمرو بن الحارث وقال في القصة "فغسل مغابنه وتوضأ" ولم يقل "وتيمم" وقال فيه "لو اغتسلت مت". وذكر أبو داود أنّ الأوزاعيّ روى عن حسّان بن عطية هذه القصة، فقال فيها: فتيمم، ورواها عبد الرزاق من وجه آخر ولم يذكر التيمم، والسياق الأول أليق بمراد المؤلف، وإسناده قويّ، لكنه علقه بصيغة التمريض لكونه اختصره. وقال البيهقيّ: يمكن الجمع بين الروايات بأنه توضأ ثم تيمم عن الباقي. قال النوويّ هو متعين، ووجه استدلاله بالآية ظاهر من سياق اللفظ الذي ذكرناه، وقد أوهم ظاهر سياقه أن عمرو بن العاص تلا الآية لأصحابه وهو جنب، وليس كذلك، وإنما تلاها بعد أن رجع للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمّره على غزوة ذات السلاسل، كما يأتي في المغازي إن شاء الله تعالى.
وقوله: فلم يعنف، بحذف المفعول للعلم به، أي لم يَلُم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرًا، فكان ذلك تقريرًا دالًا على الجواز. وفي رواية الكشميهنيّ: فلم يعنفه، بزيادة هاء الضمير. وفي هذا الحديث جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاكَ، سواء كان لأجل بردٍ أو غيره. وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين، وجواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم.
وعمرو هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي القرشيّ السَّهميّ، يكنى أبا عبد الله، ويقال أبو محمد. وأمه النابغة بنت حَرْمُلة، سُبيتْ من بني جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وأخوه لأمه عمرو بن أُثاثَة العَدَويّ. كان من مهاجرة الحبشة، وعقبة بن نافع بن عبد القيس، وزينب بنت عفيف بن أبي العاص أُم هؤلاء وأُم عمرو واحدة، وهي بنت حَرْمُلة المذكورة. ذكروا أنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرًا عن أمه، وهو على المنبر، قال: فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة، تلقب النابغة من بني عنزة، ثم أحد بني جلان، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، اشتراها الفاكِه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جُدَعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت له فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخذه.
والصحيح أن إسلامه كان في صفر سنة ثمان، قدم هو وخالد بن الوليد وطلحة بن عثمان مسلمين، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليهم قال:"قد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها" وكان قدومهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين بين الحُديبية وخيبر. قيل: إنه لم يأت من أرض النجاشيّ إلَّا معتقد الإِسلام، وذلك أنّ النجاشيّ قال له: يا عمرو كيف يَعْزُب عندك أمر ابن عمك؟ فوالله إنه لرسول الله حقًا. قال: أنت نقول ذلك؟ قال: إيْ والله، فأظعن فخرج من عنده مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الزبير بن بكار أن رجلًا قال لعمرو: ما أبطاكَ عن الإِسلام وأنت أنت في عقلك؟ قال: إنّا كنا مع قوم لهم علينا تقدم، وكانوا ممن يوازي خلوبهم الخبال، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنكروا عليه، فلذنا بهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا هو حق بَيِّن، فوقع في قلبي الإِسلام، فعرفت ذلك قريش مني من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إليّ رجلًا منهم، فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهدى. قلت: فنحن أوسع عيشًا أم هم؟ قال: هم، قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم إن لم يكن لنا فضل إلَّا في الدنيا، وهم أعظم منا فيها أمرًا في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي أنّ الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت ليُجزي المحسن بإحسانه، والمُسيء بإساءته حق، ولا خير في التمادي في الباطل.
وروي عن عمرو بن إسحاق قال: استأذن جعفر بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم. في التوجه إلى الحبشة، فأذن له. قال عُمير: فحدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيت مكانه قلت: والله لأستقلنَّ لهذا وأصحابه، فذكر قصتهم مع النجاشيّ قال: فلقيت جعفر، فذهب معي خاليًا فاسلمت قال: وبلغ ذلك أصحابي فغنموني وسلبوني كل شيء، فذهبت إلى جعفر، فذهب معي إلى النجاشيّ، فردوا عليّ بكل شيء أخذوه.
ولما أسلم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقربه ويدنيه، لمعرفته وشجاعته، وأمَّره على
غزوة ذات السلاسل، وقال له:"يا عمرو، إني أريد أن أبعثك في جيش يُسلمك الله ويُغْنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة، فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإِسلام. قال: يا عمرو، نعم المال الصالح للرجل الصالح" فبعثه إلى أخوال أبيه العاص بن وائل من بَلِيّ يدعوهم إلى الإِسلام في ثلاث مئة، فسار حتى إذا كان بماء بأرض جُذام يقال له السلاسل، وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، خاف، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فأمده بمئتي فارس من المهاجرين والأنصار وأهل الشرف، فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمَّر عليهم أبا عُبيدة، فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وإنما أنتم حدوي. وقال أبو عبيدة: بل أنت أمير من معك، وأنا أمير من معي، فأبى عمرو، فقال أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليّ إذا قدمتَ إلى عمرو فتطاوعا ولا تختلفا، فإن خالفتني أطعتك. قال عمرو: فإني أخالفك، فسلّم له أبو عبيدة، وصلى خلفه في الجيش كله، وكانوا خمس مئة.
وكان عمرو أحد الدهاة المقومين في المكر والرأي والدهاء، وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا استضعف رجلًا في رأيه وعقله يقول: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد، وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى عمرو يمشي قال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلَّا أميرًا. وقال قُبيصة بن جابر: صحبت عمرو بن العاص فما وجدت رجلًا أبْينَ قرآنًا، ولا أكرم خُلُقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه. وأخرج عن طلحة، أحد العَشْرة، رفعه:"عمرو بن العاص من صالحي قريش".
ورجال سنده ثقات، وأخرج أحمد أيضًا والنَّسائيّ بسند حسن عن عمرو بن العاص قال: فزع أهل المدينة فزعًا فتفرقوا فنظرت إلى سالم مولى أبي حُذيفة في المسجد، عليه سيف مختفيًا ففعلت مثل فعله، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لا يكون فزعكم إلى الله ورسوله إلا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان". وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات، إلى ابن أبي مليكة مرفوعًا "نعم أهل البيت
عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله، وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية، مذكور بذلك فيهم، وكان شاعرًا حسن الشعر، ومن شعره في أبيات له يخاطب عمارة بن الوليد عند النجاشيّ:
إذا المرءُ لم يترك طعامًا يحبه
…
ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمما
قضى وطرًا منه وغادر سبةً
…
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عُمان، ولم يزل عليها حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وولاه عمر بن الخطاب بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطينَ والأُردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعيد بن عامر بن خزيم حمص، ثم جمع الشام كلها إلى معاوية، وكتب إلى عمرو بن العاص فسار إلى مصر فافتتحها، فقتل المقاتلة، وسبي الذرية، ولم يزل عليها واليًا حتى مات عمر، فأقره عثمان عليها أربع سنين أو نحوها، ثم عزله عنها وولاها عبد الله بن سعد العامري.
وفي سنة خمس وعشرين انتفضت الإسكندربة، فافتتحها عمرو بن العاص، فقتل المقاتلة وسبي الذرية، فأمر عثمان برد السبي الذين سَبُوا من القرى إلى مواضعهم، للعهد الذي كان لهم، ولم يصح عنده نقضهم، وعزل عمرو بن العاص، وولى سعيد بن أبي سرح العامريّ، وكان ذلك بدء الشّرّ بين عمرو وعثمان، فاعتزل عمرو في ناحية فلسطين، وكان يأتي المدينة أحيانًا، ويطعن في خلال ذلك على عثمان، فلما قُتل عثمان سار إلى معاوية باستجلاب معاوية له، وشهد صفين معه، وكان منه بصفين وفي التحكيم ما هو عند أهل العلم بأيام الناس معلوم، ثم ولاه مصر، فلم يزل أميرًا عليها إلى أن مات بها، يوم الفطر سنة ثلاث وأربعين، وقيل سنة ست، وقيل سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، والأول أصح. وكان له يوم مات تسعون سنة، وقيل: تسعة وتسعون. ويقال: عاش بعد عمر عشرين سنة. وكان يقول: أذكر ليلة ولد عمر، كان عمره لما ولد عمر سبع سنين.
ولما حضرته الوفاة قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأْتمر، وزجرتني فلم أنزجر، ووضع يده في موضع الغُل وقال: اللهم لا قويّ فانتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا
مستكبر بل مستغفِر، لا إله إلَّا أنت، فلم يزل يرددها حتى مات. وروي عن الشافعيّ قال: دخل عبد الله بن عباس على عمرو بن العاص في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت وقد أصلحتُ دنيايَ قليلًا وأفسدت من ديني كثيرًا، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت، لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبتُ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، ففطني بفطنة أنتفع بها يا ابن أخي. فقال ابن عباس: هيهاتَ يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا تشاء أن تبكي إلَّا بكيت، كيف يوم يرحل من هو مقيم؟ فقال عمرو: وعلى حبها من حين ابن بضع وثمانين سنة، تقنطني من رحمة ربي، اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى. فقال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله، أخذت جديدًا، وتعطي خَلَقًا، فقال عمرو: وما لي ولك يا ابن عباس؟ ما أرسل كلمةً إلا أرسلت نقيضها. وعن عبد الرحمن بن شَمّاسة قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاةُ بكى، فقال ابنه عبد الله: لم تبكي أجزعًا من الموت؟ فقال: لا ولكن لما بعده. فقال له: قد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتوحه الشام. فقال له عمرو: تركت أفضل من ذلك، شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاث أطباق ليس منها طبق إلَّا عرفت نفسي فيه، كنت أول شيء كافرًا، فكنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو مت يومئذ وجبت لي النار، فلما بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم-كنت أشد الناس حياءًا منه، فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءًا منه، فلو مت يومئذ قال الناسُ: هنيئًا لعمرو، أسلم وكان على خير، ومات على خير، وأحواله فترجى له الجنة، ثم بليت بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري أعَليّ أم لي، فإذا مت فلا تبكي عليّ باكية، ولا يتبعني مادح ولا نار، وشدوا عليّ إزاري، فإني مخاصم، وشنوا عليّ الترابَ شنًّا، فإن جنبي الأيمن ليس باحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرًا، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدرَ نحر جَزور، أستأنس بكم.
له تسعة وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بطرف حديث، ومسلم بحديثين. روى عنه ولداه عبد الله ومحمد، وقيس بن حازم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو قيس مولى عمرو، وعبد الرحمن بن شماسة، وأبو عثمان النهديّ وقُبيصة بن ذُؤيب، وآخرون.